إن توجهات وتوصيات الأممالمتحدة لمكافحة الجريمة ومعاملة المجرمين تنادي بالبعد عن التجريم ما أمكن ذلك والتوجه للوسائل المدنية وتنظيم العلاقات التجارية مما يوفر الجهد والمال والزمن للشرطة والمحاكم الجنائية وبفسح المجال لأن توجه تلك المجهودات لمكافحة الجرائم الأخرى كالقتل والسرقة..إلخ، مما يؤدي إلى تفادي الأثر السلبي النفسي والاجتماعي والأخلاقي للمقبوض عليه. تنص المادة (11) من الاتفاقية الدولية بشأن الحقوق المدنية والسياسية أنه لا يجوز سجن إنسان على أساس عدم قدرته على الوفاء بالتزام تعاقدي فقط. أمامنا هنا المادة (179) من القانون الجنائي السوداني لسنة 1991م التي تنص "تجرم كل من يعطي شخص صكا مصرفيا وفاء لاتزام أو بمقابل ويرده المسحوب عليه". إن ظاهرة إساءة استخدام الشيك اصبحت ظاهرة تدعو للقلق وتؤثر سلبا على الثقة الموضوعة في الشيك مما يعيق المسار الإقتصادي ويؤثر على الدورة النقدية البنكية مما حدا بالمشروع أن ينقل عدم الوفاء بالشيك من تعامل مدني تجاري إلى فعل جنائي يستوجب العقوبة. ولكن السؤال: هل إضافة الصبغة الجنائية على الشيك المرتد أوقفت التلاعب به؟؟ الاجابة لا، بل أصبح الشيك في حد ذاته مشكلة وأداة من أدوات النصب والاحتيال، فإذا نظرنا من منظور وزاوية أخرى نجد أن إضفاء الصبغة الجنائية على الشيك وما أعطته للشيك من قوة وثقة قد استغلها بعض ضعاف النفوس لأكل أموال الناس بالباطل وذلك باستخدام الشيك كوسيلة لاقناع الطرف الآخر لإكمال المعاملة التجارية ومن ثم يختفي محرر الشيك تاركا للطرف الآخر ملء يديه من الريح. لذا أرى لابد من معالجة هذه المادة. إن النيابة العامة حاليا تقوم بحبس المدين محرر الشيك (ولا أقول المتهم) لمجرد تحرير الشيك ورجوع الشيك بدون صرف وأرى أن ما يجب على النيابة العامة أن تقوم به هو التحقق من وجود بينة مبدئية بأن هناك سوء نية من وراء تحرير الشيك وهو من صميم عمل النيابة العامة وهي التحقق من وجود بينة مبدئية لارتكاب الفعل المجرم وما تقوم به النيابة الآن مبني على المبدأ القانوني القديم مبدأ المسئولية المطلقة strict liability التي تجرم الفعل لمجرد ارتكابه دون النظر لوجود القصد الجنائي في الفعل وهي نظرية قانونية عفا عليها الدهر. تنص المادة (198) من قانون القضاء المدني "أن تتبع المحكمة إجراءات تستقصي بها لمعرفة أن سلك المدين سلوكا سيء النية للامتناع أو لتفادي سداد الدين فإن ثبت سوء نية يكون تحت طائلة القانون الجنائي وإن لم تثبت يكون تحت طائلة القانون المدني". في تقديري المتواضع أن هذه المادة يجب أن تكون من اختصاص النيابة الجنائية في مرحلة التحري وأن تعدل عبارة "إن ثبت سوء نية" بأن تصبح "إذا كان هناك بينة مبدئية لسوء نية" كما نعلم أن مهمة النيابة فقط هي البحث عن البينة المبدئية لتجريم الفعل إذ أن الإثبات ليس من مهام النيابة وإنما القضاء، فإن لم تجد شبهة قصد جنائي من وراء كتابة الشيك عليها أن تشطب البلاغ وأن يكون محله المحاكم المدنية إذ لا بد من التمييز بين أفعال التاجر الأمين الذي مرت به ظروف محددة حالت دون الوفاء بالشيك (نظرية الظروف الطارئة force Majuor. وتظهر مساوئ المادة (179) جنائي في حالة أن يكون الشيك صادر من شركة وكما يعلم الجميع أن للشركة شخصية إعتبارية خاصة بها منفصلة عن شخصية المساهمين وشخصية مدير الشركة، مدير الشركة هو فقط الأداة المحركة لهذه الشخصية الإعتبارية فعندما يحرر هذا المدير شيكا باسم الشركة ويرتد الشيك يقبض على مدير الشركة دون مراعاة للشخصية الإعتبارية للشركة المنفصلة عن شخصية المدير وهذا يلغي مبدأ الشخصية الإعتبارية للشركة وهو مبدأ أساسي في قانون الشركات. وتظهر هذه المساوئ أكثر عندما يترك المدير محرر الشيك عمله في الشركة ويحل محله مدير آخر هنا يتم القبض على شخص المدير الجديد "فطبقا للقانون يتعامل الدائن مع شيك الشركة في شخص مديرها الحالي" ويودع الحراسة وبالرغم من أن الحراسة قانونا لا تعتبر عقوبة إلا أنها تحرم الشخص من حريته وهي أعلى ما يملك وهذا يشابه قانون حامورابي القديم ففي أحد نصوصه "إذا قام بنأ ببناء بيت وانهار ذلك البيت وقتل ابن صاحب البيت يقتل ابن البنأ" مما يعني معاقبة شخص عن فعل لم يرتكبه. إن كل هذه المساوئ هي نتيجة للخلط بين قواعد القانون التجاري والقانون الجنائي، لذا أرى أن تعدل المادة (179) جنائي وأن تقسم أنواع الشيك الصادر من شخص طبيعي تبعا لوجود بينة مبدئية لسوء نيته أو عدمها. بعد أن تتحرى النيابة من ذلك وإلا أصبح الشيك المرتد فعلا مدنيا. أما الشيك المرتد من شخص إعتباري يجب أن يكون دائما فعلا مدنيا إلا في حالة استعماله كأداة للاحتيال من قبل مدير الشركة ويكون مكان ذلك هو المحكمة المدنية من ضمن مطالب الدائنين في المحكمة لاثبات سوء نية المدير تجاه دائنين الشركة Fraudulent trading. هنا قد يثار تساؤل هو إحجام المتعاملين مع الشركة عن قبول شيكات الشركة إذا ما أصبح شيك الشركة فعل مدني وليس جنائي، وأقول هنا يجب عليهم أن يطلبو ضمانات أخرى للشيك كرهن عقاري أو شيك شخصي من مدير الشركة وبذا يكون المشرع قد أرجع مبدأ الشخصية الاعتبارية للشركة. ومن جهة أخرى حتى تضمن الجهات المالية قوة الشيك يمكن أن تتبع أسلوب قياس الإلتزام بسداد الديون Check Score Credit ويتمثل ذلك في فتح مكتب مختص بتخزين المعلومات عن التزام الأفراد والشركات بالوفاء بالشيك مما يمكن الشخص قبل أن يقبل الشيك أن يتحصل على مدى مصداقية هذا الشخص في الوفاء بالدين ويمكن لهذا المكتب أن يوصي كل البنوك بعدم إصدار دفتر شيكات للشخص غير الملتزم بالسداد لفترة قد تصل لخمسة سنين كما عليه العمل في العالم المتقدم. بابكر كباشي التني وكيل نيابة سابق ومبعوث منظمة IOM لحوكمة الشركا[email protected] [email protected]