تظل لحظات الطفولة حاضرة في الذاكرة، بكل تفاصيلها الصغيرة، وبكل ما تحمله من عفوية وبراءة، وأيضا بكل ما تنطوي عليه أحيانا من قسوة ومعاناة، وهذا يعود إلى اختلاف ظروف العيش من فرد إلى آخر، حيث تتراءى الصور في الذهن واضحة، أو ربما باهتة ولكنها تبقى معبّرة عن فترة زمنية هامة بكل ما فيها من تناقضات، وقد تكون حاسمة في حياة الإنسان. العرب محمد الحمامصي دفعت رواية "الصبي سارق الفجل" مؤلفها الكاتب مو يان إلى الساحة الأدبية الصينية عام 1985، وذلك وفقا للمؤلف الذي قال في حوار له مع المترجم حسانين فهمي حسين إن الرواية تشير إلى البعض من الجوانب في حياته الشخصية "حيث كنت في طفولتي عاملا أجيرا في مسقط رأسي بريف شاندونغ، وحدثت معي الكثير من الأحداث التي سجلتها القصة حول البطل، وهكذا فقد أشارت القصة إلى الحلم الذي حلمه البطل، ويعتقد الكثير من النقاد والقراء أن هذه القصة هي أفضل أعمالي على الإطلاق حيث كنت قد كتبتها آنذاك قبل الإلمام بالنظريات الأدبية والكثير مما يتعلق بأساليب الإبداع الأدبي، فهي تتمتع ببراءة الطفولة والصدق في تصوير العالم المحيط بالكاتب". أما شهادة الكاتب الصيني شيشاو، صديق مويان، حول فكرة كتابة هذه الرواية، الصادرة في طبعة جديدة ضمن سلسلة الجوائز عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، فقد جاء فيها "لم تبدأ فكرة الكتابة من قضية بل من انطباع، فقد خرج إلى المطعم ذات صباح وهو يفكر في كتابتها وسمعته يقول لي «أريد أن أكتب رواية عن الفجل»، فسألته «أي فجل؟» أجابني قائلا «الفجل الذهبي»، ثم حكى لي ما رآه في نومه بخصوص هذه الرواية، ومنذ تلك الساعة بدأت خطة الكتابة تتضح معالمها لديه. لم تكن طريقته في كتابتها تجري على النمط المعتاد في استلهام فكرة الكتابة، فقد لاحظت أن انطباعا ما تولد في ذهنه، فلمس منه بداية خيط وجسّ في خاطره شيئا ما، حينئذ اختمرت الفكرة تبعا لطريقته في تلقي الأحاسيس". تيار الواقعية السحرية ورائده غابرييل غارسيا ماركيز كان لهما تأثير واضح على إبداعات مويان القصصية في فترة الثمانينات الصبي الضحية هذه الرواية وفقا للباحث محسن فرجاني في تقديمه لها تتجلى فيها التراكيب الفنية التي امتثلت لخصائص الصورة الفنية في التراث الروائي الصيني القديم، بالطريقة التي تميزت بها كتابات مويان في فترة ما من حياته، حيث راح يدمج في نصوصه صورا لشخصيات لا تمت إلى كتابة الواقع بصلة، فها هي ذي الشخصية الرئيسية في الرواية، ذلك الولد الأسمر ابن العاشرة الذي يبدو وكأنه صورة منقولة من قصص رسوم الأطفال، يتطلع إلى الشمس فيجد أشعتها قد تلونت بالزرقة، وينصت ملء أذنيه فيسمع صوت ارتطام شعرة سقطت من رأسه على الأرض، ويمسك بيده الحديد وهو ملتهب وينظر في الظلمة الحالكة فيتجلى لعينيه منظر الفجل الشفاف، حتى تخاله عفريتا. ومع ذلك فالفتى ضحية ظروف معقدة أورثته إحباطا وشقاء وعسرا، لا مزيد عليه، إذ فقد أمه وهو غض الإهاب، فيتخلى عنه أبوه ويتخذ لنفسه زوجة أخرى فيعاني القهر على يد امرأة الأب، ويلوذ بالوحدة منذ فجر صباه، ويعيش حياة يكتنفها الغموض، فهو يتحمل آلاما لا يطيقها إنسان ومع ذلك لا يتكلم مطلقا ويبقى صامتا طوال الوقت، ثم إنه يظل عاري الجسد وقت البرد، وإذ يلف الصقيع كل شيء ويتدثر الحداد بالأردية الثقيلة نجد الصبي يتعامل مع الدنيا من حوله بلا مبالاة في شيء من التمرد السلبي، فيمسك الحديد وهو ملتهب ويندهش لفعلته الحداد نفسه، ونشعر أن الولد يستمد من أفعاله تلك شعورا بالانتصار والرضا، لكنه يشعر في قرارة نفسه بالنقص، إلا أن هذا الشعور ينقلب إلى فخر وزهو بلا حدود. السخرية من الواقع يبدو الفتي قادرا على مواجهة السخرية بكل برود واستخفاف، ويمنحه الإباء في وجه محاولات التعاطف معه، حتى في وجه فتاته التي تتخذ منه هذا الموقف، فحبه وكراهيته كلاهما متطرفان من أثر شراسته الدفينة، ويظل متجولا طوال الوقت في الطرقات وهو حافي القدمين لا يستره بنطال بخطوط خضراء، وعندما يقبض على مطارق الحديد وهي محماة تتوهج باللهب، يمد قبضته فيمسك بها حتى يئز جلده وتنطبع آثار الحريق في يده دون أن يرتاع أو يشكو ألما بل يملؤه شعور خفي بالبهجة لما أصاب يده من احتراق، ويخرج في الليل فيتراءى له الفجل شفافا كالبلور وتظهر ذؤاباته كأنها ذيول ذهبية اللون، فيهيم على وجهه حتى يدخل حقل الفجل من الغيط ويقطف منه حزمة وراء أخرى ويرفعها جميعا أمام عينيه متطلعا إليها تحت نور الشمس ويظل هكذا حتى يقتطع الفجل من الغيط كله. الغوص في عالم الأحلام يرفق المترجم حسانين فهمي حواره مع مويان بمقدمة الترجمة، وفي الحوار يؤكد صاحب نوبل 2012 أن "الأدب الصيني الحديث والمعاصر يتميز بمحافظته على التواصل بين الأجيال المتلاحقة حيث لإبداعات الكتاب الصينيين الممثلين للأدب الصيني الحديث قبيل تأسيس جمهورية الصين الشعبية وعلى رأسهم لوشيون تأثير واضح على إبداعات عدد من الكتاب المعاصرين الذين أنتمي إليهم، فقد استطاع لوشيون أن يفتح الطريق أمامنا للكتابة في مجال الواقعية النقدية ووضع أمامنا عددا من الموضوعات الأدبية المهمة التي استطعنا أن نكتب فيها". ويلفت مويان في حواره إلى أن أعماله تتميز بالمزج بين الواقعي والخيالي والغوص في عالم الأحلام وليس العالم السحري بالمعنى الدقيق للكلمة، ويعترف بأن تيار الواقعية السحرية ورائده ماركيز كان له تأثير واضح على إبداعاته القصصية في فترة الثمانينات، وأن أسلوب ماركيز كان له تأثير كبير على أسلوبه خلال تلك الفترة. ويضيف "أما عن المزج بين ما هو واقعي وخيالي أو أسطوري في أعمالي فيجب أن نشير في ذلك إلى نشأتي في هذه المنطقة من الصين، هذه المنطقة الغنية بالتراث الشعبي والأساطير الثرية، وتأثيري بأعمال كتاب صينيين ينتمون إلى هذه المنطقة مثل الكاتب الصيني بوسونغ لينغ الذي عاش غرب هذه المدينة قبل حوالي مئتي عام مضت، هذا بالإضافة إلى تأثري بأمهات الأدب الصيني الكلاسيكي، مثل ‘حلم المقصورة الحمراء' للكاتب تساو شويه تشين وغيرها من الأعمال، وفي هذا الصدد أفضل أن يذكر أن تأثري بالكاتب الصيني بوسونغ قي المزج بين الواقعي والأسطوري يفوق تأثيري بماركيز". محمد الحمامصي