هنالك من يبحث عن هويته في اللغة، وهنالك من يبحث عنها في الأرض، وهنالك من يحفر في تضاريس الأصدقاء ليكتشف بعدها في يومياتهم. الشاعر وحده من يجد في هويته كل هؤلاء فيتقاسم معهم قلقه وأسئلته ووجوده متخذا من اللغة معبرا للآخرين. عبدالله بيلا واحد من أولئك الشعراء المشغولين بجمالهم الخاص وسط ضجيج الهويات وارتباكاتها. "العرب" كان لها معه هذا اللقاء. العرب زكي الصدير بعد مجموعته الأولى "تآويل ترابية" الصادرة عام 2012 تقدّم الشاعر السعودي البوركيني عبدالله بيلا مؤخرا لقرائه بمجموعته الثانية "صباح مرمّم بالنجوم" عبر دار الانتشار بالتعاون مع نادي أبها الأدبي راصدا من خلال سبعة عشر نصا شعريا لأسئلته الوجودية المتعلّقة بالهوية وبالشعر وبالعالم، وراسما من خلال صوره الشعرية الحميمة عوالمه الثائرة المتوارية وراء شاعر هادئ. يقول بيلا عن مجموعته الأخيرة: هي مغامرة أخرى ارتكبتها مع سبق الإصرار والترصّد بعد مغامرة مجموعتي الشعرية الأولى، فقد حاولت تأويل التراب ومعرفة كنهه وألغازه وأسراره، وبدا ذلك الأمر عسيرا للغاية، وهنا أحاول ترميم صباحي الأعمى بالنجوم علّه يجد السبيل إليه بعد طول الغربة والتشظي، ولأنها مغامرة محسوبة فقد آثرت أن أرفد هذه المجموعةَ الشعرية ببعض نصوصي الأثيرة لدي والتي يمكن اعتبارها تمثل تجربة مختلفة في سياقها الزمني والفكري. سؤال الهوية عبدالله بيلا المولود في مكةالمكرمة (عام 1981)، والمنحدر من أصول أفريقية (بوركينا فاسو) يقف أمام سؤال الهوية بقلق مضاعف، ويتخيّر أرضه التي يقف عليها بصلابة لا تقبل الانحناء، فهو يقسّم عوالمه بين أرض خبرها عاشها هو، وتاريخ عاشه أسلافه، لكنه يتخيّر بين عالميه الاثنين العالم الوجودي والهوية الكونية الجامعة. ويرى بيلا أن مصطلح الهوية متّسع وضبابي وغامض. يحدثنا بيلا عن ذلك قائلا "سؤال الهوية يفترعني بفأسه إلى نصفين، نصف يتمسك بهوية الأرض والنشأة واللغة وآخر يشدني إلى الجذور والمنابت الأولى حيث يجري نسغ الآباء والأجداد، ومع أنني لم أزر دولتي (بوركينا فاسو) أبدا، ولم أطلع على ملامحها الحقيقية عن قرب، إلاّ أنّ هناك شغفا حقيقيا بها وبكل ما يمت إليها بصلة، خاصة من الناحية الثقافية (الفرنكوفونية)، والتي وللأسف الشديد أظل مقصرا في التعاطي معها بشكل مباشر لفقداني عامل التواصل الأهم وهو اللغة، وأظن أنّ طقوس الحياة الأفريقية تتسلل إلى النص الأدبي الأفريقي بشكل عام، وأنني كأفريقي سأكتب متأثرا بهذه الطقوس سواء بوعي منّي أم دون وعي". دولة بوركينا فاسو المستلقية بصمت في الغرب الأفريقي يتحدث سكانها عدة لغات، فبالإضافة إلى العربية هنالك المورية والديولا والأمازيغية. وتعدّ الفرنسية اللغة الرسمية للتخاطب والمعاملات الحكومية. يجيب بيلا على سؤال حول أثر هذا التنوّع اللغوي على المثقف بصفة عامة وعلى نصه بشكل خاص: يظهر الدور الخطير للغة الفرنسية في تأسيس أجيال أكثر انفتاحا وتسامحا مع العالم، بينما تأتي اللغات المحلية في المرتبة الثانية من حيث الأهمية، ولكنها بالنسبة إلي هي الأهم لأنها لغات الشعوب بكل بدائيتها وصفائها، خاصة في مجتمع شفاهي يعتمد على نقل سيره ومورثاته الثقافية بالمشافهة، ولم يكن نصيبي جيدا من تعلم اللهجات المحلية، عدا لهجة "الموري" وقد تعلمتها عن طريق والدي كما تعلمها جميع إخوتي، وكنا نستقي منه الكثير من القصص والأغاني والأهازيج الشعبية، وتظل علاقتي بهذه اللهجة علاقة وطن وثقافة". ينعكس سؤال الوطن والهوية في تفاصيل تجربة بيلا الشعرية، ويتبدّى ذلك جليا في تلك النصوص التي تقف موازية للغة وللوطن العربي/ الأفريقي. تلك الثنائية التي تنبت على شفة القصيدة لديه. يقول بيلا: يظل سؤال الوطن والهوية والانتماء مشكلا وجوديا وحالة تصبح أكثر تعقيدا كلما حاولت تبسيطها. لكن في المقابل تبرز الهوية الكونية الإنسانية المتعالية على كل الهويات كهوية أفضل وأقدر على استيعاب الجميع. شاعر يرمّم صباحه بالنجوم خراف مهضومة يرى بيلا أن مصطلح الحداثة قد يكون مقاربا لمصطلح الجرأة، ولكنها تلك الجرأة التي لا تتوسل بالوقاحة كي تسفر عن نفسها، ويوضح ذلك بقوله "إنّ كل مشتغل على النص الحديث يدرك أنّ الإطار لم يعد ذا قيمة حقيقية -وإن كان يعضد النص أحيانا- إزاء الفكرة وطريقة التعاطي معها لإبرازها في شكل وصورة يمكن لها تجاوز القديم، وأصعب من كتابة النص الحديث هو فهم الحداثة بشكل عام، والحداثة الأدبية الإبداعية خصوصا، وأزعم أنني أحاول فهم الحداثة عبر دراستها وفهم مراميها وطرائق المبدعين الكبار فيها، وما اختطوه لأنفسهم من سبل لم تُطرَق من قبل، ومحاولة كهذه تحبو وتكبو وتظهر في بعض نصوصي التفعيلية التي أحاول فيها إيجاد هيولى النص قبل صورته، مع الإشارة إلى أنّ بعض الإبداعات النثرية تفوق الكثير من الإبداع التفعيلي، ولكنّ الثقافة الغالبة هي ثقافة الشكل والموسيقى". يقول الشاعر: لا يمكن رؤية العالم من جهة واحدة، أقصد تلك الجهة التي تشرق منها الشمس، بينما نغض عن الجهة المعتمة والشديدة الحلكة، والوجود بحد ذاته كتلة هائلة من الأحزان تتدحرج منذ الأزل ومازالت تنمو وتزداد في سرعتها طامرة من تحتها كل لحظات السعادة المؤقتة، الحروب تعصف بكل العالم، وهناك أكثر من ستين مليون لاجئ، ويكادُ العالمُ الثالث يموتُ تحت وطأة الجفاف والجوع، كل هذا إن لم يستطع تأجيل مواسم الفرح في النص الشعري فإنّ هذا النص مشكوك في صدقيته، للأسف صباحاتنا أشدّ ظلاما من مساءاتنا، نتشبث بماضينا أكثر من حاضرنا، أما المستقبل فلا يمكن التنبؤ به، نعم هناك بعض اللحظات السعيدة التي تستحق أن يكتبها الشاعر، وأظن أن غيري يكتبون الكثير من هذا الشعر الذي يجمِّل قبح العالم ويحاول إطالة أمد الأمل فيه، بينما يقودني النص إلى أجوائه ولا أجدني قادرا على مفارقتها إلى غيرها، كل هذا الخراب الكبير يقول بأنّ الحياة لم ولن تكون عادلة أبدا". في ظلال نص بيلا الشعري يحضر آباء للشعر العربي القديم والحديث. غير أن محمود درويش يحضر في منطقة مشعة لا يمكن مواراتها. خصوصا في سؤال الموت. يعلّق بيلا على ذلك قائلا: يقول بول فاليري: "الأسد ليس إلاّ بضعة خراف مهضومة"، هذا القول ينسحب على التجارب الشعرية بشكل عام، وكل تجربة هي عصارة مجموعة كبيرة من التجارب التي مرّ عليها الشاعر، ولذلك لا أجد ما يدعوني إلى إنكار وجود درويش وغيره من الآباء الشعريين في نصوصي الشعرية، وأزعم أنني حاولت أن أخرج كثيرا من عباءة درويش تحديدا لكونه الحاضر الأكثر والأعمق، ربما لتعدد قراءاتي لأعمال درويش الكاملة وتأثري الكبير بدرويش ما بعد الجدارية الذي أصبح أكثر إنسانية وأقدر على فهم أنّ بمقدور الحياة أن تستوعبنا جميعا، وتجربة الجدارية التي تفاعلت مع الموتِ بطريقة غير مسبوقة ربما رفدتني بأسئلة أخرى أحب أن أواجه بها الموت، رغم أنه لا يجيب عن أسئلتنا أبدا، ويبدو أنّ كثيرا من شعراء التفعيلة قد تورطوا بحق في الصبغة الدرويشية، ولكنها كما أظن ورطة مؤقتة لن تدوم كثيرا.