شاهد بالصورة والفيديو.. في مقطع مؤثر.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تبكي بحرقة وتذرف الدموع حزناً على وفاة صديقها جوان الخطيب    شاهد بالصورة والفيديو.. في مقطع مؤثر.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تبكي بحرقة وتذرف الدموع حزناً على وفاة صديقها جوان الخطيب    رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة يلتقي اللجنة العليا للإستنفار والمقاومة الشعبية بولاية الخرطوم    شاهد بالصورة والفيديو.. في أول ظهور لها.. مطربة سودانية صاعدة تغني في أحد "الكافيهات" بالقاهرة وتصرخ أثناء وصلتها الغنائية (وب علي) وساخرون: (أربطوا الحزام قونة جديدة فاكة العرش)    الدفعة الثانية من "رأس الحكمة".. مصر تتسلم 14 مليار دولار    قطر تستضيف بطولة كأس العرب للدورات الثلاثة القادمة    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني في أوروبا يهدي فتاة حسناء فائقة الجمال "وردة" كتب عليها عبارات غزل رومانسية والحسناء تتجاوب معه بلقطة "سيلفي" وساخرون: (الجنقو مسامير الأرض)    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    سعر الدولار في السودان اليوم الأربعاء 14 مايو 2024 .. السوق الموازي    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    صندل: الحرب بين الشعب السوداني الثائر، والمنتفض دوماً، وميليشيات المؤتمر الوطني، وجيش الفلول    هل انتهت المسألة الشرقية؟    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    عالم آثار: التاريخ والعلم لم يثبتا أن الله كلم موسى في سيناء    "بسبب تزايد خطف النساء".. دعوى قضائية لإلغاء ترخيص شركتي "أوبر" و"كريم" في مصر    تقارير تفيد بشجار "قبيح" بين مبابي والخليفي في "حديقة الأمراء"    المريخ يكسب تجربة السكة حديد بثنائية    أموال المريخ متى يفك الحظر عنها؟؟    مدير عام قوات الدفاع المدني : قواتنا تقوم بعمليات تطهير لنواقل الامراض ونقل الجثث بأم درمان    لأهلي في الجزيرة    قطر والقروش مطر.. في ناس أكلو كترت عدس ما أكلو في حياتهم كلها في السودان    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    شركة "أوبر" تعلق على حادثة الاعتداء في مصر    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    هل يرد رونالدو صفعة الديربي لميتروفيتش؟    لاعب برشلونة السابق يحتال على ناديه    محمد وداعة يكتب:    انتخابات تشاد.. صاحب المركز الثاني يطعن على النتائج    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    السودان..اعتقالات جديدة بأمر الخلية الأمنية    شاهد بالصور.. (بشريات العودة) لاعبو المريخ يؤدون صلاة الجمعة بمسجد النادي بحي العرضة بأم درمان    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    روضة الحاج: فأنا أحبكَ سيَّدي مذ لم أكُنْ حُبَّاً تخلَّلَ فيَّ كلَّ خليةٍ مذ كنتُ حتى ساعتي يتخلَّلُ!    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الدولة السودانية : الفسادُ إذا يغشاها!
نشر في الراكوبة يوم 05 - 11 - 2015


بسم الله الرحمن الرحيم
أصبح من العسير ألا تصافح عيناك أخبار عن الفساد يوميا، كلما طالعت صحافة إلكترونية سودانية، بعد أن أصبحت هي المصدر الموثوق وعين الخارج علي الداخل، في ظل القيود المفروضة علي صحافة الداخل، وهامش الحريات الذي لا يسمح إلا بمرور اليسير من هذه الأخبار(الصدمات!) بل حتي هذا اليسيِّر مرهون بعواقب وخيمة، وسط السير في حقل ألغام من القوانين المعيبة ومتاهات التفسيرات الجزافية وإنحيازات (إتحاد/نقابة الصحافيين) للسلطة ضد منتسبيها من المعارضين! وأكثر من ذلك، يزداد هذا الهامش إنحسارا وتضييقا وتعريفاته تغبيشا وتعتيما، كلما إقترب من شرف القضايا الجوهرية التي تمس حاجات المواطنين، كمناطق حساسة او مقدسة يمتنع عندها الإقتراب او التصوير، حسب المفهوم والقاعدة الأمنية العتيقة. وعلي العموم سيادة الفساد ولغته التي يتحدثها غالبية المسؤولين وأتباعهم في بيئة الداخل لم تأتِ من فراغ، ولكنها التعبير الفاضح والتجلي الأعظم لعطالة نظام حاكم يقوم علي إدارة دولة فاشلة، تأسست علي المكر والخداع من جهة، والإرهاب والشعارات الجوفاء من الجهة المقابلة. بمعني آخر، منظومة الفساد هي علاقة تكاملية بين أنظمة غير شرعية وممارسات غير شرعية! وتاليا لا يمكن الإنخراط في هذه الأنظمة إلا بالإنغماس في الفساد ماديا وإنكاره لفظيا! ولا مجرد التعايش معها إلا بالتغاضي عن آثار الفساد وتبرير أسبابه ووجوده، بإحالته الي ظاهرة عالمية لا تخلو منها دولة او مجتمع! أي تحويل كل موبقات الفساد وجرائمه وآثاره التخريبية الآنية والتدميرية المستقبلية، الي قضية تجريدية يمكن الجدل حولها، وصولا الي نفيها إذا لزم الأمر.
إذا كان الحال كذلك، تضحي القوانين والتشريعات واللوائح..الخ الضابطة للفساد او التي تحد من آثاره وتبعاته، هي في حقيقتها قوانين مشرعة للفساد، ووفق تعبير لصمويل هنتغتون (لا يفيد إصدار قوانين صارمة ضد الفساد في مجتمع انتشر فيه الفساد، إلا في مضاعفة فرص الفساد) او أقلاه تحصنه ضد الكشف والمحاسبة! وذلك عبر تعقُّد القوانيين وضبابيتها وصعوبة ضبطها علي الجرائم الموسومة بالفساد في الوعي الجمعي، او عبر تجاهل تنفيذها والقفز من فوقها إذا صادف وطالت أحد المفسدين وفق تفسيرها المزاجي! وتاليا أيضا، تصبح المفوضيات والمنظمات التي تصنع خصيصا لمحاربة الفساد، هي في الأصل الجدار الحامي للفساد، او العاكس الذي يصرف الجمهور العام، عن الإنشتغال بأمهات القضايا، وعلي رأسها فساد السلطة الحاكمة، المؤسس والمشرع الرسمي للفساد السائد! أي الغرض منها حصرا، الفصل بين فساد السلطات وفساد المفسدين، وتاليا تصوير محاربة الفساد المُعلن من رأس السلطة السياسية، كأنه شهادة تبرئة لذمتها من الخوض في أوحاله، الشئ الذي يمنحها صك الشرعية ليس المالية فقط، ولكن قبل ذلك السياسية والسلطوية. وعلي ما في هذا القول من تضليل للمحكومين وتسفيه للحقائق، وإصرار علي تضييق نطاق الفساد بحصره في الجانب المالي فقط، علما بأنه الجانب الأقل خطورة مقارنة بالفساد السياسي والسلطوي المشرعن والحامي لغيره من الفساد! فإن إعتراف كهذا، يستوجب في أدناه التنازل عن السلطة، وفي أقصاه المحاسبة علي المسؤولية السياسية والجنائية التي سمحت بوجوده بل وإستشراءه. ولكن هل صحيح أن فصل كهذا يطبق علي الأرض؟ أي بفصل المفسدين عن السلطة وهو ما يسمح بمحاسبتهم؟ هذا غير صحيح علي أرض الواقع ولا يمكن تطبيقه عمليا! وذلك ليس خوفا علي المفسدين كأفراد، ولكن للربط العضوي بين المفسدين والسلطة او للتماهي بين السلطة والفساد! أي حماة السلطة الفاسدة وأنصارها ليسوا مفسدين فقط، ولكن من الضروري أن يكونوا كذلك، حتي تتقبلهم وتثق فيهم السلطة الفاسدة! وذلك ليس أيضا لأن طيور الفساد علي أشكالها تقع كما هو معروف، ولكن قبل ذلك، لأن الفاسدين لا يملكون السلطة المعنوية(الأخلاقية!) ولا المادية(تُستمد من الجمهور او الشرعية!) لمواجهة السلطة الفاسدة او رفض ومقاومة آليات إشتغالها. بمعني آخر، إن أصحاب قصور وسلطات وشرعيات الزجاج، لا يسعون إلا من ذمتهم وتاريخهم وميولهم من زجاج أكثر هشاشة، أي من لهم قابلية عالية للإنخراط في بيئة الفساد، وظيفيا وإختياريا ومصلحيا.
إذا صح أعلاه، تصبح ندرة محاكم الفساد الشائع أمر واقعي، ولكن الأكثر واقعية أن لا تؤدي المحاكم النادرة للفساد والمفسدين الي نتائج حقيقية او آثار مفيدة، تحد منه او تردع المفسدين. وذلك لأن فعل كهذا، لا يزيد من المطالب بمزيد من المحاكمات والكشف عن المتورطين فيه، وتاليا جر شبكات لاحد لها، لإعتبار الفساد عمل جماعي وليس سلوك فردي منعزل، فحسب! وإنما يقوض أعمدة الفساد ولاحقا مشروعية الفساد وبصورة أدق مشروعية وأعمدة السلطة، الراعي الرسمي للفساد. أي المحاكمات الجادة والمفتوحة والمعلنة وعلي ضوء توافر شروط المحاكمات الحقيقية، في جو من الحريات العامة وبما فيها حرية المفسدين في الدفاع عن أنفسهم، وما يستتبع ذلك من نتائج محترمة ومقبولة. وشئ كهذا كما أسلفنا، لابد وأن يفتح صندوق باندورة الذي لن يكتمل إلا بتوريط الجميع، إنتهاءً بتوريط السلطة الحاكمة في شراكه! وهو ما نستبعد أن تقوم به سلطة فاسدة بل ومفسدة من تلقاء مزاجها! في هذا الإتجاه، يصبح ما يصدر من ممارسات فاسدة او ما يرشح عن تجاوزات معلومة، هو من باب السلوك العادي او الإجراء الطبيعي المتبع في الدولة الباطنة التي تدير السلطة والمجتمع! ولا تشكل حالة الكشف عن الفساد، إلا تسليط الضوء علي جوانب من الممارسات الطبيعية لهذه الدولة الفعلية الحاكمة! أي دولة الأفراد والعلاقات التنظيمية والعائلية والشخصية، مُعرَّفة بدولة العشيرة الإسلاموعسكرية، والأصح دولة تبادل المنافع بين الأشقاء السلطويين! أما مظاهر الدولة الخارجية، فهي لا تشكل أكثر من غطاء او ساتر لهذه الدولة المستترة او الخفية الحاكمة؟! بتعبير آخر، ما يعتبر أنه فساد (وهو كذلك بالفعل!) في الدولة الشكلية الخارجية الظاهرة، ما هو إلا سلوك عادي في الدولة الظلامية الباطنية الحاكمة! وتاليا كل من يخرج علي قوانين او مدار الدولة الباطنة من الأتباع او يطمع في نيل حصة أكبر مما هو محدد له من الكيكية! يعرض نفسه لإنكشاف الدولة الخارجية العارية من الحماية! وبما أن الدولة الخارجية الموجهة او المواجهة للجمهور من العجز والخواء بمكان، فإن تأثير التعرية لا يتعدي التشهير المعنوي! ولكن المفارقة أن كل من ينتمي لدولة الباطن او يتربي في حضنها او يعتاد علي النهل من معين خيراتها، لا يؤثر فيه موضوع التشهير كثيرا، طالما كان نصيبه المادي في الحفظ والصون، وقدرته علي التبرير والجرأة علي الحق والوقائع بما لا يُقاس او يعقل او يحتمل! وهو سلفا يراهن علي قوة ونفوذ المال، في دولة تم إفقارها منهجيا ومجتمع تحطمت قيمه جبريا. لكل ذلك يصبح الفساد الحقيقي، هو توقع ألا يفسد المفسدون او يتم قبول تبريرات المفسدين، او توقع الإصلاح والأفضل في ظل تفشي الفساد وتوسع سلطات وحصانات المفسدين! وذلك لأن بيئة الفساد لا تنتج إصلاح وإنما المزيد من الفساد والمفسدين. وجريا علي تعبير ثروت أباظة، لا رجولة مع الحاجة أبدا، كذلك لا إصلاح مع الفساد أبدا.
ولكن السؤال، إذا إتفقنا مع المبرراتية أن الفساد ظاهرة ملازمة للإجتماع البشري، وبغض النظر عن تعريفاته ومداه وتأثيراته ونظرة المجتمعات إليه وطبيعة القوانيين الي تتعامل معه..الخ لماذا كان فساد الإنقاذ غير مسبوق او معقول، وذو طابع شمولي او سيادي(وفقا لقوانين الوراثة المندلية، ليصبح الفساد المعقول متنحي!) والأصح طغياني، أي شبيه بطبيعة السلطة الحاكمة؟ وقد يفسر ذلك (نظرية) فساد رأس السمكة الشهيرة، أي فساد السلطة الحاكمة ينعكس مباشرة في صورة فساد مركب علي أجهزة الدولة و ممارسات أتباعها، وتاليا يشيَّع في بيئة المجتمع كله الفساد. ومما ساعد علي تعميم الفساد مجتمعيا، ومن ثم تقبل التعايُّش مع فساد السلطة، بل والسماح لها بالبقاء والإستمرارية والإفساد في الأرض او تطبيق سياسة الأرض المحروقة فساديا! هو هشاشة تكوين او طبيعة المجتمع السوداني، الذي تتنازعه الهواجس الهوياتية والفوارق المناطقية والتجاذبات القبلية والميول الدينية، والتي جذر من تبايناتها، وتاليا إنقساماتها وإنشقاقاتها! غياب روح او مظلة او وجدان مشترك، يلطف من حدتها ويستوعب تناقضاتها، ويشركها في أهداف موحدة وقيم وطنية متفق عليها. مما يشكل موانع او مصدات لعواصف الفساد وأمواجه المتلاطمة، أو أقلاه يمنع السلطة من إتخاذه كسلاحٍ ماضٍ، لإختراق المجتمع ونخره من الداخل! وتاليا تقويض ممكناته او قدرته علي المقاومة والخلاص او الإنفكاك من أسر السلطة وشرورها. وما زاد الطين بلة، التوافر علي نخب مأزومة، لم يفدها حاصل تحصيلها وكسبها المعرفي او وعيها، أي ما نالته من حظوظ تعليمية مكلفة وإمتيازات مادية وإجتماعية سهلة، في تقديم مردود مجتمعي ووطني، يكافئ تضحيات المجتمع الفقير لأجل خاطر عيونها! أي لم تقم بدور الطبيب الحاذق والمشخص الجيد لأمراض الوطن، ولم تقدم الدواء الشافي المنتظر لعلل المجتمع، رغم إصرارها علي إحتكار دور الصيدلي الوطني الحديث! أي حاصل جهدها كان الفشل في بناء هذه الآصرة الجمعية المشتركة المنشودة أعلاه، ومن ثم فقدان بوصلة مترتباتها كالحض علي الإنضواء خلف لواءها، وتبسيطها فكريا وتثقيفيا وتمثلها وجدانيا وعكسها سلوكيا، او غيرها من الواجبات والمهام التي تخدم أغراض التقدم والتطور المجتمعي، ويبدو أنها إكتفت بتقدم أحوالها الخاصة وتطور تراكم إمتيازاتها الواسعة. ويظهر أنه وبسبب هذه الأغراض الذاتية والأهداف الضيقة، أن النخبة قد لعبت دورها بشكلٍ معاكس، أي النخبة المتعلمة بصفة عامة والمسيسة علي وجه الخصوص، دأبت علي تفجير وتفتيت المجتمع المفتت أصلا من الداخل وزيادة تناقضاته! وذلك بدخول عامل آخر، وهو عامل التعليم النخبوي، الذي أفرز طبقة جديدة من الأفندية(التمحور حول الذات أو وخدمة السيد الأنا المتضخمة) منفصلة وجدانيا عن بقية أفراد المجتمع ومغتربة عن همومه، والأصح منفصلة بهمومها وتطلعاتها الذاتية عن همومه وتطلعاته، حتي وإن كان لغة خطابها ومحور حديثها المجتمع ذاته! ولكنه المجتمع من منظورها الإمتيازوي(الوصائي) وليس من منظور الشريك الندي الممانع للإمتياز! والنتيجة كانت الإستعلاء بعلمها ومعرفتها علي المجتمع ومشاكله وهمومه، والإستعصام بإمتيازاتها المادية والمعنوية ضد المجتمع وإحتياجاته(حديث الفخر عن اللحمة والتفاح والباسطة والبوفيه المفتوح في داخليات الثانويات ومن بعدها الجامعات، غض النظر عن تكاليفها وخصمها من أموال المحتاجين! والمقصود ليس منع الإعاشة "ولا يحق لنا ذلك، خاصة وجيلنا أكثر من إختبر جحيم مصادرتها وتأثيره ليس علي التحصيل فقط ولكن حتي علي المعنويات والبقاء علي قيد الحياة، لدرجة أننا كنا أقرب للمشردين منه للطلاب، لولا الداخليات متردية الخدمات التي تأوينا وحب المظاهر ونظافة الملابس المستهلكة!" ولكن المقصود هنا ترشيد الإعاشة بما يواكب أوضاع المجتمع الفقير او يمنع خلق حاجز معيشي إمتيازي ضد المجتمع وبساطة عيشه، وهو حاجز إنتقل بالطبع لبقية المكونات النفسية والتطلعية وصولا لرؤية المجتمع من أعلي) عوضا عن معالجة إشكالاته والتقليل من حدة تناقضاته! أي صراع النخبة كان علي المجتمع وإستخلاص المنفعة منه، وليس الصراع حوله وتقديم الخدمات له! وإذا إنطبق هذا الكلام علي النخبة المتعلمة بصفة عامة، في فترة كان التعليم نخبوي بدوره، فإنه أكثر إنطباق علي نخبة النخبة المتعلمة، أي النخبة المنتمية للمدارس النموذجية(خور عمر طقت وأدي سيدنا) والجامعة الأكثر خصوصية(جامعة الخرطوم) التي تستقبل النبهاء والعباقرة السودانيين!
فهذه المعاملة والتقدير الخاص الذي يصل حد التدليل(أي الدلع كسلوك تربوي خاطئ وبكل نتائجه المستقبلية الكارثية) لمن يوصفون بالذكاء، فقط لتميُّزهم الأكاديمي في نظام تعليمي مشكوك في تصميمه وقدرته علي إكتشاف المواهب المتعددة وطرق تنميتها، وتاليا مخرجاته ومدي إرتباطها بحاجات المجتمع ومشاكله وأهدافه المستقبلية(المفقودة بدورها!). فهذا التميُّز المتطرف في إيجابيته، والتدليل الإجتماعي المجرد من مردوده الإيجابي المنعكس علي المجتمع، أي عدم الربط بين التقدير والإبداع المرتبط بخدمة المجتمع! زرع في عقول ووجدان تلك النخبة نوع من الوعي الإمتيازي، بدلا عن الوعي الإستناري التحرري، المستوعب لحاجات وحقوق الآخر المتكافئة والشريك في الوطن بل والإنسانية بصفة عامة! وقبل ذلك، الوعي بتعقيدات الواقع وطريقة معالجته، وكيفية خلق وإدراج كل المواطنين في منظومة معرفية حقوقية سياسية وطنية تعلي من قيمة/كرامة الفرد ومكانته وأهميته. والمحصلة في غياب او ضمور وإضمحلال الوعي الأخير، كانت السيادة للوعي الأول(الأمتيازي المجاني) المفضي بدوره لسيادة الرغبات والسلوك الفردي الإمتيازي! أي نيل كل الإمتيازات بصورة فردية او لجماعة خاصة صغيرة وشريكة في الإمتياز نفسيا وماديا! ولأبد أن تكون كذلك، فما قيمة الإمتياز إن لم تحُذه أقلية! أي مفهوم وإحساس الإمتياز ذاته، لأبد أن يخلق ليس مجموعته الصغيرة المتحلقة حول الإمتياز ومستمتعة بنعيمه فقط، ولكن الأهم من ذلك وقبله، أن يخلق الجموع الغفيرة المحرومة منه، حتي يكتسب الإمتياز جدواه وأهميته؟! وهذا يستوجب تحطيم منبع الإمتياز بعد نيله، او وضع متاريس أكثر صعوبة في طريق الحصول عليه، وهذا بدوره يفسر إضعاف جامعة الخرطوم قبل تحطيمها علي يد خريجيها أنفسهم!! ونفس الشئ يمكن أن يقال عن المدارس النموذجية المندثرة!(وذلك لا يعني الإقتناع بأحوالها ودورها في المجتمع ومكانتها فيه، فهذه قضية أخري أشرنا لبعضها أعلاه) فيما يمكن وصف هذه الوضعية بتأسيس طبقة الحكماء العقلاء(النبلاء) في مواجهة طبقة العامة او العموم(التي لم تنل حظها من التعليم النظامي الذي سبق وصفه، بصفة عامة والنخبوي بصفة خاصة) لتصبح برمتها موضوع لذات الطبقة الأولي! ومؤكد وعي خاوٍ ومفهوم منهزم كهذا وسلوك أناني ومفرط في ذاتيته كذاك، أن تصبح محصلته، إن تستغل الطبقة الأولي(النخبوية الإمتيازوية النبيلة) حظوظها ومعارفها وإمكاناتها، في التحكم والسيطرة والإدارة للدولة والمجتمع في إتجاه مصالحها الخاصة، التي ليست بالضرورة مصالح الجماعات الأخري، بل المؤكد أنها علي حساب مصالح الجماعات الأخري! لتفرض نوع القيم السائدة وطبيعة السلوك المطلوب والخيارات التي يستوجب الأخذ بناصيتها! وتاليا تترك للطبقة العامة أعمال الكتبة والزراعة والنظافة والجندية والتحشييد السياسي وغيرها من المهام العضلية او ذات الإمكانات الذهنية الضعيفة، حسب برنامج وتصميم التقسيمات المنحازة للجهة النخبوية المصممة.
ولكن ما هي المحصلة الفعلية لهذا المسلك الإمتيازي والتاريخ الإنحيازي النخبوي (السنماري المعيب!)؟ فغير أن هذه الوضعية هي السبب الأساس في إفراز نموذج كالإنقاذ(الإبن الوفي للنخبة المأزومة الظالمة!) بكل هذه الدرجة من الغرور والعنجهية ورفض الآخر بل وإستحقاره، والإنغماس في السلطة بكلياته، وبوعي السيطرة الأبدية وسلوك الملذات القصووية. فإنه مهد البيئة أيضا ليتجذر فيها الفساد الموصوف أعلاه، خصوصا وهي في ممارستها السياسية تقتفي أثر وخطي نصائح مكيافيللي لأميره في أعز عهود التشرذم والإضطراب! أي فساد النخبة أدي لفساد السلطة الحاكمة الذي قاد بدوره للفساد العام. وعلي العموم هشاشة هذه النخبة لا تتبدي في أساليبها القهرية والإستغفالية للوصول الي السلطة وإمتلاكها كحق حصري ومقدس، والسيطرة علي الجماهير كأوصياء وتوجيههم كأساتذة فقط، ولكنها تتبدي بصورة أكبر في ضعفها عن مقاومة الطرف الأشرس ضمن مكوناتها! بمعني أوضح، الإنقاذ هي خلاصة عيوب النخبة ونواقصها وقابليتها للفساد والإفساد، وتاليا عجز النخبة عن مواجهة الإنقاذ وإزاحتها من المشهد، بعد كل هذه الأخطاء والكوارث! يرجع الي أن الإنقاذ تمثل العقل الباطن، أي الإمتيازي المريض للنخبة، أو تعكس جانبها الآخر او مكونها السلبي في المرآة. وبكلام أكثر صراحة، إن الطابع النخبوي هو المسيطر والوعي الإمتيازي هو السائد، سواء في طبعته الحاكمة(الإنقاذ) او المعارضة(المنافسة علي السلطة والحكم والتحكم) او بقية مكونات النخبة التي تشكلها الطبقة المحايدة علي الرصيف، والتي يمثلها نموذجا، الأطباء الراسماليون ورجال الأعمال الطفيليون والتجار الجشعون وأصحاب الشركات والمشاريع الخاصة وغيرهم من الذين يتاجرون بمعاناة بقية المواطنين البسطاء، مستفيدين من تطبيق سياسة الحكومة الإنقاذية برفع مسؤوليتها عن البسطاء، ليواجهوا (الإنقاذ المستترة او أصدقاء الإنقاذ مصلحيا، أي الجماعات الموصوفة آنفا) من دون حماية. وما يميز الإنقاذ فقط، أنها أكثر سفور وبدائية في التعبير عن رغباتها وفي طريقة الحصول عليها.
ولكن هل في هذا ظلم للنخبة المعارضة بكل أطيافها، سواء أكانوا مستقلين او متحزبين؟ لا أعتقد ذلك!؟ وما ينفي شبهة الظلم، ويؤكد تطبعها بالطابع والوعي النخبوي الإمتيازي وإفرازاته المفارقة للوعي التحرري ومضامينه الخيرية العامة! هو مسلك النخبة المعارضة تجاه رديفتها الإنقاذ كما أسلفنا! حيث نجد أن هذا المسلك إتخذ طريقين، أحدهما طريق الهجرة/الهروب الي الخارج، والآخر إتخذ طريق او طابع العزوف عن الشأن العام في الداخل! ولا ينفي ذلك وجود إستثناءات، ولكنها تثبت هذا المسلك ولا تنفيه من شدة ندرتها. أي عوضا عن الإنخراط في مشروع التحرر والتغيير من داخل النخبة، ليخرج التغيير بعدها منطلقا الي الخارج بقوة الدفع الذاتية، حتي من دون محفزات خارجها، معتمدا علي صلابة الأرضية المنطلق منها(الوعي بالواقع وحجم القدرات والظروف المحيطة) وثقة النخبة في نفسها وإيمانها بمشروعها التغييري، وتطوير مهاراتها وأساليبها في الجذب إليه والإقناع به، وقوة إرادتها في إيصاله وإشاعته، والصبر علي تحصيل النتائج دون إندفاع وحرق للمراحل! بمعني آخر، لا يمكن أن تنتج النخبة التغيير وتساهم في نشره وتعميمه وتبيئته في المجتمع، وهي نفسها تفتقد لروحه ومضامينه، ولا نحتاج للتذكير بأن فاقد الشئ لا يعطيه، إن لم يشوه صورة الشئ(التغيير) وسمعته وتاليا أغراضه وفوائده. أي وضوح مشروع التغيير دلالة علي وضوح النخبة ومسؤوليتها، وتاليا سهولة إقناع المجتمع المراد تغييره، ومن ثم إنخراطه في مشروع التغيير، عن إيمان وتصديق وتوقع المردود الإيجابي لعمليات التغيير، حتي ولو تمت بصورة بطيئة! فالعزاء في تراكم الخبرات والتقدم الي الأمام او أقلاه رفضه القفزات الظلامية(من إنقلاب او تبشير بمشاريع طوباوية خلاصية ونحوه، إن لم يُحرم أسباب وجودهما!). المهم تمت الإستعاضة عن كل ذلك، بالسعي وراء مكاسب سلطوية وإمتيازات مادية وإجتماعية نخبوية وقتية وزائلة او مشاغل هروبية واهية، وصولا الي الحالة العجزوية الراهنة، أي النقد من الخاج والتأفف في الداخل. وعموما، مسلك النخبة حاضرا ومسارها التاريخي ماضيا، مناقض للوعي الإستناري والروح التحررية ومندرج بإطمئنان في أحضان الوعي الإمتيازي السالف الذكر! أي النخبة المخلوقة لجني الثمار وليست مهيئة لفلاحة الأرض، وإلا فما دور العوام إذن!؟ أما الأكثر صحة مما ذكر أعلاه، أننا جميعا شركاء في هذا المآل البائس إلا ما رحم ربي. وكل هذا بدوره، يمثل جزء من مظلة الفساد الممتدة بطول التاريخ وعرض البلاد، والذي يقسره البعض علي الفساد المالي وأحيانا الإداري حصرا، ناسيا فساد التربة السياسية والأخطاء التاريخية والممارسات النخبوية، وأثرها الحاسم علي هذه الجرائم الفسادوية المهلكة. وللمزيد من التأكيد علي هذه الوضعية الإحباطية، دونكم التحولات التي تتم من دون مسوغات موضوعية، من صفوف المعارضة الي أحضان الحكومات الإنقلابية المتتابعة(التي شردتها وحزفتها من المشهد الذي إحتلته إرهابيا) كنظام الإنقاذ المتعفن، وقبلها الهرولة نحو دِكتاتورية نميري الهوجاء، وإنقلاب الجنرال عبود المؤسس للسيرة الإنقلابية الكارثية في البيئة السياسية السودانية. وزيادة علي ذلك، إمتداد الظاهرة في كل القارة الأفريقية، من تحوُّل قادة التحرر الوطني الي طغاة، ساموا شعوبهم ويلات العذاب واغرقوقها في مستنقعات الفساد الآسنة، بل لماذا نذهب بعيدا، فتجربة الإسلامويين الكارثية جديرة بالتأمل كمكون نخبوي، ألم يشاركوا في أكتوبر وأبريل والديمقراطية التي أعقبتهما، وبغض النظر عن حجم المشاركة وأغراضها؟ إلا أنهم مثلوا أقصي درجات الإزدواجية والإنفصام والنكوص والإنقلاب علي الشعارات، وتاليا إفساد مفهوم السياسة وتحولها الي مجرد لعبة خيانة ومكر ودهاء.
وطالما الموضوع في الفساد تشعَّب وتعمم ويحق له ذلك، لا بد من ملامسة او سبر جذوره الأبعد غورا او طرق أبواب أحد مداخله، خصوصا منشأ الفساد السياسي لو صدق الوصف، وهو أيضا ليس بعيدا عن إستلاب وتشوهات النخبة الوطنية المتعلمة او أجيالها المبكرة تحديدا، الذين إضطلعوا بمهام السياسة وهموم التغيير! ونقصد بذلك الخلل الذي أصاب مفهوم وأغراض السياسة الوطنية. وهي بدورها أعطاب مصدرها خارجي، وجد ضالته في هشاشة النخبة والبيئة السياسية الداخلية! او مصدرها داخلي، أصر أصحابه علي إستغلال رمزية الإرث العائلي أسوأ إستغلال، لدرجة إفراغ منجزاته من مضمونها! وكنموذج للأول، نجد أن الإتجاه الشيوعي أصر علي إستقدام مناهج ومفاهيم طبقية، لم يتسنَ للمجتمع عيشها وممارستها( إستعلاء مضمر، يبيح للنخبة الشيوعية التوسط بين الداخل والخارج، وتاليا وضع الخارج مكان الأنموذج والداخل كحقل للتجارب، في حين أن الأنموذج المراد إستتباعه نفسه، لا يبدو أنه احدث إختراقات جدية في مسائل من نوعية حقوق الإنسان والحريات العامة والديمقراطية..الخ وذلك إن لم يتحول الي عقبة كأدا أمامها!) كانت محصلتها العجز عن قولبة المجتمع ليستجيب لتلك التفسيرات الطبقية، التي يبدو أن نصيبها من الواقع والواقعية لا يتعدي عقول ورغبات الرفاق الشيوعيين! الشئ الذي جعل جهود وتضحيات الشيوعيين، تضحي محدودة الأثر والتأثير من ناحية، ومن الناحية الأخري، محفزة للعناصر الراديكالية الأكثر دُغمائية، في التمهيد للإنقلابات او مساعدة العناصر الدُغمائية الموازية في المؤسسة العسكرية، في رغباتها الإنقلابية وطموحتها السياسية والأصح السلطوية! وذلك من خلال النظرة التبسيطية المخلة للواقع من جهة، ولإهمال طبيعة المجتمع ومرحلة تطوره من جهة مقابلة! مما جعل مسلكه الأخير محض مغامرة، كان نصيبه منها الخسران المبين علي الحزب والدولة.
ولولا الخلل المقيم في العقيدة والتنظيم، لما كان التأثير الأكبر يميل للعناصر الراديكالية الدُغمائية، علي حساب العناصر الأكثر قدرة علي التفكير والتنظيم(العناصر المثقفة)، التي راحت ضحية إما لثقتها المفرطة في قدراتها الذاتية وطاعة الأعضاء، او في صدقية مشروعها الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. أما الأكثر كارثية من ذلك، أن المشروع الشيوعي لم يكلف نفسه مشقة تصحيح المفهوم الإلحادي الشائع عن الحزب وأعضاءه، في بيئة جلها من المتدينين البسطاء! مع العلم أن الإلحاد شأن شخصي لا يحتاج أن يُعرِف به الشخص او يعلن عنه صراحة، كالإيمان بنفس القدر، وكلاهما لا علاقة له بالشأن العام(والمفارقة أن بعض الملحدين قد يكونوا أكثر تدين من المتدينين البسطاء والمنافقين، من جهة نظرتهم للمرأة والطفل وقضايا من شاكلة مصلحة الوطن وحقوق الآخر..الخ). ولكن يبدو أن الربط بين الشيوعية بماديتها الإلحادية او من دونها من جهة، وبين الوعي والإستنارة والتقدمية من ناحية مقابلة! في ظروف كان فيها المد الشيوعي واليساري أعلي شأنا! كانت كافية للحد من الخوض في هذا الغمار، أي تخليص الشيوعية كقراءة للواقع من الإلحاد كإعتقاد شخصي، علي الأقل لدي وعي العامة او المستهدفين لإستبعاد التشويش، الذي يخلقه الإلحاد كنفي او كمضاد لدينهم، الذي يشكل جزء من تكوينهم وبنيتهم الثقافية والنفسية وغايتهم الوجودية. والسؤال، إذا لم يكن الشيوعيون يكترثون لهذه الإشكالية المشوشة بل والمقلقة للبسطاء او يعطونها ما تستحق من الإهتمام؟ فكيف يدعون خدمة البسطاء او رفعة شأن الضعفاء؟!! فليس هنالك خدمة تقدم او رفعة ترتجي، أكثر من تنوير عقول البسطاء والتواضع في عرض المعرفة والبرامج وإزاحة الشبهات من أمامهم، وقبل ذلك إحترام ذواتهم التي لا يمكن فصلها عن ثقافتهم وعقائدهم، وكذلك الإيمان بأن المخاطبين (البسطاء) كاملي الأهلية ولا ينقصهم الذكاء الفطري كبديل عن مؤهلات الإستاذية التي تحمل إليهم من أعلي، والمتجسدة في إحتكار الوعي والإستنارة والتقدمية!
أما تجسيدها حقيقة او عكسها علي أرض الواقع، في شكل تحرير وعي البسطاء او رفع مستوي الإستنارة العامة، بل حتي علي بقية مكونات النخبة المتعلمة، فهذا ما يستجلب الكثير من الشكوك، إن لم يصل لمرتبة الفشل الذريع! وما تمدد التيار الإسلاموي وتمكن الأثر الطائفي في البيئة السياسية، إلا دليل علي درجة ذاك الفشل. وعلي العموم، حقيقة الوعي وصدقية تأثيره، تختبر بنفي الأستاذية عن الذات ورفع الوصاية عن الآخر! علما بأن الفوارق سواء في مستوي التعليم او الوعي، خصوصا في الأوضاع السودانية التاريخية، ناتجة من التفاوت في الفرص المتاحة(بمستويات ومجالات متعددة) أكثر من أي عامل آخر. ولكن ما هي أخطر النتائج التي ترتبت علي هذا التقصيَّر؟ أعتقد أن الخطر الماحق لهذا التأثير السلبي، وهو للأسف من المسكوت عنه في تناول أوضاعنا السياسية في تاريخها القريب! أن هذا التقصيَّر منح مشروعية لجماعة لا مشروعية لها، ومصداقية لجماعة هامشية لا مصداقية لها، ومستقبل لجماعة لا تنتمي ليس للحاضر فقط، ولكنها مشدودة كليا للماضي وتاليا تطورها عكس حركة التاريخ! والمقصود بالطبع جماعة الإسلام السياسي، التي بنت مشروعها ومشروعيتها وصممت خططها ودعايتها او القسم الأكبر منهما، علي معاداة المشروع الشيوعي والتشكيك فيه وفي قياداته وأعضاءه، مستفيدة من العاطفة الدينية لدي الجمهور العريض المُخاطب من ناحية، وإنتهازية قيادتها من الناحية المقابلة. وهو مشروع بدوره لم يبتعد كثيرا عن عملية التبسيط المخل للواقع ومراحل تطور المجتمع والوطن، وتاليا، قدرة تحملهما هذه المشاريع المفارقة، التي تتساقط عليهم كالحمم من أعلي! ليتم حشرهما في نظرة دينية ضيقة، ضاقت حتي بأعضاءها لينقسموا فرقة بعد أخري! ولولا كاريزمية دكتور الترابي لدي أتباعه المغيبين(وكل كاريزمة تحمل بطبعها حمولة من التغييب!) لأنتهي أمر هذه الجماعة المتسلقة منذ أمدٍ بعيد! أي بوصفها جماعة مُزوَّرة ومُزوِّرة، ومدعومة بوعي وأدوات أكثر تشويش وتزوير. وهذا التبسيط بنفس القدر، وسم أحزاب القومية العربية بإمتداداتها الإقليمية وهواجسها الإمبريالية، وذلك قد يرجع لأسباب منشأها، أي نتجت كردة فعل ضد النفوذ التركي والإستعمار الأجنبي في الدول العربية، أكثر من كونها نابعة من مبادرة ذاتية عربية او وطنية، وتاليا معنية بمعالجة إشكالات الواقع، بفهم وممكنات الواقع، وصولا لدفع المجتمعات والأوطان الي الأمام! أي كأنها تحمل بذور فناءها في داخلها(التركيز علي الخطر الخارجي) وتاليا تتسرب مشاكل الحاضر من بين أصابع قراءتها ورؤيتها الضبابية، وهو ما جعلها تؤذن في مالطة او غريبة الوجه واليد واللسان، عن تعقيدات واقع شعوبها وتداخل قضاياه وراهن إحتياجاته، وكأن معاداة الخارج تجلب القوت والديمقراطية والكرامة للشعوب! ولكن ما هي أسباب هذا التبسيط المخل للواقع، الذي وقعت فيه الأحزاب التي توصف بالحداثة!! هذا التبسيط يرجع أساسا، لعدم ثقة هذه الأحزاب في شعوبها، التي صمت الآذان بشعارات الدفاع عنها ورغبتها في تطويرها! وتاليا إستعجال الوصول الي السلطة، لإخراجها من التيه والضلال والتخلف! ولكن هذا الإستعجال حرمها خصلة التأني، التي تميز الباحثين الجادين والمخلصين، في الدراسة المستفيضة للواقع والوعي بتعقيداته ومعرفة أفضل السبل لعلاج إشكالاته، ومن ثم دفعه الي الأمام! بمعني آخر، الإشكالية ليس في أن تحكم، ولكن لماذا تحكم وكيف تحكم وما هي أهداف حكمك ووسيلته ورأي المحكوم فيك وفي حكمك؟ وقبل ذلك هل حقيقة أنت جاهز للحكم او مؤهل له، او الوسيلة الوحيدة لإفادة شعبك وعلاج قضاياه لا تمر إلا عبر الحكم؟! ولماذا تنحط مرتبة الشعوب وإحتياجاتها، الي مجرد أدوات وأرقام تتلاعب به النخب من غير هدي او منهج مبين او سلوك قويم؟ وما قيمة الحكم لها، إذا كان هذا مفهوم الحكم ووسائله ورجاله؟! وكانت نتجة هذا التبسيط السالف الذكر، أن إستتبعته بساطة الحلول المطروحة، أي الإيمان بعقيدة خلاصية، تملك قدرة تقديم الحلول بضربة واحدة، لأ يصدف أن تكون إنقلابا، يضيف عبء جديد وخطير ومكلف، علي المشاكل والتعقيدات الموجودة أصلا، بدلا من حلها! وفي هذا هروب وقفز علي تعقيدات الواقع وليس حل بالطبع. وهذا لا يؤكد بؤس مشاريع الحلول المطروحة فقط، ولكنه يؤكد أيضا ضعف وهشاشة وفقر وطمع حاملي ومطبقي هذه المشاريع! علي العموم هذا التبسيط الموصوف أعلاه، يمثل بدوره أحد مداخل الفساد السياسي الأساس الذي ضرب جسد الدولة السودانية، وحقن الساحة السياسة بمصل الشعبوية! وتاليا مهد التربة لولوج وإتباع قادة قصار القامة الوطنية وقليلي الإمكانات المعرفية والمواهب السياسية والإدارية، ولا يُستغرب أن تنكبوا الطريق الديمقراطي المستقيم، لينتهي بنا المطاف الي هذا المصير(المطب) الإنقاذي الخطير! الذي بدوره يمثل خلاصة الفشل النخبوي المديد.
ولكن ما هي الأسباب التي دفعت النخبة السودانية، بقضها وقضيضها او بضعفها وهشاشتها الموصوفة سابقا، الي الإرتماء في أحضان المناهج والمشاريع والأفكار الخارجية! بدلا من إبتكار مناهج وأفكار وتطوير وسائل وأدوات محلية، تتناقم مع معطيات الواقع وميول مواطنيه، بقدر ما تعالج إشكالاته وتدفع بمواطنيه قدما الي الأمام. أعتقد أن السبب الأساس في ذلك، والذي بدوره يقودنا الي مصدر الإعاقة او مصدر العطب الداخلي الذي أشرنا إليه مسبقا، وهو الطائفية، كمنظومة دينية إجتماعية ذات مطامع سياسية تتوسل الأسرة وتاريخها(من وجهة نظرها بالطبع) في الوصول الي السلطة وإحتكارها كحق مقدس. أي كل رصيدها الشرعي مسألة تاريخية، ليست ذات صلة بالواقع، الذي تسعي للسيطرة عليه والتحكم في معاصريه! وتاليا هي ليست مؤهلة فقط، ولكنها غير مواكبة لا لظروف راهنها المحلي( وكذلك الإقليمي والدولي) ولا للآفاق التطورية المطلوبة والمتوقعة، فوق أنها أضعف من مقاومة جاذبية الأفكار والمشاريع الخارجية. أي هي أكثر هشاشة وإهتراء من تحمل الفعل والأعباء والآثار التحديثية، ولذلك هي معادية للحداثة بطابعها والتحديث ببنيتها وتكوينها وطموحاتها! وإن إعتلي قيادتها من يوصف بالعصري وتحدث بكل لغات العصر الحية ومفاهيمه التنويرية التحديثية! والسبب في ذلك بسيط، وهو أن الحداثة والعصرية تهدد ووجودها ذاته، وتاليا مشروعية القيادة، إذا صدقت في حداثتها وعصريتها! بمعني الحداثة وبما هي عدو للطائفية، ولا يمكن تساكنهما، والعلاقة بينهما يحكمها التناقض، والأصح العجز في تقبل او تحمل الطائفية للحداثة بكل طاقاتها وأشكالها وترميزاتها، فإن أي ربط بينهما سواء في مركز القيادة او الحديث بلغتها، لا يعدو أن يكون إنفصام سياسي، نتائجه أسوأ من أزمة الطائفية النقية، التي قد يسهل محاصرة آثارها السلبية وصولا الي إنتهاء دورها بصورة ودية، أما الإنفصام(الإنقسام الحداثي/الطائفي!) فيصر علي البقاء وعدم التسليم بالنهاية، رغم الخسائر التي يحدثها علي الحداثة، وبصورة أكبر علي الطائفة، مما ينذر بنهايتها العنيفة(غير المطلوبة!) المهم، كل ذلك جعل العباءة والجلباب الطائفي يشكل فعل إعاقة للتطور السياسي، فوق كونه خانق لأي تطلعات سياسية مستحقة ومطلوبة لمن لا ينتمي للطائفة بالنسب(خصوصا قيادة الطائفة) مهما كانت درجة إمكاناته القيادية ومواهبه السياسية والإدارية. هذه الوضعية الخانقة بفعل إمتلاء الفضاء السياسي بالوجود الطائفي، جعل النخبة السودانية في تلك الظروف تهرب لتنسم هواء فكري وسياسي نقي من الخارج، لتجد نفسها وقد أصبحت رهينة لأفكار ومشاريع لا تمت للوضعية الداخلية بصلة، إلا صلة كونها من الخارج وصادرة من الآخر المتفوق، والمتبنون مفتنون بذاك الخارج والآخر الأكثر تفوق. وبدلا من مراجعة نفسها وبرامجها المستجلبة، والإنطلاق من الواقع لخلق التكيُّف بينهما، نجدها أصرت علي القيام بالعكس لجعل الواقع يتكيَّف مع قراءتها وما تؤمن به من نظريات إبنة بيئتها المغايرة، وبكل ما يحمله ذلك ليس من إستحالة فقط، ولكن من النظرة للواقع بتعالٍ في الحد الأدني، ومحاولة تغييره قهريا وعنفيا في حده الأقصي! وكل هذا قاد كما أسلفنا لفساد البيئة السياسية، بالتكريس لأزاحة الشعب صاحب المصلحة، من حقه في الإختيار والمشاركة والإضطلاع بأعباء التنمية وتحسين شروط حياته من موقع إيجابي فاعل! وذلك عبر فتح الطريق أمام الأقزام(من العسكر) وبمساعدة الأحزاب المترفعة(المتعالية والحكيمة) ليحكموا ويتحكموا في هذا الشعب، معظم تاريخ الدولة السودانية الحديث. وهذه وضعية لا يمكن نفي الفساد عنها او رفع تهمة تأسيسها لأي فسادٍ تالٍ، وبغض النظر عن طبيعته، مالي إداري إقتصادي تنموي..الخ. وقبل مغادرة هذه الجزئية، يجب الإشارة للعلاقة العضوية ما بين النظم الإنقلابية رغم طابعها المظهري المعادي للطائفية، وما بين بقاء وديمومة الطائفية حتي عصرنا الراهن، وبغض النظر عن حضورها الكاريكاتوري وتطلعاتها الرجعية، وإنتفاء الحاجة إليها آنيا، إلا كفلكلور في المتحف القومي او المعارض لتعميق المعرفة بالتاريخ وصنع الفرجة والتسلية البصرية.
بمعني، لولا تدخل العسكر في الشأن السياسي والسلطوي، والتهور الذي يسم قادة إنقلاباتهم، والقصور الذي يتركز في وعيهم وممارساتهم، وتاليا قطع الطريق علي التطور السياسي الطبيعي! لأنتهي وضع الطائفية وقُطع دابر تأثيرها في الداخل منذ وقت مبكر. أي كمرحلة طفولة سياسية، قادر التطور والنضج السياسي علي تجاوزها وحذفها من المشهد السياسي والوطني! وكذلك حذف قادتها إن لم يواكبوا التطورات السياسية، معتمدين علي قدراتهم الذاتية وبنفس وعي وأدوات التطورات السياسية المرافقة. وهذا إذا كانوا يثقون في أنفسهم وقدراتهم حقيقة! وهنا تحديدا تتحدد حرية وإستقلال الأتباع او أقلاه توافر شروط إستقلالهم، فلا حرية سياسية في وجود عوامل خارج الإرادة والخيارات السياسية الواعية(الطائفية) وكذلك في ظل تواجد وقداسة الروابط الأهلية والمناطقية والدينية..الخ. المهم أخطاء ونكبات المؤسسة العسكرية ممثلة في بعض (فتواتها او شفوتها) لا تتجسد في سيادة الفراغ السياسي والتنموي والتشوه الإجتماع والإقتصادي فقط، ولكنها تتجسد بصورة أكبر في إعاقة التكوينات السياسية الأخري والأجدر بالبقاء(الأحزاب) من معالجة أخطاءها الذاتية والبينية(المزيد من الممارسة والمنافسة الديمقراطية يعني المزيد من النضج والتطور السياسي) ومداواة جروحها الداخلية( إستقلال الأعضاء والمراكز وتناوب المهام والوظائف والقيادة) التي لم تجد حظها من المعالجة والمداواة، بحجة لا صوت يعلو فوق صوت مقاومة الإنقلاب! مع أن العكس هو صحيح، أي إصلاح الذات(الأحزاب نفسها) هو المقدمة المنطقية ليس لإزاحة العسكر من سدة الحكم فقط، ولكن وهو الأهم إبعادهم خارج دائرة التعاطي السياسي، وذلك بتحرير السياسة من العنف والتلاعب بالشعارات والبحث عن الكم(عدد الأتباع) دون الكيف(زيادة وعيهم وتحريرهم) وربطها بالشرعية الجماهيرية والدستورية والشروط الديمقراطية والبرامج التنموية والواقعية والطموحة في آن، التي أتقنت حرفتها الأحزاب السياسية سلفا. والدليل علي خطأ إتباع سيناريو صوت المعركة(شعار حق يراد به باطل!) غير بقاء العسكر مدة أطول، وتاليا تأزيم الأزمات وإستفحال الأخطاء! هو حالة التحلل والتفتت التي ضربت الأحزاب، والتكلس والدنصرة(من الديناصور المنقرض) التي طالت الزعماء(وليس القادة، بالمعني الحديث للقيادة) وكأنهم كائنات غير بشرية او من كوكب آخر (فضائيين، بقدر تراجعهم الأرضي!) ولا تؤثر فيهم عوامل التعرية الزمنية من تقدم العمر والمرض(وهي محاطة بكل هذه الضغوطات) ومحدودية القدرات مع تشعب القضايا وتجددها..الخ! والأسوأ أنها تؤمن في قرارة نفسها بإيمان العجائز، أن بقاء الحزب وتماسكه وفاعليته مرهون بوجودها! وغير نسيان الموت الذي لا بد مدركهم وإن كانوا في حصن القيادة الآمن، وتاليا ما مصير الحزب آنذاك؟! فإن هكذا مسلك وتصور وتاليا تكريسهما كثقافة مقبولة وكممارسة فعلية، لهو دلالة علي الفشل إن لم نقل جريمة في حق النفس والحزب والوطن. وإن لم يكن في كل هذا فساد، فما هو الفساد إذن؟! ولكن بصورة إجمالية، هل قسونا علي المعارضة؟ او كانت هذه النظرة العجلي علي تاريخنا السياسي الحديث، والذي بالطبع أحاطت به ظروف معقدة لا بد أنها غير مُدركة هنا، كانت متجنية ومبتسرة وإنتقائية تتقصد السلبيات وكارهة للنخبة(رغم عدم ضبط الكلمة والمفهوم!)؟ علما بأن محور المادة يدور حول سيادة الفساد وإنتصاره بالضربة القاضية علي مجمل تاريخ الحراك السياسي! أي تخطي فساد الحاضر الذي يصعب وصفه او تحديده او حصر حجم أضراره في مجلدات كاملة، ووصولا الي تقصي جذوره التاريخية وبالتركيز علي الأبعاد السياسية! ويستلزم هنا أيضا، التنويه للفصل ما بين الإستفادة من تجارب الغير والمتقدم علي وجه الخصوص، بروح نقدية تتقصد الجوهر المفيد في كل منجزات الآخر (الحضارة الغربية خصوصا) بكل معطياتها، وتاليا خلق روابط وصلات تمكن من إدراج هذه المنجزات والمعطيات في البئية الداخلية تدريجيا، مع إحترام ظروف تكوين ومميزات هذه البيئة وساكنيها! أي بإستيعاب كلا الطرفين، حالة الواقع(الداخل) وإمكاناته المتوافرة وإحتياجاته بدقة، مع الحفاظ علي روحه من الذوبان. ومميزات وإمكانات منجزات (الخارج) وما يقدمه من إضافة للداخل دون إزاحة لهوية الداخل(تجربة اليابان في علاقتها مع الغرب رغم هزيمتها علي يديه!) وما بين إستجلاب مشاريع خارجية جاهزة(وغالبا غير جدلية لو جاز التعبير) ومحاولة فرضها قسريا علي الواقع! ومن دون تفحصها جيدا، او أخذ رأي بقية المواطنين المستهدفين في قبولها او رفضها! ولا يبرر هكذا مسلك إستبدادي حسن نية حاملي تلك المشاريع! وكم أوردة حسن النية هذه، شعوبا عدة في المهالك، وأمامكم كتاب العالم الثالث والتاريخ المظلم والدموي، للتأكد من نماذج تلك التجارب البائرة والبائدة! وكذلك نشير الي أن إستخدام كلمة طبقة التي ترد كثيرا، لا تعني مطابقة للواقع، بقدر ما تعني تمييز يسهل الوصف. علي أن كل ذلك لا يهضم حق ونضال شيوعيين وطنيين، حرصوا علي تطوير الشعب ورفعة الوطن، ومازال بعضهم يواصل الدرب وما بدل تبديلا، ولو أن التجارب الخارجية والممارسات الداخلية، فعلت فعلها في الجميع وتركت أثرها علي الجميع. بالعودة لحكم الظلم الذي قد يظن البعض أنه شاب النظرة أعلاه علي المعارضة والنخبة! لا أعتقد أن هنالك ظلم او قسوة خصوصا أنه كان في الإمكان أبدع مما كان؟! ودونكم تجربة الهند، التي تشابه ظروفنا بما فيها الإستعمار البريطاني وتأثيره، إن لم تكن أكثر تعقيدا منا! ولكن الفارق أن الهند قد منحها الحظ او القدر او البيئة او غيرها من العوامل، قادة عظام ونخب محترمة وصلبة وشديدة المراس والثقة بنفسها وبمواطنيها وتراثها. لتستفيد مما تركه الإستعمار من خدمة مدنية متطورة وتجربة ديمقراطية واعدة! وتعمل علي المحافظة علي تلك الخدمة وتحسينها، وتحافظ علي الديمقراطية وتواصل تمتينها وتمكينها، من خلال إحترام الدستور والقوانين والتداول السلمي للسلطة وحقوق الإنسان ..الخ رغم تعقييد المجتمع وزيادة تبايناته! وأنعكس ذلك علي حالة من الإستقرار، سهلت تطبيق وتطوير برامج التنمية والإنفتاح علي العالم..الخ، من علامات التقدم والتطور والمواكبة. ورغم بعض المنغصات كالإنفجار السكاني ومشكلة كشمير..الخ، إلا أن فرص علاجها والحد من تأثيراتها السلبية، أفضل في ظل الوضع الذي تعيشه الهند الديمقراطية الآن، بما لا يقاس، مقارنة مع الهند الإستبدادية او العسكرية التي لو غيض للظروف والنخب الهندية أن تدفع بها إليها. وهنالك إحتمال راجح أن يكون السبب في تطور الحياة الديمراطية والتنموية في الهند، هو وجود طبقة وسطي واضحة القسمات بقيمها ونشاطها ومفاهيمها، قادرة علي المحافظة علي التوازن الداخلي وقيادة مشاريع التطور! علي عكس ضبابية هذه الطبقة في الداخل، كوجود وكمفاهيم وكقيم! الشئ الذي جعل القيم الرعوية المحمية بالبزة العسكرية، تحتل الحضور الأعظم من مجمل التاريخ الوطني الحديث. وهنالك تعبير للكاتب الأمريكي بول كروغمان قد نجد فيه بعض التفسير، يشير فيه الي أن قيم الطبقة الوسطي لا يمكن توافرها إلا في إقتصاد يدعم وظائف الطبقة الوسطي، او شئ من هذا القبيل. أما الأهم من كل ذلك، والذي يجعلنا لا نتأسف علي الوصف او الحكم أعلاه، هو ما آل إليه مصير وطن بحجم قارة وبكل هذا التنوع والثراء، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
آخر الكلام
قد تتعدد تعريفات وممارسات وآثار الفساد، بتعدد المجتمعات ووجهات النظر والقيم والثقافات وطبيعة القوانين..الخ ولكن الفساد الموصوف أعلاه يندرج تحديدا في مفارقة الوسطية والإعتدال والإنحراف عن القيم الإيجابية في المجتمع والمصلحة العامة منظورا لها من خلال المحافظة علي حقوق وكرامة المواطنين ومؤسسية وحيادية الدولة وأجهزتها تجاه كل مكوناتها الداخلية بكل تشعباتها، وعليه يصبح الإنقلاب وإحتكار القيادة ونهب الأموال وسوء الإدارة والتطرف والعنف والإرهاب وإهدار دماء الأبرياء، لهو أسوأ أنواع الفساد وأشدها فتكا بالعباد والبلاد. ودمتم في رعاية الله.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.