من يفلح في الهرب من غرام عمره بالكتاب الورقي؟... الكتاب الإلكتروني؟... نعم، فهو بلا جسد! وهو لغة الغد! ولكنني أنتعش حين تهطل الكتب الورقية عليّ مثل نبتة صحراوية عانقها المطر.. أعترف. لم يبق في بيتي مقعد لم تحتله الكتب الورقية بعدما تمددت حتى مدخل البيت وإذا تجاوزه الضيف حياً ولم يتعثر ويدق عنقه سيكون مضطراً لاختيار المقعد الأقل ازدحاماً بالكتب لأن عليه حملها على الرغم من أوجاع ظهره للجلوس تحتها!! وصار بيتي «الأرض المحتلة بالكتب». زيدوني كتباً زيدوني... وتتحقق أمنيتي باستمرار، وها أنا أمام (جرعة) شهية من الكتب وصلتني من بيروت من «دار جداول» وكلها جادة وقد أحسن «فؤاد عبد المطلب» اختيار كتاب «دينيس أ. سبيلبيرغ» وترجمته البارعة له وعنوانه «جيفرسون والقرآن/الإسلام والآباء المؤسسون»، وفيه نكتشف جانباً مضيئاً شبه مجهول عن قصة الحرية الدينية الأمريكية التي اضطلع فيها الإسلام بدور مدهش.. كما جاء في الكتاب. وقد تمكن جيفرسون في عام 1779 من تصور المسلمين بوصفهم مواطنين مستقبليين في بلاده الجديدة. صناعة الإرهابيين وتفكيكهم! الكتاب الثاني من «دار جداول» التي أسسها بعض عشاق الكتب أمثال محمد السيف والدكتور يوسف الصمعان وسواهما، هذا الكتاب أحسن اختياره للترجمة «طاهر لباسي» من تأليف «سكوت أتران» وعنوانه: الحديث إلى العدو/الدين والأخوة وصناعة الإرهابيين وتفكيكهم. وهو موضوع عصري بامتياز يلامس همومنا وهواجسنا إلى جانب ترجمته المتقنة الأمينة له. الكتاب يشير إلى كيفية مواجهة الإرهاب منتقلاً إلى رؤية شمولية لأصل الدين وتطوره وظهور الحضارات وخلق مفهوم البشرية وحدود العقل. وهو كما كتاب «سبيلبيرغ» ليس بالتأكيد من نمط قراءات ما قبل النوم التي لا يبدو أن مياه «جداول» تمر بقاراتها المسترخية. قراءة أولى وشبح أبي! «ناصر المنقور أشواك السياسة وغربة السفارة» لفتني هذا الكتاب من محمد عبدالله السيف لأنه سبق لي أن قرأت له كتاب «صخور النفط ورمال السياسة عبد الله الطريقي فارس النفط العربي» وأسرتني فيه الدقة العلمية والأمانة الأكاديمية والبراعة الاستثنائية في ربط السيرة الذاتية لشخصية فذة في زمنها تاريخياً حيث نلتقي بصورة للوطن عبر سيرة فرد استثنائي. مع كتاب السيف «ناصر المنقور أشواك السياسة وغربة السفارة» توقعت كتاباً في السيرة الذاتية ينتقل بها محمد السيف بمهارة فنية استثنائية إلى سيرة وطن ولم يخب أملي. لكنني تعثرت بمفاجأة جميلة على الصعيد الشخصي لم أكن أتوقعها في الكتاب. فقد كنت أطالع باستمتاع لغة السيف العميقة الماهرة في ربط الخاص بالعام، وإغناء ذلك ب»فن الاستطراد» الشعري التراثي والأدبي الذي يتقنه. حين أطلت علي مفاجأة كادت تطيح بقدرتي على الموضوعية: وهي أن ناصر المنقور عمل في إحدى فترات حياته الخصبة بالعطاء، رئيساً لجامعة «الملك سعود» وهي الجامعة التي عمل فيها أبي أستاذاً بعدما تقاعد من عمله في دمشق كمدير لجامعتها ووزيراً للتربية والتعليم وعميداً «مزمناً» لكلية الحقوق. وهكذا صار هاجسي وأنا في القراءة الأولى للكتاب أن أرصد: هل كان ناصر المنقور هو رئيس جامعة الملك سعود ومقرها الرياض والتي عمل فيها والدي بعد مغادرته لدمشق طوال عامين حتى وفاته وكان معززاً مكرماً وسعيداً فيها حيث تشهد على ذلك رسائله لي وكنت طالبة في «الجامعة الأمريكية» في بيروت؟ أيتها الموضوعية: سامحيني!! هل كان ناصر المنقور أحد أصدقاء أبي في عاميه الأخيرين؟ أعرف أن صلة أبي مع طلابه فيها كانت رائعة وأحدهم يدعى (غازي القصيبي) الذي اشتهر طبعاً فيما بعد، بل أن والدي عرّفني عليه في تلك الفترة في الفندق في بحمدون (فندق الطرابلسي) الذي اصطاف فيه أبي في عاميه الأخيرين وكان القصيبي الشاب تلميذه الأحب حتى أنه جاء أيضاً مع أسرته للاصطياف في الفندق ذاته الذي ارتاح له أبي، والتقيته هناك للمرة الأولى. العودة إلى الموضوعي!! بعد تلك الوقفة الذاتية التي قد لا تعني أحداً غير اشباحي وذكرياتي، عدت لمطالعة الكتاب بعين الناقد المحايد ووجدت السيف فيه قد تجاوز نفسه واستمتعت حقاً بالاستطرادات الشعرية التراثية فحين يذكر السيف مثلاً اسم مكان ولد فيه موضوع السيرة الذاتية أو مرَّ به نقرأ استشهاداً شعرياً بالمكان كاستشهاده منذ مطلع الكتاب بعمرو بن كلثوم عن «اليمامة»: وأعرضت اليمامة واشمخرت/كأسياف بأيدي مصلتينا وكأن محمد السيف الثري بثقافة تراثية وعصرية يقول في كل سطر إننا محصلة أوطاننا. وما من شخصية مهما كبرت أكبر من وطنها بل تستمد عطاءها من ثراء تراثه وشهواته المستقبلية. ثم أن الكتاب يغتني بتلك الصور الوثائقية التي أعرف كم يعاني المرء للحصول عليها عبر الأعوام، وهي وشاية بالسيف المولع بالدقة كما في الصفحة 310 حيث نرى صورة تعود بتاريخها إلى ما قبل نصف قرن ونيف في طوكيو ونرى فيها عبد الله الحنيوي (سائق ناصر المنقور) واقفاً إلى جانبه وسفير العراق وسواهم. لم يسبق أني قرأت اسماً لسائق شخصية غربية كبيرة إلى جانب اسمه وهذا يعبر عن روح الإسلام، وكاتب المقال وركضه الجميل خلف الوثائق والصور الشاهدة على كل حرف يخطه وروح موضوعه. أسلوب في السيرة سرقني منها! بين الاشتباك العاطفي مع كتاب السيرة (ناصر المنقور) بحثاً عن صديقي الأوحد الأحب أبي، وبين رسم انحيازي إلى أسلوب محمد السيف في كتابة السيرة بدقة أكاديمية صارمة، وصورة تاريخية لمرحلة وعصر عبر سيرة رجل استثنائي ورسم واع لارتباط حركة التاريخ بالأفراد الأفذاذ، استعدت موضوعيتي مع سيرة ناصر المنقور أحد أهم الرجالات الذين ساهموا في تأسيس دعائم العمل الإداري والسياسي والدبلوماسي في عالمنا العربي في كتاب آخر استثنائي من السيف في حقل السيرة.