بسم الله الرحمن الرحيم د. سعاد إبراهيم عيسى السودان من الدول القليلة, أو قل الدولة الوحيدة, التي حباها الله بكل مطلوبات ومقومات النمو والتقدم والازدهار, وفى كل المجالات التي تمكنه من ان يصبح بين الدول المتقدمة بدلا عن النامية, أو أن (يفوق العالم اجمع) شعار الإنقاذيين المحبب في بداية عهدهم. فأساءوا استخدام كلما تيسر لهم في ذلك الاتجاه, حتى أصبحت مقومات النجاح في مقدمة أسباب تخلف السودان وتقهقره, ومن ثم تذيله لدول العالم اجمع, اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا. الأمر الذى انعكس بؤسا وشقاء وضنك عيش يكتوي بنيرانه مواطنوه اليوم. فالسودان بلد المليون ميلا مربعا, أرضا شاسعة تتوسطها انهار تجرى بماء عذبا سلسبيلا, وتتميز غالبية أراضيه بخصوبتها وصلاحيتها لكل المنتجات الزراعية وبكل أنواعها, من خضر وفاكهة وغير ذلك, الأمر الذى أهله لكي يعشم العالم في ان يصبح سلة غذائه مستقبلا, فخيب أمل العالم فيه. ثم غابات السودان المنتشرة بإرجائه والغنية, بجانب بعض ثمارها, بكل أنواع الأخشاب التي تميزت بها, وكانت من بين أسباب تعرضها للقطع الجائر الذى أوشك ان يقضى عليها. وللسودان ثروة حيوانية هائلة ومميزة, وأخرى سمكية وبكل أنواعها. وفوق كل هذا وذاك, يتمتع السودان بثروات بباطن أرضه لا يمل المسئولون التغني بها, بدأ بالنفط, ثم الذهب, وأخيرا التبشير باليورينيوم والنحاس ولا نستبعد التبشير بالماس لاحقا. فكيف لبلد يتمتع بكل تلك الثروات بكل إشكالها وألوانها ومن بعد يشكو اقتصاده من العجز والانهيار, ويجأر مواطنوه من الفقر والعوز والجوع والعطش؟ مشكلة السودان تكمن فيما اتضح من فهم حكوماته المتعاقبة لمعنى السلطة وواجباتها. فبصورة عامة أصبحت السلطة لدى الكثير من سياسيينا, هي مجرد فرصة للتمكن من خدمة إغراضهم وتحقيق تطلعاتهم أولا, ومن بعد الالتفات إلى إغراض وتطلعات الوطن والمواطن ان تيسر ذلك. وعندما تصبح السلطة بمثل ذلك الفهم, قطعا سيصبح سعى الآخرين لاقتلاعها من بين يدي من يملكها, أمرا ممكنا ومتوقعا وبأي ثمن. لا ننكر عجز الحكومات المتعاقبة عن الاستثمار في ثروات السودان سالفة الذكر, كما يجب, وربما كان ذلك بسبب قصر عمرها على سدة الحكم, خاصة الحكومات الديمقراطية, التي ما ان تصل إلى مقعد السلطة حتى تعمل على إزاحتها عنها الانقلابات العسكرية. وبما ان الحكومات العسكرية هي الأطول عمرا في البقاء في السلطة قياسا بتلك الديمقراطية, فقد ساعدها ذلك على القيام ببعض الانجازات, كان ذلك في عهد حكومة عبود أو حكومة نميرى. وبما ان حكومة الإنقاذ هي الأطول عمرا في البقاء بالسلطة وعلى الإطلاق, يصبح عليها ان تتحمل العبء الأكبر, ان لم يكن كل العبء, في الفشل والعجز عن استخدام سلطتها في استثمار ما تهيأ لها من ثروات السودان تلك, وبالطرق الصحيحة والسليمة, التي توجه كل عائداتها لصالح الوطن ومواطنيه, بما يحقق نمو وتطور السودان, ومن بعد نحقق شعارهم سالف الذكر الذى يجعل منه قائدا للأمم لا راكضا خلفها. لكن الإنقاذ تركت ذلك الأمر جانبا, ولفترات طويلة من الزمن, عندما صوبت بصرها وحصرت جهدها وبتركيز تام, في كيفية توظيف كامل سلطتها لأجل الإبقاء على تلك السلطة حصريا ملك يديها والى ما لا نهاية, اى خلال عصر التمكين ومآسيه, وعندما التفتت للاستثمار في تلك الثروات جعلت عائداتها هي الأخرى, خالصة لها ولمن والاها أولا, فافتقد الوطن والمواطن بموجب ذلك, حقه الكامل في عائد تلك الاستثمارات, وفى ذات الوقت افتقدت حكومة الإنقاذ ولاء الكثير من المواطنين الذين حرموا من حقهم الذى يستمتع به غيرهم. ولعل في انشغال حكومة الإنقاذ وطوال عهدها في السلطة, بكيفية حماية سلطتها من الزوال, هاجسها الأكبر, هو الذى دفعها لكي تسلك كل الطرق, مهما كانت وعورتها, لتحقيق ذلك. وترتكب من الأخطاء ما لا يخطر على عقل بشر. خاصة تلك التي يصعب أو يستحيل, إصلاحها أو تقويمها مستقبلا, متى حان وقت ذلك. فشعار إعادة صياغة المواطن السوداني, يعتبر احد أهم واخطر شعارات الإنقاذ التي رفعتها في بدايات عملها على تثبيت إقدام حكمها, حيث سيحقق ذلك الشعار من جعل كل المواطنين عبارة عن عجينة طيعة في يد السلطة, تشكلها وتصورها كما تشاء ووفق ما تشاء؟ ولأجل تنفيذ إعادة صياغة المواطن السوداني, كانت فكرة دورات الدفاع الشعبي, التي لعبت الدور الأكبر في تنفيذ تلك الصياغة, حيث فرض الالتحاق بتلك الدورات على كل العاملين بمن فيهم الكبار سنا ومكانة, رجالا ونساء, طبعا إلا من أنقذه الله. كما وفرضت تلك الدورات أيضا على كل الشباب وفى مقدمتهم طلبة الجامعات, وأولئك المتوجهين إليها ممن أكملوا تعليمهم الثانوي. وطبعا لا داعي للتذكير بتلك الأيام, فقد عاصرها الجميع وسمع بل وربما عايش صعوبة وفظاعة تلك الدورات, وما تمخض عنها من مشاكل بلغت مراحل فقدان الأرواح. أما الصياغة الكبرى التي لا زالت شرورها ماثلة أمام الجميع اليوم, فكانت تلك التي خصصت للشباب من الجنسين, وخاصة طلبة الجامعات, الذين أدخلت حكومة الإنقاذ في روع منسوبيها منهم, بأنهم يعلون على كل الآخرين درجة. تؤهلهم لكي يعملوا على تقويم كل من يروا انه حاد عن الطريق الذى يرغبون هم في ان يسير عليه, بل وجعلت من حقهم وواجبهم, ان يحققوا ما يصبون إليه, وان يسلكوا كل الطرق لفعل ذلك بما فيها استخدام العنف أيا كان مداه. وهكذا أصبح العنف الطلابي سمة من سمات طلاب الجامعات السودانية اليوم, ولا يمكن ان يختلف اثنان في ان حكومة الإنقاذ هي التي أدخلت ثقافة العنف واستبدال المنطق والحجة في مقارعة الرأي والرأي الآخر, استبداله بالضرب الذى بلغ حد القتل. وهو نتاج طبيعي للتربية الخاطئة التي اعتمدتها الإنقاذ لشبابها وهى تعمل على تمكين سلطتها, وإبعاد كل الآخرين من محيطها. وحيث لم تكتف بكلما فعلت بالخدمة المدنية وغيرها بل امتدت تطلعاتها طمعت إلى ان تجعل من كل موقع وكل أمر مفتوح للجميع, ان تجعله من نصيبها وحدها.. وبما ان الإنقاذ تعلم علم اليقين بان لاتحادات الطلابية بمختلف الجامعات وخاصة جامعة الخرطوم, يرجع لهم الفضل في الوقوف في وجه اى نظام حكم, يحاول الانتقاص من قدر مؤسساتهم, أو الفشل في إدارة الحكم بما يحقق أهداف وتطلعات الجماهير. وقد ضرب الطلاب أروع الأمثال في ذلك الاتجاه, عندما تمكنوا من إسقاط أو المشاركة في إسقاط حكومتين سابقتين. ولعل في تلك الحقيقة ما جعل حكومة الإنقاذ تصر على ان ينفرد منسوبوها بقيادة كل الاتحادات الطلابية بكل الجامعات. ولا بهمها أي الطرق وأي الوسائل سيتم استخدامها لتحقيق ذلك الهدف, ولذلك أصبح العنف المفرط ضد كل من يقف في طريق الطامعين في القيادة أمرا ممكنا وجائزا حتى ان بلغ حد القتل العمد الذى يعيشه طلاب بعض الجامعات هذه الأيام. ولا نلوم الطلبة الذين غررت بهم قيادات الإنقاذ وجعلت منهم أدوات يستخدمها يستخدمونها لتنفيذ أجندتهم ومخططاتهم الخاصة, التي لا تبعد عن السعي للتمكين من استمرار سلطتهم. وبالطبع ما دامت حكومة الإنقاذ لا تؤمن بأهمية التداول السلمي للسلطة بينها وبين الأحزاب الأخرى المختلفة, فما الذى يجعل طلابها تقبلون على تطبيق ذلك في أمر قيادة اتحاداتهم, فهم أيضا على دين ملوكهم, يرغبون في ان تظل القيادة بيدهم وللأبد. ومن ثم فإما الرضوخ لرغبتهم أو القبول بمختلف أشكال العنف وطرقه الذى وصلت أخيرا حد القتل. ما نعجب له أن قتل الطالب الجامعي, ولاستحالة حدوثه وغرابته سابقا, فقد ظل تمثال الطالب القرشي بجامعة الخرطوم, والذي بسبب مقتله كان اندلاع ثورة أكتوبر, التي قضت على أول ديكتاتورية عسكرية بالسودان, ظل وسيظل منتصبا في وسط ساحة الجامعة, ولأكثر من نصف قرن من الزمان, كأكبر دليل على عظمة وقيمة ذلك الأمر. فكيف أصبح قتل الطلاب وليس الطالب, اليوم بمثل ما نشاهد ونسمع من اليسر, ثم كيف أصبح القتل يتم بيد الطلاب أنفسهم أيضا؟ فهذه جريمة مزدوجة, يمثلها قتل الروح التي حرمها الله, ثم قتل الأخلاق والمثل والقيم التي عرف بها الطالب الجامعي قديما, قبل ان تصبح ساحات الجامعات ساحات حرب وجهاد. أما اليوم وقد طفح الكيل وبلغ مداه, فليت الحكومة تعي بان السير على ذات طرقها القديمة لن تجدي, إذ عليها الابتعاد عن محاولة ألقاء الجرم الذى ما زال نازفا, على غير فاعليه, وهى التي ما ان يصاب احد كوادرها بسوء, حتى تسرع الخطى في الوصول إلى الفاعل وتقديمه للمحاكمة, بينما تتباطأ وتتهاون متى ما ارتكبت كوادرها أي جرم في حق الآخرين, وان كان القتل,.حيث تجتهد في تغطية جرائمهم والتستر عليها وان كانت في ضوء الشمس. فالحكومة بمثل تلك الأفعال إنما تدعو الآخرين لأخذ القانون بأيديهم لكي ينتقموا ممن اعتدوا عليهم. ان الإحداث الأخيرة المتتابعة والمؤسفة وما تسببت فيه من فقدان أرواح غالية وعزيزة, لا يمكن ان يكون الطريق لمعالجتها بالمزيد من مسبباتها. المعروف ان الضغط عندما يصل قمته لا مجال له إلا الانفجار. وللأسف فان الحكومة لا زالت مستمرة في الضغط على المواطن بمختلف الطرق والوسائل, فالأسر التي اعتقلت السلطات أبناءها, سوف لن تصير على ذلك ان لم نقم السلطة بأحد أمرين, إما إطلاق سراح المعتقلين أو تقديمهم لمحاكمة ان كانت عليهم اى تهمة.كانت. وبالطبع ليس في خروج الطلاب أو هتافهم ضد النظام ما يعتبر جريمة يحاسب عليها القانون ما داموا قد فعلوا كل ذلك سلميا ودون جنوح لعنف أو تخريب. وفى كل الأحوال, ليس من حق قيادات هذا النظام بالذات ان يستنكر هبة الشعب واستنكاره ورفضه لقتل بنيه, الذين لم يفعلوا أكثر مما فعله إباؤهم وإخوانهم في ثورتي أكتوبر وابريل, وخاصة ثورة أكتوبر, التي أشعل شرارتها مقتل طالب واحد كما أسلفنا القول, وحيث كان الإسلاميون في مقدمة من ادعى تفجير تلك الثورة بسبب مقتل ذلك الطالب الواحد, فما الذى جعل فعلهم ذاك متاحا ومقبولا ضد حكومة تسببت في قتل طالب واحد, ولكنه مرفوض من غيرهم ضد حكومتهم التي تسببت في مقتل المئات من الأشخاص وبينهم الكثير من الطلاب وحتى الصغار من التلاميذ؟ أما المعارضة, بشقيها المدنية والمسلحة, الداخلية والخارجية, فنقول لها, ليس بالإعلانات وحدها تنجح الثورات, إذ عليكم بجانب توحيد صفوفكم, التواجد الدائم في مقدمة الركب وحتى يبلغ غاياته, وإذ بدون ذلك, سيتكرر الفشل وسيتطاول أمد الانتظار. أخيرا, يبدو ان الإنقاذ, وكما أقعدت بالسودان بوسائل نهضته, ستفقد سلطتها بوسائل تمكينها.