تابعت الجدل الدائر عن مبادرة السلام والإصلاح التي تقدم بها 52 من الشخصيات المعروفة، من اتجاهات ومشارب شتى، كما تابعت باهتمام بعض التفسيرات التي قدمها بعض أصحاب المبادرة في وجه مشجعيهم وشانئيهم، وآخرها ما كتبه د. خالد التجاني النور. بُغية الوضوح، رأيي في المبادرة أنها حرث في البحر على أقل تقدير، وفق ما سأورد من حيثيات، ولكن لا يعني هذا الرأي التشكيك في نوايا ودوافع من ساهموا في إعداد المبادرة وتقديمها (وإن شكّك في قراءة أصحاب المبادرة لمدى استعداد النظام لسماع صوت العقل والمنطق، وحسن ظنهم أو عشمهم في استجابته لما يمليه صوت العقل ومصلحة البلاد والعباد التي لا يختلف حولها عاقلان). ولمزيد من الوضوح، لا يختلف عاقلان في ان السودان مقبل على مصير اسود لا يختلف عما حدث في بلدان اخرى أنكرت أنظمتها الواقع والوقائع حتى حلت بها كوارث لا نهاية لها. ولا يغرنّكم الأوهام التي نخدع بها أنفسنا من أننا شعب مسالم ينبذ العنف. نحن مثل غيرنا من شعوب الارض، لا نختلف عنهم كثيرا؛ نُمتَحن فنغدو مثل الآخرين، نحرق وننهب ونسفك الدماء دون تردد، وانظر حولك إلى شعوب اشتهرت بالوداعة (مثل الكمبوديين والسريلانكيين)، تعرّضت لظروف معينة، فانقلبوا وحوشا آدمية، يسفكون دماء مواطنيهم ويخربون بلادهم بايديهم. كذلك هناك شبه اجماع بأن أزمة، او بالأحرى أزمات السودان، لن يتيسر لها الحل إلا عبر حوار جاد على غرار الحوار التونسي الذي وافقت جميع الأطراف، ونظمته وأشرفت عليه منظمات المجتمع المدني التونسية (اتحاد العمال، اتحاد المحامين ولجنة حقوق الانسان). والغريب في الأمر أن منح جائزة نوبل للسلام لثلاثي الحوار التونسي الناجح تم في نفس يوم بداية "حوار الوثبة" في الخرطوم الذي تم تحت رئاسة رئيس الجمهورية، الخصم والحكم! غير أن الإجماع على أن الحوار هو الطريق الأمثل لحل المشاكل القومية لا يعني بالضرورة أنه سيحل هذه الأزمات إن تمّ، أو ان الجميع سيقبل به مهما كان شكله أو محتواه. فالحوار المقصود له شروط لا غنى عنها أولها، بجانب تكليف جهة محايدة ومقبولة من جميع الأطراف بتنظيمه وتسييره وتيسيره، هو توفر النية الصادقة والرغبة في التوصل لتسوية عادلة ومقبولة للقضايا محل الخلاف بما يحفظ المصلحة العليا للبلاد، وثانيها تهيئة الظروف التي تمكن الجميع من المشاركة في الحوار في حرية تامة، وثالثها التركيز على المسائل المصيرية التي تواجه البلاد والأسباب الحقيقية لأزماته (عِوضا عن إهدار الزمن والطاقة في تفسير الماء بالماء بالحديث السطحي عن السياسة الخارجية، والهوية، والاقتصاد المختلط!) نقطة الضعف الرئيسية في "المبادرة القومية" التي تجعلني أصفها بالحرث في البحر هي أنها تفترض أن النظام راغب في التوصل إلى حلول للمشاكل التي تهدد، ليس فقط استقرار وسلام السودان، بل تهدد وجوده نفسه ككيان موحد. ولا يخامرني الشك مطلقا في أن هذا الإفتراض لا يقوم على أي أساس إذ لم يُظهر سجل النظام منذ 1989 ما يشجع على وضع مثل هذا الإفتراض. ورغم عشرات الاتفاقيات التي وقّعها مع أحزاب وجماعات وحركات مسلحة، لم يُظهر النظام قط (من خلال سياساته وممارساته) أي نيةّ أو جدية في التوصل لاتفاقات حقيقية تخاطب أساس المشاكل قيد البحث أثناء المباحثات، أو في تنفيذ ما تم الاتفاق عليه بعد المباحثات. وينطبق ذلك حتى على اتفاقية السلام الشامل التي أُجبر النظام على ابتلاعها رغم قسمتها الضيزى وثغراتها التي ما زالت تؤرق الجانبين، والتي صاحبتها على الدوام النية المبيتة من جانب النظام بعدم الالتزام بنصها أو بروحها. لا أراني في حاجة لتعداد الأدلة على أن النظام لم يُظهر، طوال أكثر من ربع قرن من الزمان، رغبة أواستعدادا للإصلاح أو التغيير الذي يتطلبه الإحتقان السياسي والاجتماعي والاقتصاي الذي يُمسك بخناق البلاد، وحالة الحرب التي نسفت استقرار وحياة الملايين من السودانيين في أقاليم السودان المختلفة، وأهدرت موارد البلاد، والفساد البيّن الذي قضى على ما تبقى من هذه الموارد، أو ترك حالة الإنكار الدائمة للمشاكل القومية الكبرى، أو استمرار سياسة الإقصاء و"التمكين"التي تواصلت منذ 1989 رغم نتائجها الكارثية. يكفي فقط أن أشير إلى لغة "جسد" النطام التي لا تكذب قط كما قد يكذب لسانه. ورد في الأخبار هذا الأسبوع نبأ انعقاد مجلس شورى الحركة الإسلامية بولاية الجزيرة. ويقول الخبر:"أعلن الشيخ أزهري محمود الأمين العام للحركة الاسلامية بولاية الجزيرة فى تصريح (لسونا) أن المجلس ينعقد فى ظل جملة من التحديات يأتى فى مقدمتها توحيد أهل القبلة ومحاربة الظواهر السالبة والاستلاب الثقافى والتطرف بشتى ضروبه وأشكاله وتكريس قيم الدين والفضيلة والأخوة والتكافل والتراحم ونشر فضيلة الإيثار فى المجتمع والدعوة بالتى هى أحسن. وقال محمود ان برنامج مجلس الشورى يستهدف مناقشة تقرير أداء الربع الاول من العام الجارى وخطة شهر رمضان وتقرير عن برنامج الهجرة إلى الله"! وكنّا "نحسب" أن مجلس شورى الحركة الإسلامية سيُدرج ضمن أولوياته في ولاية مثل ولاية الجزيرة مسائل حيوية تمس حياة مواطنيها، (إلى جانب "توحيد أهل القبلة" و"الهجرة إلى الله")، مثل انهيار مشروع الجزيرة، العمود الفقري لاقتصاد الولاية (والبلاد)، وتدهور الخدمات الأساسية من صحة وتعليم وبنيات تحتية. وقد ورد في الأنباء خلال نفس أسبوع نشر خبر اجتماع مجلس الشورى ما قد يلفت نظر هذا المجلس (وهو، فيما يبدو، ضمير النظام وعقله المفكر) من أنباء أخرى عن الهموم الحقيقية للولاية مثل "إبادة 380 قط من مستشفى مدني التعليمي"، أو "مستشفى الذرة بمدني يستقبل 892 حالة سرطان جديدة"، أو "وفاة وإصابة 22 شخصا في حادث حركة في طريق الخرطوم – مدني"ّ. وأخيرا، لم استحسن من د. خالد التجاني إشارتين وردتا في مقاله عن المبادرة. أولهما وصفه في بداية المقال للمشككين في المبادرة أنهم "فئة قليلة معزولة عن هم الوطن ومصير أهله"، وأظنه يعلم أن ذلك ظلم فادح للكثيرين، وثانيهما قوله أن هناك "اتفاقٌ سوداني واسعٌ على أنَّ البلاد تتعرّضُ لأزمة سياسيةٍ حادّة لها تجلياتُها الأمنية والاقتصادية والمجتمعية، على نحو ما وَرَدَ في خطاب السيد رئيس الجمهورية في السابع والعشرين من يناير 2014م"، ونأخذ عليه ربط الاتفاق على الأزمة السياسية الحادة بخطاب الوثبة في بداية 2014، لأن الخطاب، بلغته المتقعرة وعمومياته وسفسطته، هو عندي أبلغ دليل – إن أردت دليلا آخر – على عدم جدية النظام في الاعتراف بما يواجه البلاد من أزمات، ناهيك عن العمل على حلّها من خلال الحوار أو "المبادرات القومية"! [email protected]