أين جرى هذا الحوار المجتمعي لولاية الخرطوم !! وفي أي ساحة أو ميدان إجتمع المليوني مواطن الذين ذكرهم المهندس عمر البكري أبوحراز الذي عيّنه الوالي عبدالرحيم حسين رئيساً للجنة العليا للحوار !! (في كلمته ذكر الوالي أن العدد كان مليون واحد قبل أن يستدرك بسرعة ويجعله مليونين)، وأيّ إجتماع هذا الذي يُمكن أن يُسمع ويُناقش فيه رأي ملوني شخص حول موضوع معين وينتهي إلى (مُخرجات) في بحر شهر أو شهرين أو حتى ثلاثة !! وكيف تُؤتمن لجنة يفتقر رئيسها المقدرة على التمييز بين الذين شاركوا في الحوار والقضايا التي تمت مناقشتها، فقال في خطاب تسليم وثيقة الحوار أن الذين شاركوا في الحوار هم قطاعات المرأة والطلاّب والشباب والمعاشيين والوحدة والهوية (هكذا)، ولا يجد حرجاً - رئيس اللجنة - في أن يقول عن نفسه أنه من (أبرز رموز) مجتمع ولاية الخرطوم، هو ولجنته، ثم يعقب ذلك بتلاوة سيرته الذاتية كاملة على الهواء والتي جاء فيها أنه كان رئيس لإتحاد الكرة ورئيس سيكافا ورئيس إتحاد المهندسين والأمين العام لإتحاد المهندسين العرب ..الخ . ثم، أين (المُخرجات) نفسها !! حتى تُقام لها هذه الزيطة وتُقفل لها الكباري وتُغلق لها الطرق ويُجمع لها كل هذا الحشد من التلاميذ والدراويش والعطالى والمتسكعين !! لماذا لم تُتل المُخرجات على مايكرفون الحفل حتى يعرف الناس ما الذي جزم الرئيس بتنفيذه على المغطى وقبل إطلاعه على محتويات وثيقة المُخرجات !! وما الذي يُبهِج تلك الجموع ويجعلها ترقص وتنتشي لوثيقة لا تزال مجرد ورقة ولا علم لها بما تحتويه!! هذه زفّة لا تعود بفائدة سوى على مطربين خرجوا من السوق ولم يعد عليهم طلب، فالرئيس نفسه الذي رُفِعت له التوصيات ذكر في خطابه بما يعني أن المخرجات نفسها ليس لها لزوم ، فقد ذكر – قبل أن تضرب يده أي مُخرَج – بأن البلد في نِعمة وأن كل أفراد الشعب متساوون ولا يوجد مواطن درجة أولى وثانية وثالثة، وأن الشعب - أساساً - يعيش في سلام وحرية وينتظره خير كثير ووفير، ووصف الذين يقفون ضد حكمه بأنهم أعداء وخونة ومُرجفين ومرتزقة (بشّر الرئيس قبل أسابيع في خطاب جماهيري بحل كل معضلات السودان في بحر هذا العام بتوسع مشروع الجزيرة عشرة أضعاف ما كان عليه قبل كبوته وإحياء سودانير بشراء أسطول طائرات ومثلها من السفن ..الخ). ليس هناك في قاموس السياسة حوار يشارك فيه شعب بالملايين وبطريقة مباشرة على الساحات والميادين، هذا تهريج وتزييف وسرقة لسان، وقد أدركت شعوب العالم منذ قرون الصعوبة العملية في حدوث ذلك (أن يجتمع الشعب ويقرر ما يريده)، ومن هنا جاءت نظرية التمثيل البرلماني، حيث يقوم الشعب في كل منطقة بإختيار شخص يثق فيه ليكون مندوباً عنه في تبليغ وجهة نظره للحكومة، ويُفهم من ذلك أن النظام يعترف بعدم جديّة تمثيل البرلمان للشعب. ثم، أهم من كل ذلك، ماهي (المُخرجات) التي كانت غائبة على الحكومة حتى تستعين بالشعب للوصول إليها ! فالصحيح أن النظام يعرف ما سبب الوحسة التي يعيشها الوطن، وأي تلميذ بيده هاتف ذكي يستطيع أن يرسل بنقرة صغيرة عليه قائمة بكل المشاكل والحلول. أُس مشكلة الوطن أن نظام الحكم فيه قد نذر نفسه لخدمة (جماعة) لا خدمة شعب، فقد جعل النظام الشعب مثل الفلاحين في عزبة الباشا، يضرب الأرض ليأكل النظام خيراتها، يفترش الحصير وهو ينسج لحاكميه مفارش الحرير ليناموا عليها، ويدفع لهم الضرائب والمكوس لينفقوها على مباهج الحياة التي يعيشونها، شعب عليه واجب تعبئة خزينة الدولة بالأموال، وحكام ينفقونها على أنفسهم وعيالهم، وليس صحيحاً أننا كلنا مواطنون من درجة واحدة، فنحن شعبان لا شعب واحد، شعب يقوم ب (الواجب)، وآخر يجني (الحقوق)، شعب من (البدون) وشعب من أبناء (الانقاذ). هل يوجد مُعسر أو فقير من أتباع النظام !! هل يسكنون كما يسكن الشعب ويأكلون مثله!! هل يتردد أهل السلطة على المستشفيات العامة ويزحفون في الصفوف وبأيديهم بطاقات صحية حتى يأتي عليهم الدور لمقابلة الطبيب ثم يخرجون منه بلا علاج!! (ده حتى الشيخ عبدالحي تعالج من كسر في رجله بمستشفيات ألمانيا)، هل رأيت واحداً من أهل السلطة ضمن حجيج البواخر الذين يمضون أسابيع على أرصفة الموانئ !! هل رأيتهم يركبون المواصلات العامة وينتظرون الحافلات ويتقافزون عليها عند وصولها بالشبابيك !! هل يوجد (كوز) عاطل !! هل يمكن لمواطن أن يحصل على وظيفة وهو من خارج التنظيم الحاكم أو المتعاونين معه !! هل رأيت كيف يتقافز (الكوز) الواحد بين أكثر من وظيفة بحسب رغبته وهواه، فيترك العمل بالتلفزيون ويلتحق بالخارجية، يمضي سنتين من العمل في بنك ثم يطهق من الوظيفة ويتحول إلى لواء شرطة، أنظر إلى السهولة التي يحصل بها (كتاكيت) الكيزان من الخريجين على الوظائف، فيما يتسكع أبناء وبنات السودان من خارج التنظيم في سوق العطالة وأوفرهم حظاً يعمل سائق عربة أمجاد. نعم، ليست هناك معضلة تُقعِد بالوطن يحتاج فهمها لمؤتمر ومُؤتمِرين ولجان، فمشاكل الوطن ومحنته واضحة مثل الشمس في النهار، أهمها قضية الحرب وإيمان النظام بمقدرته على حسم الحرب بإنتصار عسكري، وعدم جديته في معالجة الأسباب التي أدت لإشتعالها، وما يريده الشعب هو تشكيل حكومة إنتقالية قومية تشرف على قيام إنتخابات حرة وحقيقية، وأن تُلغى القوانين المقيدة للحريات، وأن يصدر الرئيس قرار اً حاسماً بتجميد أصول وأموال جميع الذين شغلوا مناصب دستورية بالدولة، وأن يجري تحقيق بواسطة أشخاص محايدين من خارج النظام مع كل الذين وردت وترد أسمائهم في قضايا الفساد من مسئولين وتجار وتقديمهم لمحاكمات علنية، وأن يبدأ الرئيس في ذلك بأقرب الأقربين إليه، لتُسترجع كل الأموال المنهوبة بالداخل والخارج، وهي أموال كافية وحدها لسد عجز ميزانية الدولة، وأن تتم محاسبة من تقع عليهم مسئولية تصفية مؤسسات الدولة في الزراعة والصناعة والخدمات، وكذلك محاكمة الذين إرتكبوا جرائم القتل والتعذيب وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وأن يُعاد بناء أجهزة الدولة في الجيش والشرطة والقضاء والخدمة المدنية من جديد وعلى أساس قومي بإعادة المفصولين تعسفياً من الخدمة وفتح باب التعيين في أجهزة الدولة على أساس المؤهل والكفاءة، وأن تُراجع سياسة الدولة في التوسع الأرعن في التعليم العالي، ومراجعة سياسة تحرير الإقتصاد بما يضمن مسئولية الدولة الكاملة عن التعليم وعلاج المواطنين. كل ما هو خلاف ذلك لا يزيد عن كونه (مُخرجات) الوالي عبدالرحيم حسين ولا يستحق أكثر من أن يغني له "البعيو". سيف الدولة حمدناالله [email protected]