تعددت تقنيات كتابة الرواية التي تحمل على عاتقها هاجس التجريب والخوض في أراض جديدة ولو كان موضوعها تقليديّ الطرح، فالرواية أسلوب في النهاية، لكن الإيغال في التجريب دون بوصلة متماسكة واضحة الجهات للعبور من هيجان التجربة، قد يؤدي إلى تفكك النص والغرق والاندثار. "العرب" التقت الكاتبة الجزائرية سارة النمس لتحدثنا عن تجربتها مع الكتابة وتقنياتها. العرب عبدالله مكسور "الكتابة هي عادتي السرية التي أمارسها دائما في الخفاء كتلميذة تغطي ورقة الامتحان بذراعها كي لا يتلصص عليها أحد. هناك في ذلك العالم الموازي بإمكاني ارتكاب كل الجرائم الفظيعة والحماقات التي قد لا أجد الشجاعة لارتكابها في الواقع، أستغلّ ملامح الجار القبيح في الكتابة عن شخصية تستفزّني، أغيّر اسم بلد، أعذّب صديقا خذلني، أخون رجلا أحببته، أنكّل بالجثث، أعيد الموتى إلى الحياة، وبالإضافة إلى كل هذا فإن الكتابة كانت سببا في جعلي أعيش عمرا أطول". هكذا تعرّف الكاتبة الجزائرية سارة النمس حالتها في الكتابة التي تمارسها، وقد ولدت الكاتبة في الجزائر عام 1989، لتتخرج من جامعة الآداب واللغات، وتصدر عام 2012 روايتها الأولى "الحب بنكهة جزائرية"، ثم عام 2014 مجموعتها القصصية "الدخلاء"، تقول ضيفتنا إنها كاذبة جيدة، حيث لا يمكنها تسجيل الواقع الصرف كمن ينقل النشرة الإخبارية، ولا تستطيع منع نفسها من الكذب، كما تعجز عن الانفصال عن واقع تتواجد فيه ويلهمها بأفراده وأحداثه وأمكنته، في كلّ ما تكتبه لا تقول سوى نصف الحقيقة، فالمهم عندها أن يبدو النص متجانسا ومنطقيا، إذ أن حالة الإبداع تحدث عندما يحسب القارئ الكذبة حقيقة ويكذّب الحقيقة على أنّها كذب. الكاتب واليوميات سارة النمس في أعمالها تقتنص من يومياتها مادة لتحوّلها إلى وجبة أدبية، وعن هذا تقول إنّ اليوميات أسهل ما يمكنها كتابته، ربما لأنها تفعل هذا منذ كانت في التاسعة من عمرها، حيث كانت تبتاع دفاتر وتكتب فيها عن رغبتها في رؤية الله، وعن ابنة الجارة التي تحلم بها كل ليلة تحرق شعرها الطويل، والدراجة الهوائية التي تحلم بالحصول عليها، وتغتاب أمّها بأريحية، وتقول لأبيها على الورق كل الكلام الذي ابتلعته في حضرته، تتابع ضيفتنا أنّه ربما لم يتغيّر اليوم عن سابقه، كل هذا توظيف للأحداث التافهة والبسيطة في نصوص تحمل قيما إنسانية، كأن تكتب مثلا عن الثرية التي نهرت المتسول الجائع وانشغلت عنه بإطعام كلبها المدلل، وعن اللاجئ الذي يعامل على نحو سيّئ لأنّه لم يجلب معه المال الذي يشتري به كرامته في بلد غريب. أمّا عن النجاح في اقتناص لحظات كهذه، فهو ربما يعود إلى دقة الملاحظة التي يحظى بها الكتّاب عموما، الكاتب مواطن وقح، والوصف لضيفتنا، ليس بإمكانه منع نفسه من التحديق إلى الغرباء، يراقب ملامحهم وكيف يلبسون ويتحدثون، يسجّل في ذاكرته بعفوية ما يراه، ويحلل بحواسه ما يحس به. تتحدّث سارة النمس عن روايتها الأولى "الحب بنكهة جزائرية"، حيث أودعتها كلّ ما كانت تكرهه، كل ما تشمئز من رؤيته وتحلم بتغييره، بطلتها لم تكن تحلم إلا بمغادرة بلدها، لأنّها لم تكن تشعر بالانتماء إليه، كان ينقصها الكثير من الحرية والكرامة في العيش لتشعر بذلك، ولم تفهم حقيقة مشاعرها إلاّ عندما غادرت الوطن، هناك على الطرف الآخر من الوطن وجدت كل ما كانت تحلم به إلاّ جزائرها، وكأنها طفل فقير تمسك بيده وتضعه في بيت أنيق صاحبته السيدة المثقفة التي تمنحه كل شيء إلاّ عاطفة لا تمنحها له سوى الأمّ. ومن هنا تقول إنّ الكتابة عن الوطن عندها لا ينبغي أن تفرط في الشاعرية، لأنّ كل ذلك سيتحوّل لاحقا إلى شيء مبتذل لا نمتلك شهية لقراءته، فلنكتب عن أوطاننا كما هي، عن ظلم أبنائها وأوجاعها وجثثها ونفاياتها أي عن واقعها، وتعتقد أنّ كل ما يلزمنا لأجل الكتابة عن الوطن هو نبض صادق. تتميّز كتابات سارة النمس بالسهل الممتنع، حيث تعتمد على لغة أخّاذة تديرها سارة إلى أيّ اتجاه أرادت، ورغم انحيازها التام للفكرة إلا أنّه لا يمكن تجاهل قيمة اللغة وأهميتها في خدمة الفكرة نفسها، لتتابع أنّها كثيرا ما تقرأ فكرة عميقة يتمّ التعبير عنها بلغة هشّة، وكثيرا ما تقرأ فكرة ضعيفة تمّت كتابتها بلغة أنيقة ورصينة، ومفاصل القوّة كما تراها في العمل الأدبي ربما تكمن في الغاية من الكتابة؛ فهي لا تكتب إلا لتحقّق المتعة لنفسها أولا. لعبة السرد "الدخلاء" مجموعة قصصية أصدرتها ضيفتنا، وقد ضمّت بين دفّتيها خمس قصص تتقاطع سرديا في ما بينها، لتقول عن ذلك العمل "إنّه يتحدّث عن عالم الماورائيات، ففي كل قصة يقابل القارئ إمّا كائنا شبحيا أو عائدا من الموت، وهذا النوع من القصص نادر في أدبنا العربي، قصص يتمّ الاشتغال فيها على عامل التشويق والتخويف واستفزاز القارئ بأحداث عجائبية ووهمية، بحيث يتم إقناعه بأنّها حقيقية". عمل يتحدث عن عالم الماورائيات جاءت فكرة كتابة هذه المجموعة من شقيقتها الراحلة دلال الياسمين، التي كانت ضيفتنا تشعر أنّها لا تزال حاضرة، تتجوّل في البيت وتعيش تفاصيل يومها مثل الجميع، ليكون التساؤل الوجودي المشروع، ماذا لو عاد الموتى حقا إلينا؟ ما الذي سيطلبونه منّا، وهل سيظلون كما عرفناهم سابقا؟ هكذا كتبت القصص كإهداء لصغيرة غائبة ورغبة في كتابة نصوص مختلفة وأخرى بتحدّ للموت وانتصار للحياة. تقسّم سارة النمس الكتّاب إلى صنفين، الأول يخطط للرواية مسبقا؛ لأحداثها، ويعدّ شخوص العمل وتفاصيلهم وحواراتهم وأمكنتهم، ثمّ يصبّ كل ذلك في قالب أدبي، فمنهم من ينجحون في إيهامنا بقدرية الأحداث ومنهم من لا يحقق ذلك. بينما يقوم النوع الثاني بالبدء في كتابة الرواية انطلاقا من فكرة وشخصيتين على الأكثر، ليجد نفسه في النهاية قد أنجز رواية تتألف من عشرات الشخصيات والأمكنة والحوارات. سارة النمس تعترف أنّها من الصنف الثاني الذي لا يخطط للرواية، لأنها إن خطّطت لها قبل وقوعها فلن تعرف كيف تستمتع بها ولا كيف تتفاجأ بالأحداث كما تتفاجأ شخصياتها وقرّاء الرواية في ما بعد، وبالعفوية ذاتها تنتقي التقنيات السردية التي ترتاح إليها في الكتابة؛ فأحيانا تروي بلسان المتكلّم، وهي تقنيتها المفضّلة، لأنّ تقنية الراوي الذي ينبغي أن يكون محايدا ومحدودا في التعبير عن دواخل الأبطال لا تسمح بالإفصاح عمّا يدور في نفس الشخصية كما تقول، تقنيات أخرى تروقها كقارئة ولهذا تستخدمها ككاتبة، مثل تقنية الفلاش باك والمسار الدائري حيث تبدأ الأحداث من النقطة التي انتهت منها. أمّا تعدد الأصوات في الرواية فهو يشوّشها ويزعجها، لذلك لا تعتقد أنها ستستخدمه يوما، إنها تصف المشهد كما يبدو لها، وكما لو أنها جمعت كل شخصيات الرواية حول دائرة مستديرة وطلبت منهم إخبارها عمّا حدث من وجهة نظر كل منهم، ولهذا تفضّل الرواية الكلاسيكية بأثواب جديدة. سارة النمس اليوم تكاد تنتهي من مراجعة سلسلة رسائل إلى أسير فلسطيني لم تنتق لها عنوانا بعد، هذا العمل الجديد حسب التجنيس الأدبي لا يمكن أن تعدّه ضيفتنا رواية، لأنّ كل رسالة ضاجّة بالتفاصيل والشخصيات والأحداث، أي تتعدّى تسجيل مشاعر بين شخصين، وتعترف أنها تفاجأت حين أنهت كتابة ستين رسالة كاملة، تقول عن ذلك إنّ الأمر بدأ منذ سنة أو أكثر بعد الإضراب الذي شنّه الأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي، حيث كتبت رسالة قصيرة تتألف من بضعة أسطر دون أن تدري أنّ في داخلها ما يكفي لكتابة كتاب.