لقد تخلى الكتاب عن تلك الصورة المثالية سواء لهم كشخوص وذوات كاتبة أو في ما يكتبونه ويقدمونه للقراء، ويرى الكثيرون أن هذا عمق صدق العمل الأدبي وأنشأ علاقة أكثر متانة بين الكاتب وقرائه، إذ نحن لسنا في عالم مثالي ليكون أدبه مثاليا. "العرب" التقت الكاتبة الأردنية الجريئة جميلة عمايرة التي عرفت في قصصها وسردها بصدقها اللافت. العرب أوس داوود يعقوب تعد القاصة الأردنية جميلة عمايرة من أهم الأصوات القصصية في بلادها والوطن العربي. وهي من الساعين دوما إلى الكتابة باختلاف وتمايز، والذهاب باتجاه المسكوت عنه، والمتواطأ عليه من الجميع "كذاكرة جمعية"، وفضح المزيف فتعري الواقع أفرادا وجماعات وحالات، بجرأة عالية وبلا مواربة أو خجل أو نفاق أو تزييف، كما تقول. مواجهة الحياة بداية حديثنا مع صاحبة "صرخة البياض" كانت عن مجموعتها القصصية الأخيرة "حرب لم تقع" الصادرة حديثا عن "دار الشروق" بعمّان، والتي قالت إنها لا تعرف كيف تقدمها لقراء "العرب"، مضيفة "أنا الكاتبة لدي شعور قوي بأنها أفلتت مني وانتهى الأمر، إذ صارت بين أيدي القراء والمتابعين والنقاد وكل من له علاقة بهذا الشأن، أعني أنها صارت بعيدة عني وصرت قارئة جديدة لهذا العمل تماما كالمتلقي، وأنتظر كقارئة شريكة بهذا العمل الرأي والنقد. هذا ما أحس به حين صدور عمل جديد لي". كتبت جميلة عمايرة هذه القصص على وقع أحداث الربيع العربي وتداعياته وأسبابه ومآلاته والتغيرات التي أحدثها ويحدثها لجهة الأفراد والمجتمعات على حد سواء. فدرجة الوعي التي يمتلكها الفرد في خضم وجوده في القلب من هذا الحدث العظيم والكبير، ومشاركته حلم التغيير مع جموع هذا الحراك لهي تجربة مختلفة ومغايرة، تمنح طاقة جديدة وإحساسا عميقا بالآخرين ومدى توقك للحرية وشغفك بها، هكذا تقول ضيفتنا. وتضيف "الكتابة ليست تنظيرا بل هي انخراط ذات الكاتبة/ الكاتب واختبار قناعاته وإيمانه بالآخرين وهمومهم وانكساراتهم وأحلامهم في الانعتاق والتحرر والعيش بكرامة وأمل، حتى انسحب الأمر على عنوان المجموعة فجاء باسم ‘الحرب التي لم تقع‘ وفي دلالات عتبة هذا العنوان الكامنة، كنت أشير متمنية أن تقع الحرب ميتة أو أن تتوقف أو تقف في أحسن الأحوال، ليتها وقعت وماتت هي دوننا جميعا، لكنها وقعت بما كنت أخشاه وكنت في أتونها كواحدة مثل الكثيرين الذين دفعوا ثمنا عاليا وغاليا في هذه الحرب مثل أي حروب بشعة ومؤلمة". وبسؤالها؛ هل تكتب فعلا –كما يصفها النقاد- بجرأة عالية، منتزعة الرقيب من داخلها وهاجس التابوهات؟ تقول ضيفتنا "لدي يقين قوي وراسخ بأن على الكاتب أن يكتب باختلاف وتمايز، عليه أن يذهب باتجاه المسكوت عنه، والمتواطأ عليه من الجميع "كذاكرة جمعية"، وأن يفضح المزيف ويعري الواقع أفرادا وجماعات وحالات، بجرأة عالية وبلا مواربة أو خجل أو تزييف، وإلا عليه أن يصمت أو يجد له مكانا آخر غير الكتابة". وترى عمايرة أنه ثمة قيود، وثمة رقابة يزرعها الرقيب، وليس مهما، في رأيها، من هو هذا الرقيب وما نوعه، وإن كان مع الفرد وهو لا يزال طفلا بالمهد، فيكبر المرء ويكبر الرقيب داخله، رقيب يشبه الخوف، "أو عصا الراعي" عدا الرقيب الذي يقف بالخارج متأهبا لكتم الأنفاس وعدها وسحقها وتطويعها لتكون مع تلك الجموع المسالمة والساكنة بلا أمل أو محاولة للانعتاق. تزعم ضيفتنا أنها نزعت الرقيب من داخلها وقتلته، لتكتب بحرية وجرأة بلا خجل أو مواربة، وتسمي الأشياء بمسمياتها، ولا تتواطأ ضد نفسها بالكتابة، بل تدع الشخوص بغض النظر عن جنسهم، بعد اصطيادهم، بالبوح بحرية دون مصادرة إراداتهم أو كسرها أو تطويعها. وأما عن الهواجس التي تحرك قلمها وتدفعها إلى الكتابة وما تنتظره من الكتابة الإبداعية، فتقول صاحبة "سيدة الخريف" إنها كثيرا ما تساءلت بينها وبين نفسها عن ماهية الكتابة، ولماذا تكتب، وما الذي تريده من الكتابة؟ ولماذا تكتب المرأة ضمن بيئة "شبه معادية" لها وأمة إقرأ التي لا تقرأ؟ وتؤكد أنها في كل مرة لم تعثر على إجابة ترضيها، ذلك أنها لا تزال تطرح أسئلة الكتابة على نفسها محاولة التحديق داخلها عميقا، لمعاينة ضعفها الإنساني ومخاوفها، ولتبديد قلقها وشكوكها، تكذب حينا وتصدق أحيانا أخرى كي تقوى على مواجهة الحياة. ثمة ما يحدث كما تؤكد عمايرة على ضرورة انزياح فكرة أن الكاتب حارس للأفكار وللقيم وللحرية وهو صوت الضمير، أو المثالية المفرطة بمثاليتها، وهو الناطق الوحيد باسم الحقيقة أو مناوءة السلطة، أي سلطة كانت، وهو ما يدعوها إلى التساؤل: بماذا يختلف الكاتب إذا عن الواعظ أو إمام الجامع أو كاهن الكنيسة أو التقية؟ برأيها إن الكاتب كفاعل اجتماعي ينبغي له ألا يتوقف عن طرح الأسئلة على نفسه أولا. وتتابع عمايرة "أكتب وأختلق وأكذب، أكتب وأكذب، لا أستطيع أن أكون صادقة أثناء الكتابة، لكنني صادقة بمعنى أخلاقي، صادقة بإخلاصي للكتابة بوصفها محاولة ذاتية للاختلاف والتميز. وأكتب من أجلي، ومن أجل أبي، أكتب من أجل من مروا بي وغابوا تاركين آثار حيواتهم في روحي، أكتب كي أنتصر على شرط حياتي المحكومة بالفناء فأخلدني وأخلد من أحببت". عن القصة القصيرة ومعايير النقد في الأردن اليوم، ، تقول صاحبة ‘بالأبيض والأسود‘ "حقل النقد بمجمله ربما عليه الآن طرح سؤال البحث والمراجعة، البحث عما آل إليه النقد من جمود الحراك النقدي ووظيفته، ومراجعة ما كتب ومعاينته من جديد، ثمة راهن نقدي لا يعيشُ ازدهارا ، بل إن هناك تراجعا بأكثر من معنى. وهذا ليس مقتصراً على متابعة وتناول الإبداعات المغايرة والتي تطرح أسئلتها المستفزة فقط، بل إن هناك قصورا في متابعة ما يكتب من نصوص بمختلف أنواع الإبداع، بغض النظر عما تحمله هذه النصوص من أسئلة أو اختلافات أو مدى موهبة أصحابها". وتلفت مُحاورتنا إلى أنه ثمة حالة من الجمود الفكري، تطال الكتّاب والقراء والنقاد حتى الأكاديميين الذين يعيشون عزلة داخل أسوار الجامعة، الأمر الذي يفسر حالة من اليأس والتراجع التي أصابت النقاد وسجالات النقد الثقافي التي كانت تواكب كل ما يستجد بل وتطرح أفكارها ورؤاها بحرية ومسؤولية. كما تلفت إلى أن ثمة استسهالا في النشر بلا حسيب أو رقيب أو متابع، وربما الأمر في جوهره يعود إلى التغيرات السياسية والثقافية التي تطال بنية المجتمع وأفراده وقيمه ومعتقداته في جوهرها. وعن تجربتها في كتابة جنس أدبي آخر غير القصة، تقول صاحبة ‘الدرجات‘ "في عام 2007 حين شرعت في كتابة رواية ‘بالأبيض والأسود‘ لم يكن هدفي كتابة رواية، ولم أسع إلى ذلك، كنت أود أن أكتب قصة قصيرة وينتهي الأمر عند أربع أو خمس صفحات، إلا أنني وجدتني أكتب وأكتب وأكتب كما لو أنني لم أكتب كلمة واحدة من قبل.. ثمة ما يحدث أثناء عملية الكتابة، بوعي ودون وعي من الكاتب، ثمة سياقات جديدة بدأت تتشكل وتستفزني وتقترح نفسها على ذات الكاتبة، سياقات من داخل العمل نفسه، لكن القصة والتي أجدها من أصعب أنواع السرد، أصعب من الرواية على وجه التحديد، أنت تريد تكثيف العالم وتقديمه عبر بضع صفحات لا أكثر".