الاستفسار عن النظرية 'الثَّالثة' داخل ليبيا يكفي أن يصبح المستفسر في دائرة الشَّك، فكيف إذا جاء السؤال مِن ابن القذافي؟ عندها اعتبر الهوني السؤال ماكراً، فيه استدراج إلى الرَّأي بالنَّظام ككل. ميدل ايست أونلاين رشيد الخيُّون تفاصيل بلغة صادقة وأسلوب مؤثر جرد الحقوقي والباحث اللِّيبي محمد عبد المطلب الهوني في كتابه "سيف القذافي مكر السِّياسة وسخرية الأقدار" حياة سيف الإسلام مِن المهد إلى سقوط نظام الأب والاعتقال؛ وسيف أحد أبناء الرؤساء الذين ولدوا ونشأوا في أحضان الرئاسة، واختلف مصير سيف عن عدي صدام حسين وأخيه قصي (قُتلا 2003)، وعن بشار الأسد، الذي وحده مِن بين أبناء الرؤساء العرب ورث عرش أبيه، بينما فشل جمال مبارك وأحمد علي عبد الله صالح في وراثة عروش الآباء الجمهوريين. قبل اللقاء بالهوني كنت لا أميز بين أولاد الرؤساء، فلما أخبرته عن تعرضي لموقف محرج مع سيف، قبل سنوات، ضمن حفل دعيتُ إليه صدفةً، تحايلتُ ألا أُصافحه، قياساً على أنه عدي صدام، فلا فرق بينهما في مخيلتي. عندها قص عليَّ مستشاره أفكار الإصلاح التي كان يحاول تحقيقها، وسط الشرّ الذي كان يمثله نظام الأب (قُتل 2011). بعدها صدر كتابه (الهوني) "سيف القذافي..."، عن "مدارك" (2015)، سارداً قصة سيف مع نظام الأب، بحكم قربه مِن الحدث فقد عمل معه مستشاراً لسنوات طوال (1998) وحتى ما قُبيل نهاية النظام. كانت البداية بمحاولة تشخيص الخلل، والتخفيف مِن القهر على الليبيين، فنجح بإطلاق السجناء، والعمل على مواكبة العصر، فكلُّ شيء في النَّظام صار متهرءاً، لا أحد يفكر سواء القائد المفكر. في أول لقاء بين سيف والهوني واجهه بالسؤال وجوابه: "يبدو أنك لا تؤمن بالنظرية العالمية الثَّالثة"! بعد أن أوضح الهوني له بداياته الماركسية التي ما عادت تمثل حلاً، بينما كانت "تستجيب نظرياً لظمأ الإنسانية إلى العدالة"، فإذا كان هذا رأيه بنظرية ماركس فماذا سيقول عن النظرية الثَّالثة! كان الاستفسار عن النظرية "الثَّالثة" داخل ليبيا يكفي أن يصبح المستفسر في دائرة الشَّك، فكيف إذا جاء السؤال مِن ابن القذافي؟ عندها اعتبر الهوني السؤال ماكراً، فيه استدراج إلى الرَّأي بالنَّظام ككل. لكنَّ أسلوب سيف في الحوار منح صاحبنا شيئاً مِن الاطمئنان، فأجاب الهوني بما احتمله ابن صاحب النَّظرية: "أي نظرية إذا جاءت بحلول نهائية لأي مشكل بشري، وفي أي جانب مِن جوانب الحياة فإنها تفرض على البشرية أن تتوقف عن التفكير". غير أن الجواب وقع في قلب سيف، فتشكلت العلاقة بين ابن النِّظام والقانوني الهوني. في الكتاب تفاصيل صاغها الهوني بلغة صادقة وأسلوب مؤثر؛ عارجاً على محاولات ابن القذافي في الإصلاح، وهو يرى نهاية سياسة أبيه، والظُّلم الذي فرض على الليبيين. لا يخفي الهوني حنينه، كغيره مِن أبناء جيله، إلى الحقبة السنوسية، وقد كتب في "الشَّرق الأوسط" مصرحاً بهذه العاطفة. كان الإحساس بمحو تلك الحقبة المضيئة لحظة وصوله إلى لقاء سيف لأول مرة، ومروره بحي غرغور بضواحي طرابلس، الخاص بفلل مدراء الشركات الأجنبية الاستثمارية بعد اكتشاف النَّفط، وإذا يوزع "كأول غنيمة جاهزة للقسمة"، وبعد الثَّورة بثلاثين عاماً لم يحدث تغيير عليه "عدا استبدال الأسوار، التي كانت مِن الشُّجيرات لا يزيد ارتفاعها عن مترٍ، بأسوار هي أشبه بجدران الثَّكنات منها بأسوار المنازل". في ذهن الهوني ترمز تلك الأسوار إلى غموض النِّظام وجبروته. تلك كانت بداية الرِّحلة بين المؤلف ونجل القذافي، وخلالها تحاشى احراجات كثيرة، منها أنه تحاشى أن يقيم مؤتمراً صحافياً يندد باختطاف الثَّائر الكردي أوجلان (1999)، فعندها فكر الهوني في ما لو سأله صحافي عن سجناء الرَّأي داخل السّجون الليبية ماذا سيكون جوابه؟ لا يتجرأ صحافي داخل طرابلس على السُّؤال، لكن الهوني تحاش النِّفاق المفضوح وهو يدافع عن سجين خارج ليبيا. احراج آخر، تصوروا موقف الهوني، العدو اللدود للإسلام السياسي وأقطابه، أن يُكلف بوساطة لإطلاق سراح السُّوداني الإخواني حسن التُّرابي، وهو يعلم أن لهذا الرَّجل دوراً ما في قضية الشَّيخ محمد محمود طه (اعدم 1985)؟ إلا أن مَن نقل إليهم الرِّسالة رفعوا عنه ثقل التَّكليف، بأن ذلك ليس مِن شأن ابن القذافي بل مِن شأن القذافي نفسه. أما لقاء المؤلف بعدي صدام، وكان في مهمة إنسانية لمساعدة المتضررين مِن أطفال العراق بفعل الحصار آنذاك، فقصتها تؤجل إلى كلمة أخرى، ومنها ما أفصح عنه عدي عندما أقدم مع عمه لتخويف الكُرد برميهم بالطحين مِن الطائرات، ونزوحهم عن قراهم ظناً أنه الكيمياوي، مع أن المنطق يقول: لم يهربوا مِن الطحين إلا بعد رؤية فتك الكيمياوي، قياساً على الفزع مِن الحبل بعد نهشة الأفعى. أفرغ الهوني جزء مِن ذكرياته في الكتاب بلغة أدبية مشوقة، وبسرد أحداث مفصلية في حياة النِّظام اللِّيبي، قبل سقوطه بعقد مِن الزَّمان، حتى انتهى سيف سجيناً مبتور الأصبع، بعد أن أنهى أمل الليبيين بخطابه الأخير، وقد أهمل ما سجل له الهوني مِن فقرات يأخذ بها المبادرة بالتغيير وقد جاءت فرصته. جاء "مكر السِّياسة وسخرية الأقدار" عنوان في الصميم، متأسياً كاتبه بببيت المعري(ت 449ه): "تقِفونَ والفُلكُ المُسخَّرُ دائرٌ/ وتقدِّرونَ فتَضحكُ الأقدار"(ديوان لزوم ما لا يلزم).