جملة مِفتاحية فى تقديرى المتواضع قبل أن نبحث عن الإجابة للسؤال أعلاه فى المؤتمرات الصحفية التى يعقدها طرفا المشكلة (الدولة، داؤود)؛ والتى يكون فيها الطرفان مُعْتَدَيْنِ بآرائهما، دعونا نبحث عن هذه المشكلة فى أرينة الإقتصاد السياسى. ونُذكِّر القارئَ الكريم، بأنَّ رجوعنا للتحليل من وجهة نظر الإقتصاد السياسى يجعلنا ندرك على وجه الدقة لماذا يذهب هذا الجانب إلى وجهة النظر هذى دون الأخرى، خاصة وأننا نعانى من ظاهرة وجود إقتصادَيْن: الإقتصاد السودانى (Sudan Economy)، والإقتصاد الطفيلى الموازى (Ultra-parasitic economy) الذى له قوانينه الخاصة به، وذلك يعنى إنعدام الشفافية وأنَّ علينا أن نستخلص المعلومة الحقيقية من بين فرثِ ودَمِ هذه الظاهرة الغريبة ديناً وخُلُقاً ومن وجهة نظر توحيد السياسات. متن 1- كما ذكرنا فى مقالات سابقة، فإنَّ الإنقاذ سرقتْ أكثر من 250 مليار دولار من عائدات البترول (والذهب)، الذى موَّلته من مصدرين لا ثالث لهما، هما إستقطاع 50% من مخصَّصات قطاعى التعليم والصحة، والباقى من تحويلات السودانيين العاملين بالخارج. وهذه الأموال تُدار خارج الدورة الإقتصادية للبلد (لصالح الأخوانوية المرجوسة)، وبعضها، حوالى 110 مليار دولار، قد تمَّ تهريبه للخارج عن طريق غسيل الأموال. هذه الأموال المسروقة لا تقوى الدولة اللِّصَّة (لجُبنها وشُحِّها) على إعادة إستثمارها فى الداخل السودانى (As a reproducible capital)، ولم تتركها بالمصارف حتى يستطيع المستثمرون الجادُّون توظيفها لجهة تطوير الإقتصاد القومى (50% من نقود السودان خارج الجهاز المصرفى - راجع مقالنا: المحددات الدالة على كِبَر حجم الإقتصاد الموازى فى السودان، الراكوبة)، وإنمَّا تمَّ إستثمار أغلب هذه الأموال بالخارج: بماليزيا، بقطر، بالأمارات، بأثيوبيا وبغيرها. وبالمقابل فُتِحَتْ البلد لكلِّ أهلِ الأرض (خاصةً الأخوانويين)، ومن بين هؤلاء مستر داوود الذى جمَّل بإستثماراته الناجحة وجه الإنقاذ القبيح (ولا بأس). غير أنَّ مستر داوود ما كان له أن ينجح فى ظل ظروف الوضع الإقتصادى المُتهافت فى السودان، بالرغم من مهنيته العالية فى إختيار الموظفين وتأهيلهم وتدريبهم والتطبيق العلمى الحازق فى كل المجالات، لو لا رعاية إستثماراته بواسطة أحد المتنفِّذين (إبحثوا عنه) نظير مقابل معلوم. وربما كان هذ التضييق على مستر داوود لِحَمْلِهِ على الخروج، هو بسبب خروج راعى إستثماراته من، وخفوت نجمه فى، حلبة الصراع على السلطة والثروة. 2- وعلى العموم، الحكومة بعقليتها الريعية المعروفة (عقلية أزمنة نمط الإنتاج الخراجى كما يقول سمير أمين) هى أصلاً فى وضعية المغالبة (The crowding out)، وهى وضعية تحدث فى حالات كثيرة أهمها إثنتين: حينما تموِّل الحكومة إنفاقها عن طريق الضرائب، أو بالتمويل بالعجز. وعندئذٍ تزداد معدلات العائد على المعملات المصرفية (سعر فائدة، مرابحة، مضاربة، إلخ) التى بدورها تساهم فى تنفير القطاع الخاص (أفراد/شركات) المحلى والأجنبى عن الإستثمار فى البلد، ولا يستطيع أن يصمد إزاء هكذا سياسة إلاَّ ذو شوكة (دعم من الداخل، أو دعم من الخارج)، ويزداد الأمرُ سوءاً فى ظل تحصيل ضريبى غير قانونى (173000 رسم غير قانونى). 3- إنَّ دخول الحكومة فى تمويل الأنشطة بالصيغ المذكورة أعلاه، أو بإتاحة تمويل هذه الأنشطة بواسطة الإقتصاد الموازى المدعوم تمكيناً رغم سياسات التحرير المعلنة، لهوَ أمرٌ مقصودٌ لذاته (induced)؛ أىْ لجهة الإغلاظ على شركات/أفراد بعينها غير مرغوب فيها، ودفعها بإتجاه باب الخروج. وهذا نوع آخر من المغالبة يقع أثره الآن على مستر داوود. 4- لدينا بالسودان أكثر من 8683 شركة، جُلُّها (خاصةً شركات البترول، الذهب، الكهرباء، المياه، الصحة، وغيرها كثير من شركات مناصرى النظام) معفى من الضرائب، وبالتالى تساهم بضريبة أعمال فى الناتج المحلى الإجمالى بنسبة لا تتجاوز 3.5% (ديوان الضرائب 2014). وبالمحصلة، هذه ال 3.5% تدفعاها الشركات الموالية للنظام (مثال شركات الدقير، البلاَّل) وغيرها، وشركات دال تقع ضمن هذه الشركات الموالية. 5- ولمَّا نعلم بأنَّ الحكومة مازالت ترفض أن تُدْخِل شركات مناصيرها تحت المظلة الضريبية التى تشمل ستات الشاى والأُورنيشية، فهى بالتالى تلجأ إلى ابتداع ومضاعفة نوع من الضرائب ما أنزل اللهُ بها من سلطان (ضريبة العكفة والضَّنَّاب واللِّجام) وتفرضها على الشركات الموالية وأشباهها لتصل إلى ربط ضريبى أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع، وليس به رحمة طالما أنَّ مناصيرهم لا تطالهم الضرائب. فإذا كان الإرهاق الضريبى قد بدأ بدال الآن، فقد تتبعها شركات أُخرى موالية حينما تستنفد أغراضها (تجميل صورة النظام)، خاصة أنَّ التمويل بالعجز لا تقبله مؤسسات التمويل الدولية التى ما انفكَّتْ تُراقب كل برامج الإنفاق الحكومية للسودان (البرنامج الخماسى 2015 – 2019) مثالاً). إذاً، مستر داوود يقع تحت نوعين من المغالبة: كسر العظم بالضرائب والجمارك والرسوم والأتوات والزكوات، وبالمنافسة مع إقتصاد موازى معفى من كل شئ حتى الزكاة. 6- على أىِّ حال، قد إزدهرت إستثمارات مستر داوود (دال) وحقَّقتْ نجاحات مرموقة قبل هذه الأزمة، وصارت دولة داخل دولة؛ 7000 موظف، تستثمر فى سلعة إستراتيجية (القمح/الخبز) الطلب عليها طلب غير مرن (بمعنى أنَّ النَّاس سيشترون الخبز مهما كان سعره ليبقوا أحياء)، ولن تبور ولن تخسر أبداً (إلاَّ إذا انتاشتها الدولة كما هو حادث بالمغالبة الجارية الآن). فى وضعٍ كهذا، تخشى الدولة أنْ تُستَغلَّ دال بواسطة راعيها المهيض الجناح، أو بوسطة جهة أجنبية/أو معارضة خارجية (وهذه حوبة بنك المغتربين المُعارض) لتحريك الشارع ضد الحكومة، وذلك بدرجة تحكُّمِها فى عرض هذه السلعة الإستراتيجية فى الأسواق. خاصةً أنَّ مستر داوود يرفض العمل تحت العباءة الأخوانوية واكتفى بالعمل تحت العباءة الوطنية، وكذلك يرفض شراكات الأخوانويين فى عمله ورأسماله، وبَقِيَتْ شركاته ونجاحاتُهُ حيَّة ومستمرة بالرغم من المحاولات المستمرة لكسر عظمه بالضرائب والجمارك والرسوم والزكوات. هذا الأمر فى ظل دولة شديدة الحساسية تجاه القضايا الأمنية قد أفرع الأخوانويين، وبدأت معه الشكوك تتعاظم، وكان لابد من تدخل الدولة مشترية للقمح، أو أنْ تفكَّ احتكار واستيراد القمح بواسطة الشركات المعنية (تيقا، وسين، وسيقا) وإشاعته لعدد كبير من أساطين الإقتصاد الموازى المعفيين من كلِّ رسم وضريبةٍ وزكاة تحسباً لأىِّ طارئ. المُحصِّلة 7- النظام الذى لا يقوم على العدل هواجسُهُ الأمنية لانهائية (الذين آمنوا ولم يَلْبِسوا إيمانهم بظلمٍ أؤلئك لهم الأمنُ وهم مُهتدون (82) الأنعام)، وعلى مستر داؤود أن يُطمئن القوم وهو رجل لا تعوزه دبلوماسية رأس المال. 8- رأس المال الثابت لمستر داوود يُقدَّر بمليارات الدولارات، وكونه سيعمل بالخسارة فهذا حديث مرسل (نَىْ). وكونه يخرج من البلد، فالخسارة المتوقعة أفدح، لأنَّه سيضطر لبيع أُصولِهِ الرأسمالية لِضِباعِ الإنقاذ بأقل من القيمة الدفترية. ولذا أمام مستر داؤود طريقان: إمَّا أن يبحث عن راعى/شريك جديد مستدام من المتنفذين ليُحافظ على رأس ماله، وإمَّا أن يكون بالفعل هناك جهة خارجية تدعمه، وبالتالى هى قادرة على حمايته بالطرق التى تعرفها، رغم أنف الإنقاذ. خاتمة أنتَ تتعامل مع قوم بلا أخلاق، كبيرهم (وصغيرهم) الذى علمهم السحر يعتبر الأنصار والختمية فئة أهل الكتاب الثالثة. وأنتَ يا عزيزى مستر داوود حلفاوى بنصف ديانة، وفوق ذلك غريمك يتهمك بالماسونية؛ فكيف استأمنتَ هذه المِلَّة؟ ألم تَدْرِ أنَّهم سيلفظونك حينما تستنفد أغراضك؟ حقيقةً، نرجو أن تخرجَ من هذه الأزمة بلا خسائر، فأنتَ لا تُوظِّف 7000 شخص، بل أنتَ تعول 7000 ألف أسرة. حسين أحمد حسين، باحث إقتصادى مقيم بالمملكة المتحدة. [email protected]