رحل منذ أيام قليلة الكاتب الأميركي إي إل دوكتورو عقب عقود مديدة أمضاها في خدمة الأدب والحياة الأكاديمية، حتى أن الرئيس الأميركي أوباما أشاد به بوصفه "الأفضل بعد شكسبير". جدّد الراحل الرواية التاريخية، رغم اعتراضه المحموم على هذه التسمية، وكان يقول عن نفسه "أرى نفسي كاتبا قوميا، إنني روائي أميركي أكتب عن بلدي"، وأسبغ عليه من الواقعية مثلما أسبغه عليه من الخيال. العرب هالة صلاح الدين إي إل دوكتورو أضمر في ذاكرته من مآسي التاريخ الأميركي ما لا يطيقه جبل رحل الكاتب الأميركي إي إل دوكتورو بعد عطاء تواصل لمدة نصف قرن، أنتج اثنتي عشرة رواية وثلاث مجموعات قصصية ومسرحية واحدة لا غير. ولأنه كان مهموما حتى النخاع بقضايا حرية التعبير في العالم أجمع من خلال انخراطه في مركز "بين" الأميركي، كتب عددا لا يحصى من المقالات النقدية والسياسية المناهضة للتطرف والسلطوية. إيقاع التاريخ نسج دوكتورو رواية "راجتايم" (1975) -ومن أجلها صار لتعبير "الرواية الأميركية العظيمة" ما يبرره- بنثر واعٍ اجتماعيا، راصدا اضطرابات سياسية مزلزلة واكبت مستهل القرن العشرين. تتراجع الرواية عقودا إلى عام 1902 حين تجاور، الباب لصق الباب، من طبّقت شهرتهم الآفاق ومَن أخذوا بأسباب حياة مبتذلة من شخصيات الطبقة الوسطى، من اليهود وغير يهود. وفي تمرده على قوالب الأسلوب الجامدة، ضاهى نثر دوكتورو موسيقى الأميركي هاري هوديني، موسيقى جاز شهيرة عزَفها في الرواية على البيانو، وتسمى بالراجتايم. كان الروائي جون أبدايك قد وصف كتابات دوكتورو، ولا سيما رواية "بيلي باثجيت" بأنها "حافلة باللعب مع الدمى الميتة البائسة، محوّلة الرواية التاريخية إلى لعبة بها شيء من السادية، لا أثر فيها للوقار أو الرصانة". فالقاتل هاري ثو يتعرى في "راجتايم" يقرع قضبان الزنزانة قرعا بقضيبه، والشاهد على هذا المشهد الخليع هو الموسيقي هوديني، بينما تخلع إيما جولدمان ملابس إيفيلين سيئة السمعة وتدلك جسدها في مشهد بمنتهى الشبق. وفي رواية "معرض العالَم" (1985) التي تحكي جانبا من سيرة دوكتورو الذاتية، يتحرش أوسكار، الأخطبوط العاشق، بنساء عاريات تحت الماء. دوكتورو أسقط على أبطاله نماذج من التاريخ لم تكن حبكات دوكتورو التقليدية أقل جذبا للانتباه أو إثارة للجدل. فقد أسقط على أبطاله من المجرمين الأغنياء والفقراء المتشددين المعدمين والرجال المتحولين جنسيا على مضض نماذج من التاريخ، ما جعلهم يرتكبون فعلات ويقومون بأشياء ما كانت لتخطر لهم على بال. سوف يجد القارئ في أدبه التقليدي متع الحبكات الدرامية المباغتة والشخصيات المتلونة العميقة. كتب ذات مرة قصة طويلة، "ويكفيلد" (2008)، تكاد تكون أقصوصة، دون أن تضمّ حقا أي تجديد على مستوى التكنيك غير أنها انطوت على رؤية ثاقبة للحياة المعاصرة الزائفة. لدينا رجل محترم بالمعنى المجتمعي للكلمة، ينعم بوظيفة يحسَد عليها، وأسرة وبذلة تكسو جسده. ومع فقدان الثقة في الناس والجدوى من الحياة انزلق طواعية وعن طيب خاطر -عبر مشاهد مقنعة واقعية غاصت بنا في غياهب عقله-ليصبح متشردا مهلهل الملبس، يقتات من الزبالة. وفي القصة تخلّى دوكتورو، مثله مثل الكاتب البريطاني ديفيد كونستنتاين، عن علامات التنصيص، "لو أنك تعلَم ما تفعله، وتكتب ما هو واجب منك، لن تضطرّ إلى إضافة علامات التنصيص، وسيعلم القارئ مَن المتحدث". ناقش دوكتورو أعقد القضايا التاريخية جدلا في التاريخ الأميركي، مستلهما كتابات المؤرخ العسكري الأميركي مارك جريمزلي، ومنها مسيرة طويلة قادها الجنرال ويليام شيرمان في الشهور الأخيرة من الحرب الأهلية الأميركية في رواية "المسيرة" (2005). تلَت مسيرةَ الجنود هذه مسيرةٌ أخرى قام بها عشرات الآلاف من العبيد المحرّرين. يقول المؤلف على لسان شيرمان، "الحرب وحشية، وليس بوسعك تهذيبها". أيحارب الشماليون، وعلى رأسهم الرئيس لينكولن، لتحقيق النصر التام أم يسعون إلى السلام على مائدة المفاوضات، مهددين حرية العبيد المعتقين؟ "سوف يهزموننا، وإن لم يجِد جديدٌ، سوف يهزموننا شرّ هزيمة". والهزيمة لا تتجسد حقا في ما أخفقوا في هدمه، وإنما في ما أخفقوا في تشييده. ولكن السحر ينقلب على الساحر في النهاية وتتبدل الأدوار والمصائر، ليرسم دوكتورو الصراع على الأرض، "صليل الأحصنة ورائحتها... شحوب الممرضات وتوجسهن، لحظات ما قبل الطوفان". حين تلقى دوكتورو جائزة "بين- سول بيلو" للإنجاز في الأدب الأميركي، حدّد الكاتب دون ديللو شغف دوكتورو الأساسي بأنه "مدى الإمكانيات الأميركية، وفيها تضطلع الحيوات العادية بضبط إيقاع التاريخ". وهو ما نشهده في "المسيرة"، فصورها تبرق تباعا من وجهات نظر متصارعة يستعصي التوفيق بينها، بدءا من اللواءات والموسيقيين إلى سجناء الحرب والنجارين، "إنه عالَم طاف، بلا ماض يذْكَر قبل الحرب، حضارة مقتلعة من جذورها". دوكتورو استعاد الطيف الكامل لمفارقات المجتمع الأميركي نلتقي في الرواية بشخصيات ترغب في هدم الجنوب القديم وبآخرين يرومون إحياء الشمال كواحة لمحو العبودية. وليس من المستغرب أن تتخلل الفصول ما يشبه الندوات الفكرية عن العبودية وفك الأسر. وما أنقذ الأمة من الاستقطاب السياسي الأبدي أن سحقت الحرب الجنوبيين ونالت من عزيمتهم، فخلوا من كل فتوة، ولم يجدِ معهم الإقناع حتى أنهم طلبوا السلام كما يستجدي العطشان الماء. آيلة للسقوط أضمر دوكتورو في ذاكرته من مآسي التاريخ الأميركي ما لا يطيقه جبل، وآمن بعبقرية التجربة الأميركية وبتفرّد مهاجريها بكل ما بذلوه من تحديات خلال العقود الطويلة. في مجموعته القصصية "قصص الأرض الحلوة" (2004)، تنتثر مشاهد السحل والقتل ودماء الموتى بين الصفحة والأخرى. وفيها يقف الكاتب بوعي جريء على الظلمة الإنسانية، وينسجها نسجا غامضا بقضايا أمته الأخلاقية والمعنوية. وعندما جرّب دوكتورو كتابة أجواء معاصرة مثلما جرى في رواية "مدينة الله" (2000)، عجز على ما يبدو عن مجاراة الحاضر أو احتماله، فنزع إلى التجريب الحداثي والفانتازيا الجامحة، فكانت الكتابة لديه شكلا مقبولا من أشكال الشيزوفرينيا. خاض دوكتورو كذلك في الجريمة المنظّمة، واستعاد الطيف الكامل لمفارقات المجتمع الأميركي الاجتماعية، غطرسة المذنب، جشع الإقطاعي، غباء الأميركي راعي البقر وهو يتدبر بعين التحامل والبغضاء العرق والطبقة الاجتماعية. وفي أدبه الراقي كشف عن ضراوة حرب، شنّها الأهل على الأهل، على خلفية من كبش فداء تلو الآخر، مستغلا لغة تنطق بطموحات عهد التحرر وقوانين جديدة تناهض التميز. كان الناقد الأميركي فريدريك جيمسون قد توّجه بلقب "الشاعر الملحمي لتوارٍ راديكالي وصم ماضي أميركا". وهو ما يتبدّى في رواية "كتاب دانيال" التي أطلعنا دوكتورو فيها على محاكمة تخيلية متعاطفة للجاسوسين الأميركيين جوليوس روزينبرج وزوجته إيثيل اللذين أُعدما لتسريب أسرار القنبلة الذرية للاتحاد السوفيتي إبان الحرب الباردة. دوكتورو لم يكرر أبدا ذاته كان دوكتورو يحمل اسم إدغار لشغف والديه الروس اليهود بالقاص الأميركي إدغار ألان بو، إلا أنه لم يكف في كل مناسبة عن انتقاد الرجل، واصفا إياه بالكاتب الرديء. حامل جائزة مكتبة الكونغرس للأدب الأميركي كان أشد خلق الله تواضعا، "سوف تهدّئ الجائزة قليلا إحساسا بالشك في نفسي ككاتب". ومع كل خطوة روائية خطاها دوكتورو لم يكرر أبدا ذاته. وأية رواية لدوكتورو لا تشبه التالية لها أو السابقة عليها. فكل كتاب نجح في توليد لغته المتفردة الحتمية، "كان عليّ أن أحدد ما أكره في الأدب كي أقع على ما أحبه". ظهرت نبرته في أغلب روايته التاريخية متأرجحة بين ما أطلق عليه "الحقيقة الملحة" والتلاعب الأدبي. تقنياته متداخلة كالشبكة، وبناه تبدو للقارئ وكأنها آيلة للسقوط، وعلى القارئ حمايتها وإعادة تشييدها عقليا وتاريخيا. أمّا منبع قوة هذا الكاتب فيكمن ولا ريب في اختياره الثورة الجمالية -شبه التصحيحية- على النصوص القديمة منهجا، بدافع من رغبة عارمة ساورته في الانقضاض على الشكل الأدبي، وإعادة بنائه، ما جعله أشدّ جرأة. "تجلس كي تكتب الأدب، فتكتشف أنك غير قادر على الكتابة مثلما كتب الأولون في القرن التاسع عشر، مستحيل، إنها غاية في الملل". وإن ما وقع عليه الكاتب خلال مسيرته التواقة إلى الجديد هو فكرة غاية في البساطة "ينبغي أن ينبذ المؤلف قالبا أدبيا كي يعثر على آخر يستحق".