على الرغم من ازدهار الفنون في عهد حكومة عبود وإنشاء الكثير من البنيات التحتية الخاصة بالثقافة والإبداع، إلا أن معظم المبدعين كان لهم موقف واضح من النظام في ذلك العهد نتيجة لسياسة القمع التي مارسها نظام عبود. ولأن الفن لا ينمو ويترعرع إلا في ظل الحرية، كان من الطبيعي أن يتمرد المبدعون ويرفعون عصا العصيان، فمنهم من تعرض للاعتقال والمضايقات. وعندما هبت ثورة أكتوبر عبر الانتفاضة الشعبية كانت لحظة مفصلية في تاريخ الأغنية السودانية، لا سيما الأغنية الوطنية، فكان للكلمة دورها وللنغم سطوته فخلد المبدعون ثورة أكتوبر بأشعارهم وأغنياتهم التي ظل صداها يتردد إلى الآن. وأشار الإعلامي والباحث والناقد صلاح الباشا إلى أن المبدعين كان لهم دور عظيم في تخليد هذه الثورة الظافرة، حيث تغنى الفنانون كل على شاكلته بتلك الأطروحات الشعرية التي تمجد الجماهير في ثورتها تلك. وقد كانت البداية مع الموسيقار محمد الأمين الذي تغنى بعد شهر واحد فقط من الثورة بنشيد الأستاذ فضل الله محمد الذي كتبه داخل معتقل السجن الحربي بالمهندسين حين حبسوه مع الطلاب الناشطين بجامعة الخرطوم منذ أمسية ندوة 21 أكتوبر بداخليات البركس، حيث استشهد فيها الطالب أحمد القرشي طه كأول شهيد في الثورة الشعبية، ولم يطلق سراح الطلاب إلا في أمسية 28 أكتوبر حين أعلن إنهاء الحكم العسكري بواسطة الرئيس الفريق إبراهيم عبود، فخرج فضل الله وفي معيته النشيد الذي قام بالتغني به ابن منطقته (ود مدني) الأستاذ محمد الأمين، حيث قال فيه أكتوبر واحد وعشرين يا صحو الشعب الجبار يا لهب الثورة العملاقة يا ملهم غضب الأحرار من دم القرشي وإخوانه في الجامعة أرضنا مروية من وهج الطلقة النارية أشعل نيران الحرية بارك وحدتنا القومية واعمل من أجل العمران ويضيف الباشا أن الشاعر الدبلوماسي الأستاذ عبد المجيد حاج الأمين كتب في ذات الشهر نشيدًا بالفصحى، وقد قام الموسيقار محمد حامد العربي بتأليف لحن هادئ له يتناسب مع هدوء المفردات، حيث أضاف إليه الأستاذ عبد الكريم من لمساته الجميلة وتغنى به، وقد أخذ النشيد عنوان طريق الجامعة هبت الخرطوم في جُنح الدُّجى ضمدت بالعزم هاتيك الجراح وقفت للفجر حتى طلعا مشرق الجبهةِ مخضوب الجناح يحمل الفكرة والوعيَ معا فالتقينا في طريق الجامعة مشهداً يا موطني.. ما أروعا ثم تبارى الشعراء في تمجيد تلك الثورة الشعبية.. ليأتي شاعرنا المتألق وقد كان خريجاً جديداً طري العود من كلية القانون بجامعة الخرطوم حيث كتب في ذات الفترة أجمل مفردات الشعر الإنشادي السوداني بلغة فصحى، ألا وهو الشاعر والدبلوماسي لاحقاً (محمد المكي إبراهيم) حيث أجاد الموسيقار محمد وردي تأليف لحن جميل للقصيدة ويتغنى به دوماً اسمك الظافر ينمو في ضمير الشعب إيماناً وبشرى وعلى الغابة والصحراء يمتد وشاحا وبأيدينا توهَّجت ضياءً وسلاحا فتسلحنا بأكتوبر لن نرجع شبرا سندق الصخر ختي يخرجُ الصخر لنا زرعاً وخضرا ونرود المجد حتى يحفظ الدهر لنا اسماً وذكرى باسمك الأخضر يا أكتوبر الأرضُ تغني والحقول اشتعلت.. قمحاً ووعداً وتمني والكنوز انفتحت.. في باطن الأرض تنادي باسمك الشعب انتصر.. حائط السجن انكسر والقيود انسدلت جدلة عُرس في الأيادي ويضيف الباشا أن هذه القصيدة المتفجرة أخذت قوة واعتزازاً تحمل بين طياتها كل شموخ الشعب السوداني المتميز، بل لقد رفد مكي الساحة الفنية بالمزيد من الأناشيد التي تغنى بها وردي مثل: من غيرنا يعطي لهذا الشعب معنى أن يعيش وينتصر، المعروفة بعنوان (جيلي أنا)، وقد نشرت في مقدمة ديوانه الأول الذي أخذ عنوان (أمتي).. ثم كتب لوردي نشيد (إنني أومن بالشعب حبيبي وأبي) . ولكن لشاعر وملحن آخر، وهو مبدع مجيد، وهو العميد(م) الطاهر إبراهيم أتى من رحم القوات السلحة الذي اشتهر بثنائيته مع الفنان الذري الراحل إبراهيم عوض، فكتب لوردي نشيداً خالداً وملحناً جاهزاً وهو شعبك يا بلادي شعبك أقوى وأكبر مما كان العدو يتصور الظلم... عُمرو اتحدد أيام أكتوبر تشهد السكة الحالكة الماضية تاريخِك ما بتجدد عهد فساد واستبداد.. الله لا عاد ومضى الباشا قائلاً: كما تغنى إبراهيم لذات الشاعر الطاهر إبراهيم بنشيد (الثورة شعار)، وأيضاً تغنى صلاح مصطفى من كلمات الشاعر الراحل مصطفى سند بنشيد (في الحادي والعشرين من شهر أكتوبر.. الشعب هب وثار.. أشعلها نار في نار.. حقق شعار المجد في شهر أكتوبر) . ولكن لا بد من وقفة متأنية لنرى ماذا كتب ذلك الشاب النحيل صغير السن آنذاك وهو الأستاذ (هاشم صديق) الذي لم يتجاوز عمره ال21 عاماً، فكتب أطول ملحمة شعرية أخذت عنوان (قصة ثورة) لأنها تحكي فعلاً قصة ثورة أكتوبر منذ أن كانت في رحم الغيب، وقد وصف فيها هاشم صديق كل تفاصيل الحدث الذي أحدث عصفاً ذهنياً لموهبته، فأتى ذلك العمل الوطني الضخم الذي أبدع الفنان الموسيقار محمد الأمين في توصيل مضامينه بذلك اللحن أو في الحقيقة بحزمة تلك الألحان ذات النقلات الكبيرة حسب ما تجود به كلمات النشيد من معانٍ ذات جرس عالٍ من التأثير على وجدان الجماهير، فظللت ملامح الحماسة كل مقاطع ذلك النشيد الذي أشرك فيه محمد الأمين في أدائه كلاً من الراحل خليل إسماعيل وعثمان مصطفى وبهاء الدين أبو شلة والفنانة الكردفانية أم بلينة السنوسي . لما الليل الداجي الطوّل فجر النور من عينا اتحول كنا نعيد الماضي الأول ماضي جدودنا الهزمو الباغي وهدوا قلاع الظلم الطاغي وفي ليلة وكنا حشود بتصارع عهد الظلم الشبّ حواجز شبّ موانع .. وجانا هتاف من عند الشاعر قسماً قسماً لن ننهار طريق الثورة هُدي الأحرار والشارع ثار وغضب الأمة اتمدد نار والكل يا وطني حشود ثوار وهزمنا الليل والنور في الآخر طل الدار والعزة اخضرت للأحرار يا أكتوبر نحن العشنا ثواني زماااااااان في قيود ومظالم وويل وهوان كان في صدورنا غضب بركان وكنا بنحلم بالأوطان نسطِّر اسمك يا سودان فقد رسم هاشم صديق لوحة زاهية عبر من خلالها بصدق عن كل تفاصيل الثورة مستفيدًا من خلفيته الدرامية في سرد الأحداث بلغة بسيطة أقرب ما تكون لأسلوب السهل الممتنع، فكانت الملحمة أو قصة ثورة أيقونة الأكتوبريات التي طرزها الموسيقار محمد الأمين بأعذب الألحان. وتظل ذكرى ثورة أكتوبر 1964م المجيدة نبراساً للشعوب التي تشرئب بأعناقها إلى الانعتاق من العبودية والاستعمار البغيض.