وزير الداخلية المكلف يستعرض خلال المنبر الإعلامي التأسيسي لوزارة الداخلية إنجازات وخطط وزارة الداخلية خلال الفترة الماضية وفترة ما بعد الحرب    روسيا ترفض لتدخلات الأجنبية في السودان ومخططات تمزيقه    البرهان يودع سفيري السودان لمصر واثيوبيا "الفريق أول ركن مهندس عماد الدين عدوي والسفير الزين إبراهين حسين"    الزمالك يسحق دريمز في عقر داره ويصعد لنهائي الكونفيدرالية    سان جرمان بطلا للدوري الفرنسي.. وعينه على الثلاثية    أرسنال يحسم الديربي بثلاثية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    طباخ لجنة التسيير جاب ضقلها بكركب!    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    وزير الصحة: الجيش الأبيض يخدم بشجاعة في كل ولايات السودان    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    تجارة المعاداة للسامية    رئيس حزب الأمة السوداني يعلق على خطوة موسى هلال    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    الانتفاضات الطلابية مجدداً    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    استجابة للسودان مجلس الأمن يعقد اجتماعا خاصا يوم الاثنين لمناقشة العدوان الإماراتي    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    دبابيس ودالشريف    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    بمشاركة طبنحة و التوزة...المريخ يستأنف تحضيراته    السودان..البرهان يصدر قراراً    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    لماذا لم تعلق بكين على حظر تيك توك؟    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    سوق العبيد الرقمية!    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



البشير وإدمان الوعود الكاذبة..!!
نشر في الراكوبة يوم 26 - 08 - 2016


بسم الله الرحمن الرحيم
البشير الذي يتولي أمر السلطة لمدة تزيد عن ربع قرن، من دون مسوغ شرعي ولا حتي مبرر منطقي او مقبول، يمثل أنموذج (دراسة حالة) من عدة نواحٍ، ولكن في مقدمها او أهمها بروز تساؤل (بطول عصب وجع المدة وعرض إهتراء نسيج وتماسك مكونات البلاد!) يفرضه هذا الوضع الشاذ! وهو كيف تسني لشخص يفتقد كل مهارات القيادة ولا يحوز بضع أبجديات السياسة، أن يمتلك السلطة ويتحكم في مصير البلاد ومصائر العباد، معظم تلك الفترة؟! وفي محاولة للإجابة علي هذا التساؤل المحزن او الجرح الوطني النازف، نقترح عدة تفسيرات؟
أولها، تعتبر قلة الموهبة (القيادية السياسية الإدارية ..الخ) مصدر قوة بعكس ما يُعتقد! ولكن ذلك في الحالات غير الطبيعية او الأوضاع غير الشرعية، وهو عين ما يجسده نظام كالإنقاذ، قائم علي قوة الشوكة (المؤسسة العسكرية) ومشروعية المكر (الجماعة الإسلامية). وفي هكذا وضعية تعاقدية إنتهازية او شراكة إجرامية، يتمتع الطرف الأقل موهبة وذكاء (البشير) بنوع من الحماية وصولا للرعاية، من جانب الحليف الأكثر حنكة قيادية وذكاء او دربة تنظيمية (الترابي). وهي علاقة يتحكم فيها الطرف الثاني بطبيعة الحال (شبيهة بعلاقة القط بالفأر الذي يقع في مصيدته، يلاعبه قليلا ثم ينقض عليه!). وبالطبع وحسب التعاقد الضمني، تلك الموازنة ليست مجانية، ولكنها تتيح للطرف الأول إشباع رغباته السلطوية، ولو أن السلطة نفسها تتدني في وعي البشير المتدني أصلا، الي وضعية السمع والطاعة للرتبة الأعلي، وهو ما تربي عليه داخل المؤسسة العسكرية التي شكلت وعيه! أي علاقة البشير بالسلطة علاقة عسكرية (أوامرية عمودية!) وليست سياسية (جدلية أفقية!) وتاليا السلطة تعني الإنتصار وليس المسؤولية؟!
أما الطرف الثاني فتعني له هذه الموازنة القيادة من الخلف او التحكم من وراء ستار، الشئ الذي يرفع عنه المسؤولية الجنائية، علي الجرائم التي تمارس بصورة طبيعية، والفظائع التي ترتكب بطريقة منهجية، من جانب أجهزة الدولة الأمنية، لكسر شوكة المعارضين وإرهاب المواطنين، وتاليا تمكين أمر السلطة غير الشرعية! وكذلك لتوفير مخارج من المآزق السياسية والأخلاقية والأخطاء الكارثية، في حال حدوث إنتكاسة وسقوط حكومة الإنقاذ. وليس ذلك فحسب، وإنما هذه الموازنة تضمن من جانب، المحافظة علي ولاء المؤسسة العسكرية، ومن جانب آخر دعم الجماعات الدينية الحركية، ليس في الداخل ولكن في الخارج كذلك. ولكن ما فات علي الشركاء، أن المحافظة علي هكذا توازن سلطوي (عصابي إجرامي!) هو المستحيل بعينه! خصوصا وأن التاريخ يحدثنا عن المكر ليس علي لسان هيجل فقط، ولكنه يجعل من هذا المكر، قانون السلطة الأزلي! وعليه، كان قانون مكر السلطة أشد فاعلية وإن شئت واقعية، من قانون الموازنة السلطوية الترابية البشيرية! وبما أن طريقة إشتغال هذا القانون، تعمل لصالح القوة (العارية) بصورة أكبر من الذكاء (قوة مكر الفرد!) كانت المحصلة أن مكر الترابي بالشعب والديمقراطية، إنتصر عليه مكر السلطة (البشير/مالك القوة) وهي أشد الماكرين؟!
ثانيها، ووصلا لما سبق، يتضح أن للسلطة قانونها الخاص الذي تشتغل عليه، وهذا القانون لا يعني أن الذكاء والمهارة ليست عوامل هامة في إطاره، ولكن المؤكد أنها ليست العوامل الحاسمة في طريقة هذا الإشتغال، والتي يبدو أنها تتجسد في عاملين أساسيين، هما القدرة علي المنح والمنع، أي قوة البطش (الإرهاب) وقوة العطاء (الإغراء)، وتاليا السلطة بهذا الوصف، قادرة علي منح الذكاء لمن لا ذكاء له والمهارة لمن لا مهارة له، او أقلاه هي قادرة علي تلبية إحتياجاتها ذاتيا وبغض النظر عن من يتولي أمرها! وفي اللحظة التي تعجز عن تلبية تلك الإحتياجات لسبب او لآخر، تتعرض للزوال مفسحة المجال لسلطة أخري، قادرة علي إنتاج وسائل او تلبية حاجاتها الذاتية! والتي يبدو أن أساسياتها تكاد تكون متكررة او ثابتة تاريخيا. وهذا الوضع وإن كان مستنكرا من ناحية ديمقراطية او شرعية دستورية (لا يصدف أنها حديثة!) او حتي من وجهة نظرة مبدئية مثالية او معقولية منطقية، إلا أن الواقع والوقائع تؤكده، ليس من ناحية هكذا سلطة أبسط ما توصف به أنها مستبدة، ووجدت لها مكانة راسخة في الإجتماع الإنساني، ولكن من ناحية أنها تجد من يلتف حولها ويمنحها كل مهاراته وقدراته، وصولا لتبرير وجودها وشرعنة ممارساتها اللاشرعية! وعليه، لم تاتِ فرية الحرص علي الإستقرار او كراهة الإعتراض (التمرد!) علي السلطة، وما استتبعها من وضع تراث هائل يدعمها ثقافيا (فقهيا) وشعبيا (أمثال عامة) من فراغ! ولكنه كان ردة فعل طبيعية لنوع من تبادل المنفعة او العلاقة التكافلية! وهؤلاء الوسطاء الأخيرون بين السلطة والجمهور، كلما كانت أدوارهم ملتبسة وهي غالبا كذلك، أي تعمل لخدمة السلطة بمظهر الحرص علي مصالح الجمهور، كلما كانت مواجهة السلطة أصعب وتغيير وجهتها أكثر عسر! وهو ما قد يفسر بدوره عسر الإنتقال الديمقراطي في المشرق مقارنة بالغرب ووضع او وضوح الإنحياز التام للكنيسة والإقطاع للسلطة، وأحيانا إشتباكهما في كيان واحد، مما سهل مهمة مواجهتها نسبيا وإمكانية التخلص منها، والأصح من آليات الإستبداد التي كانت لا تقوم لها مقام إلا بها. بكلام ثانٍ، هكذا سلطة لم توجد او يتاح لها الإستمراراية إلا بوجود من تعبر عنه، وتاليا لها مُناصريها ومُريديها والأصح مُنتفعيها! أي توافر من لديهم قابلية التبتل في محرابها والسير في ركابها من ناحية، وتطوير ميكانيزمات للتعامل معها او التعايش في ظلها من ناحية أخري! وهذا يقودنا للنقطة التالية.
ثالثها، قبل الدخول في تفاصيل هذه النقطة، هنالك مدخل لها يتمثل في ملاحظة، أن معظم الدكتاتوريين والطغاة تتميز قدراتهم بالتواضع او المحدودية ومستوي ذكاءهم بالمتوسط او دونه، ولكن إذا دققنا النظر في هذه الملاحظة، نجد الغالبية العظمي من المواطنين وفي كل زمان ومكان تندرج عند هذا المستوي من القدرات والذكاء (وإلا لما كانت العبقرية والمواهب الفذة حالات نادرة!). بتعبير آخر، جزء من أسباب وجود الدكتاتور او تجذر الدكتاتورية، أنه يمثل الشريحة الأعظم من ناحية المواهب والقدرات! وهو ما يفسر بدوره الحنين من جانب البعض للدكتاتور والدكتاتورية بعد رحيلهم، ورغما عن الفظائع التي تمت علي أيديهم وأكلاف ذاك الرحيل؟ ولكن هذا لا يعني أن القدرات لا يمكن تطويرها او المواهب لا يمكن إكتسابها بالتعلم والجدية والإنضباط وقبل ذلك الرغبة والعزيمة! (ويمكن ملاحظة الفارق بوضوح، أي بين الموهبة الفطرية والمكتسبة عند المقارنة بين ميسي وكرستيانو رونالدو!). ولكن ما يهمنا في هذه النقطة تحديدا، أن الشعوب طورت قدراتها او كيفت أوضاعها للتعايش في ظل السلطة المستبدة، وبغض النظر عن مقدرات او سلوكيات بل حتي جنون وتهورات المستبد! ودافعها الأساس في ذلك، ليس القناعة او الرضا والقبول او حتي وجود مشتركات مع المستبد، ولكن في الغالب هو الحفاظ علي الحياة او تحايُّل غريزة البقاء! والحال كذلك، تصبح رغبة الحياة او غريزة البقاء، هما أكبر مناصرين للإستبداد ومساندين للطغاة! ولكن للأسف تلك الرغبات لن تمر مجانا او من دون أثمان، ولذا جزء كبير من أكلافها يمر عبر كرامة المواطن وتماسك قيم المجتمع! وبتعبير جارح، السلطة الفاسدة/الإستبداد لا تنتج الفساد فقط، ولكنها تكرس للفساد في أوساط المحكومين، حتي يُضمن لها البقاء والإستمرارية! ومع تجذر الفساد وسط المحكومين، يصعب عليهم رفض السلطة الفاسدة عمليا، ناهيك عن مواجهتها عصيانيا او الخروج عليها ثوريا! وهذا الإجراء (إفساد المحكومين) لا يحتاج لذكاء المستبد، ولكن في الغالب هو التعبير الوحيد لمحدودية ذكائه وقلة مواهبه! وفي هذا البشير ليس إستثناء، ولكنه قد يكون الأقل ذكاء ومواهب، وتاليا الأكثر إجرام وفساد؟! وكل هذا إن دل علي شئ، فإنه يدل علي أن الحرية او مطلب الحرية ليست معطي برهانيا ثابتا ولا هي بمنحة مجانية او ثمن للظلم والعذاب! ولكنها تربية وقيم مكتسبة، وأهم مكتسباتها التحرر من الخوف بكل أشكاله، وتاليا هي نضال ضد الإستبداد وقوانين سلطاته، وصولا لإبطال مفاعيل عمله، ومن ثم تهذيب السلطة ووضعها طوع بنان المحكومين الراشدين.
وإذا صحت او لم تصح التفسيرات الموسعة أعلاه، إلا أن هنالك مؤشرات عدة تدل علي تواضع قدرات البشير وإنحسار مواهبه بصفة عامة. وليس أدل علي ذلك من عدم إكتراثه لأفعاله وأقواله! إضافة الي فقر خطابه وهمجية مخاطباته وإندراجها في خانة الفعل الحماسي وردة الفعل الإنفعالية، أكثر من كونه/ها خطاب سياسي متماسك، يستهدف قضايا محددة او يعبر عن برامج معينة او أقلاه يستهدي برؤي واضحة المعالم (كأنه ينشر عتمته/جهله/ضلاله/قبحه علي العالم والعالمين!) وتاليا، أقصي ما تجنيه هذه الحماسة العسكرية والخطابة الشعبوية، هي خصومات وعدوات مجانية خارجية، وتصفيقات متشنجة ومشتراة (أتباع!) وإحباطات معارضة داخلية! وهذا إذا تغاضينا عن التهديدات الجوفاء للخارج، والمبطنة بالوعيد والمحملة بالإرهاب للمواطنين والمعارضة في الداخل! الشئ الذي جعل خطاب البشير ليس متماسك فقط، بل ومفتقر لمقومات الخطاب السياسي! والأصح تم رده الي خطاب تعبوي شبيه (بجلالات) المجندين و(منطق اللامنطق) للمدربين في ساحات التدريب العسكري! أي خطاب دفاع/نزاع/عداء وليس خطاب بناء/إقناع/تضامن! والحال من هذا، فهو خطاب مسيئ للسلطة قبل أن يكون محرج للمواطنين، وفي الخارج بخاصة.
أما إذا نحَّينا موضوع الخطاب وفقر مفرداته وخواء مضونه جانبا، وتوجهنا صوب وعود البشير المستقبلية وتعهداته الجماهيرية، فعندها نجد العجب العجاب! فأكثر ما يميز وعود البشير وبشرياته وما أكثرها، ليس فقدانها للمصداقية فقط، ولكن حتي للواقعية والمعقولية، وتاليا هي لأحلام الصحيان ومغازلة عواطف الجماهير أقرب! والأسوأ من ذلك، أن الوعود نفسها ليست أكثر من مغالطة للذاكرة الشعبية، قبل أن تسخر من الشواهد والأدلة والمواثيق المنتهكة لوعود سابقة! وبكلمة محددة، البشير يلقي الوعود علي عواهنها، او يعتقد أن ما يتفوه به ليس له أهمية او إلزام! ولا بأس من إثارة التصفيق والهتاف في الداخل، والإعجاب لدي غرائز أجهزة الإعلام في الخارج (التي تطربها أخبار من نوعية التخلي عن السلطة اللفظية، ودون التأكد من شروط المصداقية او مبررات المعقولية!) وهو للأسف خارج عودنا التغاضي عن أوضاع الداخل المتردية، لصالح بالونات الإختبار المزينة بالوعود الجوفاء! بدلالة أنه ما زال يلوك فرية تخلي سوار الذهب عن السلطة طواعيا، وكأن له بدائل أخري؟! ولكن كل ذلك لا يمنع مساءلة البشير عن تصريحه الأخير (مكرر!) لوسائل إعلام خارجية، بالتنازل عن السلطة نهاية فترته في العام 2020م؟! وهذا في حال صرفنا النظر عن كم الوعود الجوفاء (التي يصعب حصرها حتي للأستاذ بكري الصائغ) وهي كالعادة ذهبت أدراج الرياح! وكان البعض قد علق او أشار لنكوص البشير عن وعده السابق بالتنازل عن السلطة نهاية فترته في العام 2015م؟! وكذلك إشارة او تساؤل الأستاذ زين العابدين صالح عن الأشخاص ( او الكيفية) التي يتم بها تصديق البشير؟ وهذا تحديدا يقودنا لتساؤل آخر، ماذا يعني الصدق او المصداقية لدي البشير؟ بمعني آخر، الصدق او المصداقية كمعيار او مرجعية عامة لها تحديدها، ليس بالضرورة هي التي يتبعها او يعيِّها البشير، أو يصح أنه إنضبط بها يوما واحدا منذ وصوله غدرا (كذبا!) الي السلطة!
وعليه، يصبح حديث البشير عن التخلي عن السلطة في العام 2020 او 2050 او ما قبل الميلاد، هو حديث للإستهلاك الإعلامي حصرا، وتاليا لا يحمل أي أبعاد لا سياسية ولا سلطوية ولا دستورية ولا يحزنون، مما يصلح أصلا للنقاش او التعارك او مجرد الذكر والتناول، لولا أن الخيانة وحدها حملت صاحبه لتسنم سدة السلطة، أي بعد أن تسور حرمها وإنتهك عرضها في ليل بهيم! أما إذا صدف وحاصره الإعلام الخارجي متلبسا بالتناقض والنكوص، فعندها يتم إبراز حجج إعتراض الأعضاء في حزبه علي الإستقالة، وإلزامية قرارات الحزب، وكذلك من أجل إكمال مشاريعه التي بدأها؟! ولكن الإعلام ذاته لا يصل بالأسئلة لنهايتها المنطقية، لأنه لو تم ذلك قبلا لما شاهدنا نفس سيناريو الوعود يتكرر، وبنفس الألفاظ والإخراج تقريبا! وإذا عذرنا إعلام الداخل بحكم إجراءات الرقابة وأحكام الإيقاف والإعتقال الجزافية، فما هو عذر الإعلام الخارجي! بمعني، هل إلزامية رغبات الحزب أهم من الإحساس بالعجز او التعب او الفشل، أي فقدان القدرة علي العطاء بصفة عامة، كدافع أساسي للإستقالة والتنحي الجاد الذي لا رجعة عنه؟ وإذا كانت إلزامية قرارات الحزب بهذه القوة او الجدية، لماذا يصرح البشير بتصريح كهذا دون الرجوع للحزب؟ وإذا إفتراضنا أن أعضاء حزبه لا تهمهم صورته او مصداقيته، فماذا عن سلامة هذه الصورة والمصداقية لدي العامة، وقبل ذلك أمام نفسه؟! وهذا بالطبع إذا تجاوزنا حقيقة، أن أعضاء المؤتمر الوطني والحزب، مجرد دمي او مسرح عرئس يديره البشير بطرف بوته، وهذا في حال لم يكونوا قطيع يهُشه البشير بعصاه. أما حديثه عن إكمال مشاريع البناء (الذي يكثر لدي الدكتاتوريين كمبرر للبقاء!) فهو دليل إدانة أكثر منه مسعي خير يتوخي التعمير! بمعني هو مؤشر علي تحكم وعي وسلوك مالك العزبة في تصريف شئون ملكه! وتاليا هو ما يبيح إتباع نهج الوصاية و ممارسة رذيلة الإحتكار! المضران بالسلطة من جهة، والمبرران لإهانة المواطنين من الجهة المقابلة! قبل أن يتنافيا تماما مع النهج المؤسسي والتنظيمي الذي يحكم الدول الحديثة! وهو بطبعه نهج من الحياد بمكان، بحيث أن غياب شخص او مجموعة شخوص لا يؤثر علي فاعلية عمله او إنجاز أهدافه. وإذا سلمنا جدلا بصحة أقوال البشير في هذه النقطة تحديدا (إكمال المشاريع!). ماذا يحدث لها، إذا وقع أمر الله بصورة مفاجئة كما حدث للترابي مثلا؟ فهل تتوقف تلك المشاريع؟ وإذا حدث ذلك، ألا يشكل ذلك التوقف خسارة كبري؟ بل لهذا السبب ولغيره يجب الإقلاع فورا عن هكذا نهج إستبدادي تحكمي فاشل، ناهيك عن الدفاع عنه من جانب بعض الموتورين في الداخل؟!
أما حديثه الحديث عن ضخ دماء جديدة في أجهزة الدولة وبما فيها سدة الحكم! فغير أنه حديث مجاني لا يستند علي مؤشرات تؤكد صدقه، إن لم تثبت التجربة أن العكس هو الصحيح! إلا أنه يثير السخرية في حقه وليس الإحترام كما يتوهم، والذي يستتبع الرغبة الطوعية في التخلي عن الحكم؟ ومصدر السخرية أنه من جانب، يتجاهل الطريقة التي وصل بها الي الحكم، ناهيك عن كم الخراب والجرائم الذي إرتكبها بعد ذلك، والتي لا يجبرها التنازل ولكن القصاص! ومن جانب آخر، أنه يأتي بعد أن ظل في سدة السلطة، سبع وعشرون عاما حسوما، مضاف لها أربعة أعوام أخر ( يا للهول!). وكل هذا لا يستقيم، إلا إذا كان البشير يعتقد أن سنن الحياة لا تجري عليه كالآخرين، او أن دمائه دائمة التجدد كنبع النيل ( مع أن ركبه تنفي ذلك!)، او ظن أنه (أبو الهول!) الذي قدره أن يشهد التغييرات تجري تحت أرجله دون أن تطال مقامه السامي؟! وهذا علي كل سمة عامة يتصف بها كل الدكتاتوريين، أي الإصابة بمتلازمة التسلط/العظمة والمفضية بدورها للإحساس بالشباب الحيوية الثبات مقابل التضاؤل للدولة والشعب والتاريخ! ولكن عندما يضاف لذلك كم الخسائر في العمران والأنفس والثمرات، وإهدار فرص المستقبل وممكنات النهوض والتقدم، التي ترافقت مع بقاءه الأسيف في سدة السلطة! يصبح الحديث عن بقاءه فيها لمدة يوم واحد، هو جريمة لا تغتفر! ناهيك عن المطالبة بالإستمرار كما يشتهي أساطين الفساد.
وفي موضوع ذي صلة، نأتي لواقعة (فنلة ميسي) وتنصيب إثيوبيا او النصبة كما وصفها صادقنا مولانا سيف الدولة، وبعيدا عن التفاصيل تركيزنا ينصب علي الدوافع او الأسباب وراء ما جري من فضائح وغش دولي؟
سبق تحدثنا عن ضعف قدرات ومواهب البشير من نواحٍ عدة، ولكن ما هي الآثار المترتبة علي هكذا ضعف للقدرات والمواهب علي مركز حساس، إن لم يكن أكثر المراكز حساسية في الدولة، مركز الرئاسة؟
أهم وأخطر هذه الآثار، هي التأثير علي القيم والسلوك من جانب، والتقاليد المهنية والمؤسسية من الجانب المقابل؟ أي عندما تتم التغطية علي الضعف بالتوسع في الفساد! وأكثر ما يتبدي ذلك في إتجاهين رئيسيين هما:
أولا، توظيف موارد الدولة العامة، في مشاريع توفير الحماية وتعظيم وسائل ووظائف الإعلام والدعاية، وشراء ولاء المناصرين والأتباع ومواقف ومبادئ المؤلفة قلوبهم! وما يدهش حقا، هنالك من يتطوع للقيام بهذه الأدوار كراهة في المناؤين للنظام، ولكن للأسف لن يتسني لهم القيام بذلك، إلا عبر التغاضي عن الآثار الكارثية لهكذا منظومة فاسدة، آنيا ومستقبليا علي سلامة الوطن وكرامة المواطنين، وهذا ما لا يجوز في حق الوطن وحقوق المواطنين وقبل ذلك مروءة المتطوعين! المهم، مجمل هذه الممارسات، أحالت جهاز الدولة والأنشطة اللصيقة به، الي بيئة من الفساد المحض! أي بدلا أن يتوجه جهاز الدولة لحفظ الدولة وخدمة المواطنين، أصبح يتكسب منهما، ولا يصدف أن يكون ذلك بشراهة وقسوة وإذلال منقطع النظير؟!
وثانيا، بعد أن تسممت أجهزة الدولة وما توَّلد عنها من مسميات وأجسام او ملحقات زائدة (منظمات وشركات لا حصر لها ولا رقابة عليها!) بالفساد، إن لم تكن الأخيرة أحد الواجهات الشرعية والقانونية للفساد المحمي! إنعكس ذلك علي مجمل الحياة العامة، وتاليا توَّلد عنه إفراز آليات وروافع سياسية وإجتماعية، تعتمد علي العلاقة مع السلطة والقدرة المالية! أما كيفية او طبيعة العلاقة ووسائل الحصول علي المال، فقد تركت لفطنة الإنتهازيين ومواهب اللصوص!
وعندما يضاف للعاملين أعلاه، عاملان آخران لصيقان بالبشير. هما، تُهَمْ المحكمة الجنائية الدولية الموجهة ضد البشير، وما أعقبها من حصار وإذلال، وتاليا رغبة مؤرقة لفك الحصار والإنتصار للذات! والآخر، يرجع لصفات خاصة بالبشير، وتتحدد في ميل طاغٍ لحب المدح وتصديقه، خصوصا ما يرتبط بالفروسية والبطولة وغيرها من مخلفات الصراع القبلي وثقافة الحرب والتقتيل! وأخيرا إكتشفنا ميلا آخرا، يتعلق بحب الظهور الإعلامي والإلتصاق بالمشاهير، ولو أنه لصيق الصلة او أحد الأعراض الجانبية لآثار الحرمان الدولي من القبول، أو كردة فعل علي لعنة النبذ الدولي التي تطارد البشير، وتطرد عقله وتوازنه او تكاد تصيبه بالجنون! المهم، هذه الوضعية او الحالة الخاصة بالبشير وعطفا علي حالة الفساد المستشري كالنار في الهشيم، منحت مُنتهزيّ المواقف ونهابيّ المال العام فرصة ذهبية للإستثمار! ليتفتق ذهنهم عن مسرحية التنصيب ومهزلة (الفنلة!). وما يميز الخدع المسرحية الأخيرة، أن عائدها بالعملة الصعبة هذه المرة (تكاليف إعداد وإخراج مضروبة في عشرة أضعافها!).
أي بعد أن إكتفت الشبكة المحيطة بالبشير وتستثمر في سذاجته، من فائض المسرحيات الهزلية الداخلية، ومردودها المالي المحلي السائب! أمدت بصرها ناحية الخارج، وعوائده المضاعفة وسهولة التلاعب في حساباته! او قد تكون المسألة مجرد تنافس بين لصوص هذه الشبكات المحيطة بالبشير وتزيِّن له سوء عمله، ومؤكد أن اللعبة الدولية أكثر صعوبة ومغامرة وتحتاج لعلاقات مع شبكات خارجية، وتاليا مهارة أكبر من اللعب المحلي! والأهم أن إغراءات عوائدها لا تقاوم ومكانة أصحابها لا تدانيها مكانة. وبصفة عامة هنالك فارق بين فساد الإحتراف وفساد الهواة! فالأول يجيد التلاعب بالقوانين والعلاقات والمواقف والأفراد او فساده منظم وممنهج، وتاليا محاربته وقطع دابره أصعب! أما الآخر فما يهمه هو (الهبرات واللغفات) السريعة والتي في متناول اليد، أي لا يرافقه تخطيط وتدبير إستراتيجي طويل الأمد والآثار المدمرة! وطبيعي أن الأول يتكرس في التشكيلات العصابية، أما الآخر فقد يوجد في كل زمان ومكان، إعتمادا علي ضعف الرقابة والمحاسبة وشدة الحاجة وغيرها من العوامل الظرفية. في هذا الإتجاه، يصح وضع الشبكات المحيطة بالبشير، في خانة التشكيلات العصابية الإحترافية، بمختلف درجاتها وقدراتها ومسمياتها وطبيعة علاقتها بالبشير! وما يدل علي أن هذه الشبكات تستغل ضعف قدرات ومواهب البشير، في التوسع لأنشطتها ومضاعفة إستثماراتها وأرباحها، في الوقت الذي تضمن فيه جانب الحماية او مغبة الفضح والمحسابة! أنها لا تجرؤ مثلا، علي طرح أمثال هذه المسرحيات العبثية، من المدح الطفولي والتكريم الدعائي الإعتباطي، علي شخصية في ذكاء وخبرة الترابي، رغم حب الأخير للسلطة والزعامة وطيبة نفسه لوصف المفكر والمجتهد. وبناءً عليه، يصبح وجود شخص كالبشير بقدراته الضعيفة وسذاجته المعهودة في سدة السلطة، أكبر عامل مساعد علي الفساد، وتاليا هو مكسب لا يعوض للنصابين والمحتالين، أي هو مستفز لمحفزاتهم في النصب ومغرٍ لملكاتهم في الإحتيال؟! أما محنته الدولية فتشكل لهم البيضة التي تَبيض وتُبيِّض دولارت لاحد لها! وذلك بغض النظر عن ضعف التأليف المسرحي ورداءة الإخراج. ولله في الدكتاتورين والطغاة محن وعجائب لا تنقضي!
آخر الكلام
جنابو البشير، يكفينا جرح الجرائم الداخلية كل صباح، ولا طاقة لنا بتحمل إهانات الفضائح الخارجية كل حين، وكنا قد حمدنا الله علي نعمة حصار المحكمة الجنائية الدولية، التي أراحتنا من طلة تواجدك في المحافل الخارجية! ولكن يبدو أن طبع شبكات الفساد المحيطة بك غلاب. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.