مخاطر جديدة لإدمان تيك توك    محمد وداعة يكتب: شيخ موسى .. و شيخ الامين    سلطان دار مساليت: إرادة الشعب السوداني وقوة الله نسفت مخطط إعلان دولة دارفور من باريس    نقاشات السياسيين كلها على خلفية (إقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً)    إيران : ليس هناك أي خطط للرد على هجوم أصفهان    قطر.. الداخلية توضح 5 شروط لاستقدام عائلات المقيمين للزيارة    قمة أبوجا لمكافحة الإرهاب.. البحث عن حلول أفريقية خارج الصندوق    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    هل رضيت؟    الخال والسيرة الهلالية!    زيلينسكي: أوكرانيا والولايات المتحدة "بدأتا العمل على اتفاق أمني"    منى أبوزيد: هناك فرق.. من يجرؤ على الكلام..!    مصر ترفض اتهامات إسرائيلية "باطلة" بشأن الحدود وتؤكد موقفها    الإمارات العربية تتبرأ من دعم مليشيا الدعم السريع    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    ضبط فتاة تروج للأعمال المنافية للآداب عبر أحد التطبيقات الإلكترونية    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    تراجع أم دورة زمن طبيعية؟    بعد سرقته وتهريبه قبل أكثر من 3 عقود.. مصر تستعيد تمثال عمره 3400 عام للملك رمسيس الثاني    المدهش هبة السماء لرياضة الوطن    خلد للراحة الجمعة..منتخبنا يعود للتحضيرات بملعب مقر الشباب..استدعاء نجوم الهلال وبوغبا يعود بعد غياب    إجتماع ناجح للأمانة العامة لاتحاد كرة القدم مع لجنة المدربين والإدارة الفنية    نتنياهو: سنحارب من يفكر بمعاقبة جيشنا    كولر: أهدرنا الفوز في ملعب مازيمبي.. والحسم في القاهرة    إيران وإسرائيل.. من ربح ومن خسر؟    شاهد.. الفنانة مروة الدولية تطرح أغنيتها الجديدة في يوم عقد قرانها تغني فيها لزوجها سعادة الضابط وتتغزل فيه: (زول رسمي جنتل عديل يغطيه الله يا ناس منه العيون يبعدها)    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    الأهلي يوقف الهزائم المصرية في معقل مازيمبي    ملف السعودية لاستضافة «مونديال 2034» في «كونجرس الفيفا»    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سد النهضة وآفاق التنمية الزراعية في دولة جنوب السودان وفي كنانة الكبرى
نشر في الراكوبة يوم 28 - 10 - 2016

بإشراف ومشاركة من وزارة الري السودانية عكف كونسوربتوم من أربع من كبريات بيوت الخبرة الاستشارية العالمية وعلى مدى خمس سنوات عكف على إعداد دراسة مستفيضة حول آفاق وإمكانات الاستفادة من حصة السودان من مياه النيل وفقاً لما نصت عليه اتفاقية مياه النيل لعام 1959.
نُشرت الدراسة تحت عنوان "دراسة مياه النيل" أي "Nile Waters Study" وغطت المواقع المناسبة لإنشاء السدود لأغراض التوليد الكهربائي والري كما غطت المشاريع المروية القائمة وتلك التي يمكن إنشاءها. تم تمويل الدراسة فيما نعتقد بمنحة من الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي واكتمل إعدادها في أربع مجلدات وملاحق في عام 1979.
اشتملت الدراسة على دراسات جدوى اقتصادية أولية Pre – Feasibility studies للسدود المقترحة وهي: الشريك، بدائل سد مروي، دال، الرميلة، وهو أعالي نهر عطبرة وستيت، السبلوقة وتعلية خزان الرصيرص كما قدمت إشارات إلي سدود أعالي نهر الجبل. أما في مجال الزراعة المروية فقد كانت أهم المشاريع التي تناولتها الدراسة هي:
المرحلة الثانية من مشروع الرهد، مشروعي شرق وغرب نهر عطبرة، المرحلتين الثانية والثالثة من كنانة الكبرى وذلك بالإضافة إلي مشروعي الجبلين – الرنك والرنك – وجلهاك بولايتي النيل الأبيض وأعالي النيل آنذاك.
اشتملت الدراسة أيضاً على "البوم أو أطلس حول خواص التربة في كل المشاريع المقترحة وذلك بإدراج خرائط توضح درجات خصوبة الأرض Land Classification Maps. أما بيوت الخبرة العالمية التي تكونت منها الكونسورتيوم – ونشير إليها في هذه الورثة بهيئة الاستشاريين – فهي ثلاث شركات بريطانية ورابعة فرنسية والشركات هي:
1. Sir Alexander Gibb and Parteners السير الأسكندر جيب وشركاؤه.
2. Hunting Technical Services هنتق للخدمات الفنية.
3. Sir M. Macdonald and Parteners السير ماكدونالد وشركاؤه.
4. Coyne et Bellier كوين وبيله.
تنبع أهمية هذه الدراسة من كونها تشكل خارطة الطريق لتنمية الموارد المائية ولإعمار المشاريع الزراعية المروية الكبرى في السودان.
نستدل على ذلك بتنفيذ ثلاثة من مشاريع السدود التي أوصت بها هيئة الاستشاريين وهي سدي مروي وأعالي عطبرة وستيت وذلك بالإضافة إلي مشروع تعلية خزان الرصيرص. نستدل أيضاً بما أوردته وسائل الإعلام مؤخراً حول الاتفاق الإطاري الذي تم توقيعه بين السودان والمملكة العربية السعودية في الثالث من نوفمبر 2015. ينص هذا الاتفاق على موافقة المملكة على تمويل إنشاء ثلاثة سدود على نهر النيل وهي سدود الشريك وكجبار ودال. تضمن الاتفاق أيضاً تمويل تنفيذ مشروع أعالي عطبرة الزراعي على مساحة مليون فدا موزعة بين شرق وغرب النهر.
إن قيام هذا المشروع يحمل دلالات هامة فإلي جانب كونه سينمو كمرتكز رئيس للتنمية البشرية في إقليم هو في أمس الحاجة إليها، فإن له بعد سياسي إذ يسهم في إزالة الغبن التنموي المتراكم. إضافة لذلك يمثل هذا المشروع أول مشروع زراعي مروي كبير بعد مشروع الرهد. بهذه الصفة يعالج المشروع الاختلال الكبير الذي نشأ بين مشاريع السدود والمشاريع الزراعية المروية الكبرى.
تهمنا بصفة خاصة في هذه الورقة ثلاثة من المشاريع الزراعية المروية الكبرى التي اقترحتها هيئة الاستشاريين في إطار دراسة مياه النيل. تشمل تلك المشاريع: مشروع الرنك – جلهاك الذي يقع – بعد الانفصال – في مقاطعة أعالي النيل بدولة جنوب السودان. ثانياً مشروع الجبلين – الرنك الذي يقع جزء منه في جنوب ولاية النيل الأبيض ويقع معظمه بمقاطعة أعالي النيل. أما المشروع الثالث فهو مشروع كنانة الكبرى الذي يقع بين النيلين الأبيض والأزرق وقد قسمته هيئة الاستشاريين إلي أربعة مراحل متجاورة. تبدأ المرحلة الأولى عند موقع يبعد بمسافة خمسين كيلومتر شمال مدينة الدمازين. تتواصل المراحل الثانية والثالثة والرابعة في اتجاه الشمال الغربي عبر سهل كنانة لتنتهي عند غرب هضبة المناقل حيث تلتحم بالأطراف الجنوبية من مشروع المناقل وحيث يقوم مشروع سكر حجر عسلاية.
مقترحات هيئة الاستشاريين لري المشاريع الثلاثة:
أولاً: مشروع الجبلين – الرنك:
للتعريف بهذا المشروع نذكر أنه يتمدد من الضفة الشرقية للنيل الأبيض في اتجاه الشرق وفي عمق السهول الواقعة بين النيلين الأزرق والأبيض، أي في القطاع الجنوبي – الغربي من سهل كنانة. يبدو المشروع بصورة عامة في شكل مقّوس أو شبه هلالي إذ يبدأ من عند الأطراف الجنوبية لمدينة الجبلين وينتهي عند مدينة الرنك. بين هذين الموقعين تتدرج طبغرافية المشروع صعوداً من ارتفاع 382 متر فوق سطح البحر إلي حوالي 397 ثم تتراجع إلي ارتفاع 382 متر وبذلك تكوّن شبه نصف دائرة قاعدتها هي الضفة الشرقية للنيل الأبيض و مساحتها 358 الف فدان . تتراوح معدلات الأمطار على أرض المشروع ما بين 400 ملم في شماله و 500 ملم في جنوبه. وفقاً لما هو معروف عن الزراعة المطرية في السودان تعتبر هذه المعدلات كافية لإنتاج عدة محاصيل صيفية يأتي على رأسها الذرة والأعلاف. رغماً عن ذلك فقد رأت هيئة الاستشاريين أن هناك ضرورة للري التكميلي تحسباً لتذبذب الأمطار وعدم انتظام مواعيدها ولضمان الحصول على أعلى إنتاجية ممكنة. تنشأ أهمية الري الاصطناعي أيضاً بما قد يستجد مستقبلاً، إذا ما رأت الإدارة الزراعية المعنية تكثيف وتنويع الإنتاج الزراعي وذلك في العروة الشتوية لإنتاج المحاصيل البستانية والمزيد من الأعلاف.
ثانياً: مشروع الرنك – جلهاك:
هو مشروع توأم لمشروع الجبلين – الرنك إذ يقع إلي الجنوب مباشرة ويكاد يكون مطابقاً له من حيث الشكل العام The lay – out. تتدرج أرض هذا المشروع صعوداً من الضفة الشرقية للنيل الأبيض حيث يبدأ من مدينة الرنك ثم يصعد بذات الشكل الهلالي ليعود إلي النيل الأبيض عند مدينة جلهاك.
رغماً عن هذا التشابه في الشكل العام فإن هناك اختلاف من حيث المساحة ومعدلات الأمطار. تبلغ مساحة هذا المشروع 524 ألف فدان تقع جميعها في مقاطعة أعالي النيل بدولة جنوب السودان. أما بالنسبة لمعدلات الأمطار فنظراً لكون هذا المشروع أكثر توغلاً في الأقاليم الممطرة بدولة جنوب السودان فإنه يحظى بمعدلات أعلى من الأمطار إذ تتراوح ما بين 500 و 600 مليمتر. بهذه المعدلات يصبح المشروع أقل حاجة للري التكميلي ولكنه لا يستغني عنه!
نظام الري المقترح:
تقترح هيئة الاستشاريين أن يتم الري بالطلمبات لكل من مشروعي الجبلين – الرنك والرنك – جلهاك. لهذا الغرض رشحت موقعين لإنشاء محطتين لضخ المياه. يبعد الموقع الأول بسبعة وعشرين كيلو متر (27 كلم) شمال مدينة الرنك وهو خاص بتوفير المياه للمشروع الشمالي وهو الجبلين – الرنك. أما بالنسبة لمشروع الرنك – جلهاك فتقترح هيئة الاستشاريين موقعاً يبعد بمسافة خمسة وأربعين كيلومتر (45 كلم) إلي الجنوب من مدينة الرنك لإنشاء محطة الضخ الثانية.
في كلتا الحالتين ترى هيئة الاستشاريين ضرورة الاستعانة بطلمبات مُعزّزة أي نقّالة booster pumps على مرحلتين لإيصال المياه إلي الأطراف الشرقية العليا للمشروعين.
من تلك الأطراف وفي كلا المشروعين تحفر قناتان رئيستان مقوستان وتتفرعان في اتجاهي الشمال والجنوب ومنهما تنساب المياه إلي أراضي المشروعين وهو ما يسمى بنظام الري متعدد المراحلmulti stage Irrigation system المعمول به في كثير من المشاريع النيلية في السودان وعلى رأسها مشروعي سكر كنانة والنيل الأبيض.
كما يتضح من الأرقام التي أودرناها عن المشروعين تبلغ مساحاتها الإجمالية ثمانمائة واثنان وثمانون ألف فدان (882 ألف) قد تصل إلي المليون فدان إذا ما تم استصلاح المواقع المرتفعة داخل المشروعين.
أما المحاصيل التي ترشحها هيئة الاستشاريين كمحاصيل نقدية فهي القطن متوسط التيلة والفول السوداني. نظراً لحاجة دولة جنوب السودان الماسة للمواد الغذائية فسيكون من الطبيعي أن تشمل الدورة الزراعية الذرة بأنواعها، والدخن، الذرة الشامية وإلي الحبوب الزيتية نضيف السمسم وزهرة الشمس وبطبيعية الحال الأعلاف وذلك وفقاً لخصائص التربة.
مشروع كنانة الكبرى:
كما سبق أن ذكرنا ترى هيئة الاستشاريين تنفيذ مشروع كنانة الكبرى على أربعة مراحل. لم تتضمن دراسة مياه النيل دراسة جدوى أولية للمرحلتين الأولى والرابعة واكتفت بالمرحلتين الثانية والثالثة. تتدرج معدلات الأمطار نزولاً في المرحلة الثانية من كنانة من 600 إلي 500 ملم لتصل إلي 450 ملم في المرحلة الثالثة.
أما المساحة المقترحة للزراعة المروية فهي ثلاثمائة ألف فدان لكل من المرحلتين الثانية والثالثة مع إمكانية التوسع إلي 450 ألف فدان بالنسبة للمرحلة الثالثة وبقدر أقل للمرحلة الثانية إذا ما توفر الري.
ترى هيئة الاستشاريين أن هناك أربعة بدائل لتوفير مياه الري للمرحلتين الثانية والثالثة من مشروع كنانة الكبرى والبدائل هي:
‌أ. نقل المياه رأساً من خزان الرصيرص بالري الانسيابي gravity irrigation أو بنظام يتكامل فيه الري الانسيابي بالراحة مع الطلمبات الرافعة.
‌ب. ضخ المياه من النيل الأزرق ورشحت الهيئة لذلك موقعاً يبعد بمسافة ثلاثين كيلومتر إلي الشمال من الدمازين لري المرحلة الثانية.
‌ج. ضخ المياه من النيل الأزرق من موقع آخر يبعد بمسافة مائة كيلومتر شمال الدمازين لري المرحلة الثالثة.
‌د. ضخ المياه من بحيرة خزان سنار من موقع مجاور لمحطة الضخ الخاصة بمشروع سكر شمال غرب سنار لري المرحلة الثالثة مع ضرورة استخدام الطلمبات المعززة "النقالة" لتغطية القطاعات الغربية العليا.
بعد إخضاع هذه البدائل للدراسة المعمقة توصلت هيئة الاستشاريين إلي أن استخدام الطلمبات الرافعة أكثر جدوى من الري الانسيابي من خزان الرصيرص ولذلك رأت أن تنقل المياه على النحو التالي:
المرحلة الثانية من كنانة:
إنشاء محطة ضخ من النيل الأزرق عند موقع يبعد بمائة كيلومتر شمال مدينة الدمازين وهو موقع بجوار قرية أبو نعامة.
المرحلة الثالثة من كنانة:
ترى الهيئة إنشاء محطة للضخ على الضفة الغربية لبحيرة خزان سنار وفي موقع يبعد بمسافة عشرين كيلومتر من مدينة سنار وليس بعيداً من محطة الضخ الخاصة بمشروع سكر شمال غرب سنار. ترى الهيئة أيضاً أن هناك ضرورة للاستعانة بالطلمبات النقالة لإيصال المياه إلي الأجزاء الغربية الأعلى من المشروع.
لماذا فضلت هيئة الاستشاريين الري بالطلمبات؟
لقد كان من الطبيعي أن تقترح هيئة الاستشاريين نظام الري بالطلمبات لمشروعي الجبلين - الرنك والرنك – جلهاك إذ لا يوجد بالقطاع الجنوبي من النيل الأبيض سد أو قنطرة Barrage يمكن الاستعانة بأي منها في الري الانسيابي.
أما بالنسبة للمرحلتين الثانية والثالثة من كنانة الكبرى فالأمر مختلف إذ يوجد خزان الرصيرص. لهذا يتبادر إلي الأذهان سؤال وهو لماذا لم تقترح هيئة الاستشاريين استخدام نظام الري الانسيابي مباشرة من الخزان. كما هو الحال مع قناتي الجزيرة والمناقل من خزان سنار؟
وفي تصورنا استندت هيئة الاستشاريين حينذاك على أربعة أسباب نوجزها أدناه:
1- يلاحظ أن المرحلتين الثانية والثالثة من مشروع كنانة الكبرى تقعان في إقليم غزير بالأمطار إذ تندرج المعدلات صعوداً من 450 ملم في الشمال إلي 600 ملم في الجنوب. كما هو معروف عند المزارعين والزراعيين تكفي هذه المعدلات في الحالات العادية لزراعة عدد من المحاصيل الإعاشية والنقدية في فصل الخريف. لهذا نتصور أن هيئة الاستشاريين رأت أن الحاجة للري التكميلي حاجة محدودة للغاية قياساً بمشروعي الجزيرة والرهد لموقعيهما الأكثر شمالاً. خلصت الهيئة – فيما يبدو – إلي أن استخدام الطلمبات الرافعة استخدام محدود ولذلك فهو أقل تكلفة وأعلى جدوى اقتصادية.
2- كانت هيئة الاستشاريين تعلم من دراستها للنظام المائي للنيل الأزرق أن الإيراد اليومي لهذا النهر يتراجع من متوسط ستمائة وخمسين مليون متر مكعب (650 مليون م.م.) في ذروة الفيضان إلي دون المائة مليون متر مكعب (100 مليون م.م) في الفترة ما بين فبراير ومنتصف يونيو من كل عام. لهذا أنصب اهتمامها على محاصيل العروة الصيفية بما تحظى به من خريف وفير. استبعدت هيئة الاستشاريين محاصيل العروة الشتوية إذ ستفرض حتماً الاعتماد على مياه النيل. إن الاعتماد على مياه النيل الأزرق في تزامن مع انحسار إيراده إلي أدنى المستويات سيعني تلقائياً إرباك التوليد الكهربائي من خزان الرصيرص وإحداث خلل لا مبرر له في المشاريع المروية القائمة وهي الجزيرة والرهد.
3- كانت مجموعة الاستشاريين تعلم أيضاً أنه بسب كثافة الأطماء في حوض خزان الرصيرص كانت طاقة التخزين المائي تتراجع طرداً بمرور السنين. يتضح ذلك مما ورد بدراسة مياه النيل حول تراجع طاقة التخزين من 3,5 مليار متر مكعب وفقاً للتصميم الأولي للخزان إلي 2,7 مليار م.م في عام 1979. توقعت مجموعة الاستشاريين أن يتواصل ذلك التراجع إلي 2,3 مليار م.م بحلول عام 1985 والي دون الاثنين مليار م.م بحلول عام 2000 وهو الأمر الذي حدث بالفعل! شكلت هذه الحقيقة سبباً آخر لاستبعاد العروة الشتوية سيما وقد كانت الحكومة السودانية تفضل الاحتفاظ بالقدر الكافي من المياه للتوليد الكهربائي، لإنجاح مشروع الرهد الوليد والي تنفيذ خطتها الرامية للتنويع والتكثيف الزراعي في مشروع الجزيرة.
4- أخير فرغماً عن اشتمال دراسة مياه النيل على دراسة أولية حول تعلية خزان الرصيرص فإن مجموعة الاستشاريين كانت تستبعد تنفيذ التعلية في مستقبل قريب إذ كانت المجموعة مدركة للمشاكل الاقتصادية والمالية التي كان السودان حينذاك يواجهها بسبب تداعيات أزمة الطاقة على ميزان المدفوعات. لقد تأكدت بالفعل تلك التوقعات إذ لم تتم التعلية إلا بعد مرور أكثر من ثلاثين عاماً على الدراسة.
دور سد النهضة في التنمية الزراعية في أراضي ما بين النيلين:
الآن وبعد مضي خمسة وثلاثين عاماً منذ إعداد دراسة مياه النيل فإننا نجد أنفسنا أمام تطورات عظيمة وضخمة من شأنها أن تعطي قوة دفع جديدة للمشاريع الزراعية التي تناولناها في هذه الورقة.
إن ما نعنيه بتلك التطورات هو الشروع في إنشاء سد النهضة الأثيوبي وتعلية خزان الرصيرص التي اكتملت مؤخراً. كما هو معلوم يجري العمل حثيثاً حالياً في إنشاء سد النهضة ويُخطط أن يكتمل في عام 2017.
لقد تم تصميم هذا السد بحيث يصبح قادراً على تخزين 74 مليار م.م من مياه الفيضان السنوي للنيل الأزرق. وفقاً لخطة التشغيل سيتم إطلاق المياه المحتجزة خلف السد وفقاً لبرمجة تغطي كل العام لتوليد ستة ألف ميقاواط (6000 ميقا.واط) تنتج فعلياً 15,692 جيقاواط/ساعة. إن الجوار الجغرافي المباشر وموقع السد على بعد عشرين كيلو متر يجعل السودان في موقع ممتاز للاستفادة من هذا الكم الهائل من الطاقة الكهرومائية الرخيصة وهو الأمر الذي ينطبق أيضاً على دولة جنوب السودان.
تتضاعف مكاسب السودان بالبرمجة في تصريف المياه التي سيتم احتجازها لأغراض التوليد الكهربائي طوال العام. يهمنا بصفة خاصة من هذه البرمجة تنظيم جريان النيل الأزرق ونهر النيل على حد سواء وذلك بالقدر الذي يقدم حلا جذرياً لمشكلة تذبذب الإيراد الموسمي السنوي وعبر السنين.
تتمثل أهم المكاسب التي سيحققها تنظيم الجريان في أربعة عناصر وهي:
توفير القدر الكافي من المياه للتوليد الكهربائي طوال السنة من كل السدود السودانية القائمة على النيل الأزرق وعلى نهر النيل وتلك إلي يخطط لإنشائها.
الحماية من الفيضانات العالية وفوق العادة.
توفير مياه الري بالقدر الكافي للعروة الشتوية في كل المشاريع المروية ولتنفيذ الخطط الرامية للتنويع والتكثيف الزراعي.
أن احتجاز مياه الفيضانات المشبعة بالطمي سيعني إرساب الطمي في حوض سد النهضة بطاقته الكبير في التخزين مما يعني ضمناً إطالة إعمار السدود السودانية.
أخيراً سيعني تنظيم التصريف السنوي للنيل الأزرق سيعني فتح المجال للنقل النهري بكل ميزاته في خفض استهلاك الطاقة وسعة النقل.
غني عن القول أن هذه العوامل ستسهم مجتمعة في التوسع والتنويع والتكثيف الزراعي كما ستسهم في التسويق من خلال النقل الميسر والرخيص.
تعلية خزان الرصيرص:
لقد اكتملت مؤخراً تعلية خزان الرصيرص وبهذه التعلية سيرتفع منسوب التخزين في حوض الخزان من 480 متر فوق سطح البحر إلي 490 متر. إن رفع منسوب التخزين بهذا القدر يعني ضمناً رفع الطاقة التخزينية للخزان من 3,5 مليار م.م إلي 7,2 مليار م.م وهو الأمر الذي يمهد للعودة إلي الري الانسيابي من الخزان كما سنرى.
اعتبارات في غاية الأهمية:
تعرضت دولة جنوب السودان لاضطرابات وحرب أهلية طاحنة كان ضحاياها من المدنيين بعشرات الآلاف كما كان النزوح بأعداد تقارب الثلاثة مليون نسمه. في هذه الأجواء استشرت المجاعة ويسعي المجتمع الدولي عبر برنامج الغذاء العالمي والجمعيات الطوعية لاحتوائها.
أن من رأينا أن الاستقرار السياسي وعودة السلام للدولة الوليدة لن يتحققاً دون الشروع الفوري والجاد في تنفيذ مشروعات زراعية كبرى. تكمن أهمية تلك المشاريع في توفيرها للمواد الغذائية الأساسية وعلى رأسها الذرة وزيت الطعام وفي إيجاد فرص عمل لامتصاص البطالة المستشرية ومن ثم التأسيس الجيد لتنمية اقتصادية اجتماعية راسخة ومستدامة. إن خير وسيلة لتحقيق واستدامة السلام هي بلا أدنى شك التنمية.
أما السودان فرغماً عن موارده المائية والزراعية الضخمة فهو ما زال عاجزاً عن استغلالها. لهذا تستفحل أزمة الغذاء وتشهد المواد الغذائية تضخماً غير مسبوق في الأسعار ولذلك تتسع دائرة الفقر خاصة بين الشرائح الضعيفة وذوي الدخل المحدود ولعل أبلغ دليل على ذلك هو انتشار سوء التغذية بين الأطفال.
رغماً عما جاء أعلاه يسعى السودان إلي الاستعانة بالدول الشقيقة والصديقة لمضاعفة الإنتاج الزراعي والحيواني ليسهم به في سد الفجوة الغذائية المتسعة في الوطن العربي.
إيجازاً لما تقدم نستطيع القول أن المستجدات التي ستحدث نتيجة لإنشاء سد النهضة وحدثت بالفعل بتعلية خزان الرصيرص تعني فيها تعني:
وفرة المياه طوال العام لأغراض الري المستدام في المشاريع الزراعية التي تناولتها هذه الورقة.
إمكانية استخدام الري الانسيابي من خزان الرصيرص لنقل المياه إلي ذات المشاريع وذلك دون الحاجة لاستخدام الطلمبات بما تفرضه من تكلفة رأسمالية عالية ومن تكلفة إضافية في التشغيل والصيانة وقطع الغيار والوقود.
مضاعفة التوليد الكهربائي من خزاني الرصيرص وسنار مما يسمح بإحداث تنمية اقتصادية اجتماعية شاملة ومستدامة. في تصورنا سيصبح التصنيع الزراعي والتصدير بمثابة القاطرة للاقتصاد والحراك التنموي.
إمكانية نقل كهرباء سد النهضة إلي مقاطعة أعالي النيل بدولة جنوب السودان لكهربة المدن والقرى ومشاريع الطلمبات وللتأسيس لصناعات زراعية وإطلاق شتى مشاريع التنمية الاقتصادية – الاجتماعية لتحقيق التنمية البشرية المنشودة.
طبغرافية أرض ما بين النيلين – جنوب:
يكشف المقطع العرضي the horizontal cross – section للسودان في امتداده من الحدود الأثيوبية شرقاً إلي غرب السودان يكشف بوضوح أن مجرى النيل الأزرق يعلو على مجرى النيل الأبيض. نستطيع ملاحظة الفرق في الارتفاع من القراءة المتفحصة لمسار قناتي الجزيرة والمناقل وشبكتي الري المتفرعتين منهما.
يكشف المقطع العرض أيضاً أن السمة الغالبة في طبغرافية أرض ما بين النيلين الأزرق والأبيض – وهي سهل كنانة الكبرى – هي الانحدار المتدرج والبطيء من شواطئ النيل الأزرق الغربية نحو شواطئ النيل الأبيض الشرقية. للاستدلال على التباين في الارتفاع بين النيلين نشير إلي موقع الدمازين على ارتفاع 465 متر فوق سطح البحر تقريباً مقارنة بمدينة الرنك – وهي على ذات خط العرض – التي تقع على ارتفاع 387 متر مما يعني أن هناك فرق في الارتفاع يبلغ 78 متر.
إذا ما اتجهنا شمالاً في أرض ما بين النيلين فإننا نجد أن الفرق يتراجع – بطبيعة الحال – إذ تقع مدينة سنار على ارتفاع 437 متر فوق سطح البحر تقابلها مدينة كوستي على النيل الأبيض وعلى ارتفاع 384 متر، أي بفرق يبلغ 53 متر. على ضوء ما تقدم نرى أن رفع منسوب التخزين في حوض خزان الرصيرص بعد التعلية من 480 متر إلي 490 متر سيعطي دفعة كبرى للزراعة المروية في أرض ما بين النيلين. ذلك لأن رفع المنسوب إلي 490 متر سيجعل السد في وضع يتحكم Commanding بإطلالته من عالى على معظم الأراضي الزراعية مما يجعل الري الانسيابي الأنسب والأكثر جدوى اقتصادية.
رغماً عما ذكرناه عن طبغرافية أرض ما بين النيلين فهناك بعض الحقائق التي لابد من ذكرها. من بين تلك الحقائق نذكر أن الانحدار المتدرج في اتجاه الغرب لا يخلو من وجود بعض الجبال المتفرقة نذكر منها على سبيل المثال الدالي والمزموم وأقدي والقرابين وجبل قولي الذي يتوسط المسافة بين الدمازين والرنك.
هناك حقيقة أخرى لابد من الإشارة إليها وهي أن الانحدار في اتجاه الغرب لا يخلو من تلال ونتوآت وحدبات تتناثر هنا وهناك. إن تلك الجبال والحدبات تشكل ما يشبه خط تقسيم المياه ما بين النيلين ولذلك نجد أن هنالك عدد من المجاري المائية والتي يصب بعضها في النيل الأزرق والبعض الآخر في النيل الأبيض. تصب في النيل الأزرق خيران: دنيا، خليل، القعرة، ملوية، دار عقيل وغيرها أما الخيران التي تصب في النيل الأبيض فلعل أهمها هي خور دوليب وخور بيبان.
رغماً عن هذا التباين في طبغرافية أرض ما بين النيلين فإن الحقيقة التي لا جدال حولها هي أن موقع خزان الرصيرص بمنسوبه الذي يصل إلي 490 متر فوق سطح البحر يجعله قادرا على توفير الري الانسيابي في معظم أرض ما بين النيلين بما فيها أرضي كنانة الكبرى فجميعها أدنى ارتفاعاً.
ترعة كنانة:
سبق لحكومة السودان أن سعت في تسعينات القرن الماضي إلي حفر قناة كنانة وذلك فيما أطلق عليه (مشروع ترعة كنانة) جمعت الحكومة أموالاً ضخمة من العاملين بالخارج من خلال المساهمة المالية الإلزامية لهذا الغرض. لم يُنفذ المشروع ولا أحد يدري أين ذهبت الأموال التي جمعت من المغتربين! الآن وقد أصبحت النهضة الزراعية تتصدر أجندات الحكومة كما أصبحت قضية الغذاء في دولة جنوب السودان أكثر إلحاحاً فإننا نرى أن الوقت مناسب للغاية لإطلاق المشاريع الزراعية التي تناولتها هذه الورقة وأهمها هو مشروع كنانة الكبرى.
النقل بالأنابيب:
لقد شاع استخدام الأنابيب في نقل السوائل والغاز بل وحتى المواد الصلبة بعد تكسيرها أو سحنها ثم خلطها بالماء! لذلك أصبحت صناعة الأنابيب من بين أكثر الصناعات نمواً في العالم. تحقق هذا النمو بفعل عاملين أولهما هو التوسع الحضري والصناعي على نطاق العالم. لقد فرض هذا التوسع مد شبكات المياه العذبة وشبكات الصرف الصحي وتصريف مياه الأمطار في الأقاليم الممطرة. فرض التوسع الحضري أيضاً إنشاء شبكات نقل الغاز لأغراض الاستهلاك المنزلي والتدفئة ولتزويد محطات التوليد الكهربائي.
إن كانت الأنابيب المستخدمة في المناطق الحضرية هي الأنابيب ذات الأقطار المتوسطة والصغيرة فإن هناك نوع آخر من الأنابيب أكثر اتساعاً وأكبر حجماً وهي غالباً ما تستخدم في نقل البترول والغاز الطبيعي المسال عبر المسافات الطويلة. لدينا في السودان أحد أطول خطوط أنابيب نقل البترول في العالم وهو الأنبوب الممتد من هجليج بغرب السودان وحتى ميناء بشائر على البحر الأحمر. يبلغ طول هذا الأنبوب 1610 كيلو متر أضيف إليها لاحقاً 470 كيلو متر لنقل البترول المستخرج من منطقة عدارييل بجنوب السودان إلي محطة الجيلي. إذا ما أضفنا إلي هذين الأنبوبين الأنبوب القديم الناقل لمشتقات البترول من بورتسودان إلي مستودعات الشجرة بجنوب الخرطوم – وطوله 815 كلم – يصبح لدينا ما مجموعه حوالي 2900 كيلو متر من الأنابيب.
لقد سبقتنا دول أخرى من دول الإقليم الذي نعيش فيه في نقل البترول بالأنابيب فكانت من بينها العراق التي تنقل بترولها شمالاً حتى الموانئ التركية على البحر المتوسط. سبقتنا أيضاً المملكة العربية السعودية التي تنقل جزء من بترولها من حقوله بالمنطقة الشرقية إلي ميناء ينبع على البحر الأحمر.
أما أطول خطوط الأنابيب وأشهرها فلعلها الخطوط الروسية التي تنقل الغاز من حقوله في سيبريا غرباً إلي غرب أوروبا وشرقاً إلي الصين بخطوط تقارب العشرين ألف كيلو متر طولاً. تليها أهمية الخطوط الجزائرية التي تنقل الغاز المُسال من الصحراء الجزائرية في مسارين أحدهما غربي يعبر مضيق جبل طارق إلي أسبانيا ثم إلي فرنسا وشرقي عبر تونس والبحر الأبيض المتوسط إلي إيطاليا وسويسرا.
أنابيب نقل المياه Aqueducts:
استُخدمت الأنابيب على نطاق واسع في العالم لنقل المياه من الأنهر والسدود والمصادر الجوفية ومحطات التحلية لإمداد المدن والمجمعات الحضرية والصناعية.
لعل أهم الأنابيب الناقلة للمياه في السودان اليوم هو الأنبوب الناقل للمياه من حوض مدينة بارا الجوفي لمسافة ستين كيلو متر لإمداد مدينة الأبيض. هناك مشروع آخر لعله قد اكتمل بالفعل وهو الأنبوب الخاص بنقل المياه من حوض بقرة الذي يبعد عن مدينة الأبيض بحوالي ثلاثين كيلو. أما أهم مشاريع الأنابيب التي تنتظر التنفيذ فهو مشروع الأنبوب الناقل للمياه من النيل إلي مدينة بورتسودان.
أما في المنطقة العربية فلعل من بين أهم خطوط أنابيب نقل المياه الأنبوب الناقل لمياه التحلية على الخليج العربي إلي العاصمة السعودية الرياض على مسافة تفوق الأربعمائة كيلو متر. أما أهم خطوط الأنابيب الناقلة للمياه على الصعيد العالمي فهي بلا شك تلك التي تنقل المياه الجوفية من وسط وجنوب شرق ليبيا إلي المدن والتجمعات السكانية والأراضي الزراعية المتناثرة على امتداد الساحل الليبي الشمالي على البحر الأبيض المتوسط. تشكل تلك الأنابيب ما يسمي بالنهر الصناعي العظيم The Great Man – made Rive.
للتعريف بهذا المشروع نستعين بالورقة بعنوان: (المياه العربية وتجربة النهر الصناعي الليبي) التي قدمها السيد/ عبد المجيد العقود الذي كان ممثلاً للحكومة الليبية في جهاز تنفيذ مشروع النهر الصناعي. قُدمت الورقة للمؤتمر الدولي الثامن الذي نظمه مركز الدراسات العربي – الأوربي بالقاهرة في الفترة ما بين 21 و 23 فبراير عام 2000.
ذكر مقدم الورقة أن الاستنزاف إلي تعرضت له الأحواض الجوفية الساحلية بسب التوسع الحضري والتكثيف الزراعي على امتداد الساحل الليبي أدى إلي زحف مياه البحر إلي الأحواض الجوفية. لقد تأكد ذلك بعد أن ارتفعت نسبة ملوحة المياه في طرابلس إلي 7000 جزء من المليون.
ذكر مقدم الورقة أيضاً أن الأحواض الجوفية تشكل 94% من مصادر المياه الطبيعية في ليبيا كما ذكر أن معظم المخزون الجوفي يوجد في جنوب شرق ليبيا بمنطقتي السرير وتازربو وفي وسط ليبيا بمنطقة فزان.
من هذين المصدرين تم إنشاء خطوط الأنابيب في اتجاه الشمال في محورين أولهما إلي بنغازي والثاني إلي طرابلس كما تم وصل الخطوط الناقلة عند الساحل وبذلك تم إيصال المياه إلى كل المدن والقرى الساحلية أسوة بالمناطق الزراعية. عند اكتمال المشروع بلغ طول منظومة خطوط الأنابيب 3500 كيلومتر. لإلقاء الضوء على صناعة الأنابيب التي استخدمت في إنشاء الخطوط الناقلة رجعنا إلي الدراسة التي أعدتها اللجنة الاقتصادية لأفريقيا التابعة للأمم المتحدة في عام 1991 حول المشاريع الكبرى لنقل المياه في أفريقيا. صدرت الدراسة بالانجليزية تحت عنوان: Study on Large- Scale Water Transfer in Africa كان من بين المشاريع التي تناولتها الدراسة مشروع النهر الصناعي العظيم.
ذكرت الدراسة أن إدارة المشروع كانت أمام خمسة خيارات من أنواع الأنابيب وهي: الأنابيب الفولاذية Steel Pipes، أنابيب الألياف الزجاجية Fiberglass Pipes، الأنابيب البلاستيكية Plastic Pipes، أنابيب الحديد المطوع أو المرن ductile iron، وأخيراً الأنابيب الخرسانية مسبقة الإجهاد القائمة على هياكل من الشبكات الفولاذية وهي ال prestressed Concrete Pipes . من بين هذه البدائل وقع الاختيار على الأخير منها وهو الأنابيب الخرسانية مسبقة الإجهاد.
لقد تطلب إنشاء خطين من الأنابيب من حوضي السرير وتازربو إلي بنغازي وسرت على مسافة الف كيلو، تطلب تصنيع مائتين وخمسين ألف أنبوب بقطر أربعة أمتار وطول 7,5 متر للأنبوب الواحد.
وقع الاختيار على الأنبوب الخرساني مسبق الإجهاد لميزاته المتعددة وهي:
أنه أقل تكلفة.
أنه أطول عمراً ويزداد قوة مع الزمن.
أنه يحتمل ضغط الماء والضغط الخارجي.
أنه قادر على مقاومة التآكل الذي يمكن أن تتسبب فيه التربة المحيطة أو التآكل الداخلي بفعل المياه المندفعة.
أنه أكثر متانة إذ يقاوم أحمال وضغط التربة المحيطة عند دفنه بينما تتعرض الأنواع الأخرى من الأنابيب للانحنآت والتشوهات التي قد تتسبب في نهاية الأمر في التسريب أو حتى الانفجارات.
أنه سهل التركيب.
أن حاجته من الحديد تمثل ثلث حاجة الأنابيب الفولاذية كما أن معظم مكوناته من المواد المحلية وهي الرملة والحصى والحجارة المكسرة الركام وهي ال gravel وبطبيعة الحال الأسمنت.
أنها صناعة محلية تستوعب العمالة وتضيف إلي خبراتها.
قد تبدو الإشارة إلي النهر الصناعي الليبي إشارة غير موفقة عند البعض مقارنة بإمكانات السودان إذ بلغت تكلفة هذا المشروع أكثر من خمسة وعشرين مليار دولار! إنه مبلغ يتضاءل كثيراً في نظرنا أمام الانجاز الذي تحقق بتوفير المياه لكل المدن الليبية الساحلية وبالنهضة الزراعية التي تحققت. من جهة أخرى تتضاءل تكلفة المشروع إذا ما قيست بالإيرادات الضخمة التي كانت تتدفق على ليبيا إبان الطفرة البترولية، فليبيا ذات ال 3,5 مليون نسمة آنذاك تتفوق هي والجزائر على دول الخليج وإيران في إنتاج البترول بقربها الشديد من أهم أسواق البترول في غرب أوربا ولذلك كان التدافع على التعاقد على استيراده.
إن البديلين المتاحين للسودان – في نظرنا – هما الأنابيب الخرسانية والأنابيب الفولاذية التي يمكن استيرادها على نصفين متطابقين لتقليل تكلفة النقل ومن ثم يتم التركيب عند الموقع أما بالمسامير أو باللحام. في كلتا الحالتين توجد خبرات على الصعيد الوطني يمكن الاستعانة بها. أن كانت لدينا مصانع للأنابيب تعتمد على المشتقات البترولية البلاستيكية التي تصلح لرفع المياه إلي الصهاريج ولتغذية قنوات الري، فإننا نعتقد أن شركة جياد ومصانع الحديد قادرة على صناعة الأنابيب الفولاذية الرئيسية main aqueducts بأقطار تتراوح ما بين 1,5 و 2 متر لاستخدامها لنقل المياه من خزان الرصيرص إلي المشاريع الزراعية المذكورة. أما الأنابيب الخرسانية فهي تعتمد على تقانة سهلة سيما وقد أنشأت ولاية الخرطوم مصنعاً لإنتاجها وذلك لاستخدامها في تصريف مياه الأمطار في العاصمة ولإنشاء البرابخ culverts لعبور جداول تصريف المياه.
بداهة لابد من دراسة جدوى من قبل المختصين للمفاضلة بين البدائل المتاحة بحيث تأخذ في الاعتبار كفاءة الأداء، العمر الافتراضي والتكلفة وذلك من بين أمور أخرى.
هنا لابد أن نضيف أنه ينبغي على الجهات المعنية بالاستثمار أن تولي صناعة الأنابيب عناية خاصة والمزيد من الإعفاءات وذلك باعتبارها صناعة أساسية لتحقيق التنمية الاقتصادية – الاجتماعية. إلي جانب مشاريع ما بين النيلين هناك مشروع مد بورتسودان بمياه النيل الذي طال انتظاره، هناك أيضاً مشروعي شرق وغرب نهر عطبرة بمساحة تبلغ المليون فدان وقد حظي بالتمويل السعودي كما جاء بالأخبار مؤخراً. أن خير وسيلة لنقل المياه إلي القطاعين الشرقي والغربي من خزان أعالي عطبرة هي في نظرنا الأنابيب.
بماذا يتميز النقل بالأنابيب:
يتضح من سياق هذه الدراسة أننا ننحاز انحيازاً تاماً لنقل المياه بالأنابيب ولهذا نقترح استخدامه في نقل المياه من بحيرة سد الرصيرص إلي المراحل الأولى والثانية والثالثة من مشروع كنانة الكبرى وذلك لري أراضي تبلغ مساحتها الإجمالية في تقديرنا أكثر من مليون فدان.
نقترح أيضاً استخدام ذات الوسيلة لري مشروعي الجبلين – الرنك والرنك – جلهاك بمساحة إجمالية تقترب من المليون فدان.
يستند اقتراحنا الخاص باستخدام الأنابيب على عدة عوامل نوجزها أدناه:
1- أن العامل الحاسم الذي يجعل استخدام الأنابيب هو الأفضل هو بلا شك إنشاء سد النهضة وتعلية خزان الرصيرص.
عند اكتمال سد النهضة سيكون من الممكن احتفاظ بحيرة خزان الرصيرص بمنسوب يصل إلي 490 متر فوق سطح البحر.
يبلغ الفرق في الارتفاع عن سطح البحر بين هذا المنسوب وبين الضفاف الشرقية للنيل الأبيض أكثر من مائة متر. بهذا الفرق تصبح كل أراضي ما بين النيلين محكومة Commanded بمنسوب مياه خزان الرصيرص. لهذا نرى أن حركة المياه عبر الأنابيب ستكون تلقائية وقوية بالقدر الذي يجعلها تتغلب على مشاكل التضاريس وأهمها "الحدبة" التي تتوسط أرض ما بين النيلين الأزرق والأبيض.
2- باستخدام الأنابيب مباشرة من خزان الرصيرص تنتفي الحاجة لاستخدام الطلمبات الرافعة والنقّالة boosters على حد سواء. إن انتفاء الحاجة للطلمبات يعني ضمناً توفير التكلفة الرأسمالية العالية عند استيرادها وتجهيزها كما توفر تكلفة الوقود وقطع الغيار والصيانة وبذلك يصبح نقل المياه بأقل تكلفة وهو الأمر الذي يدفع بالإنتاج الزراعي والحيواني.
3- في زمن تعز فيه المياه وتتنازع دول حوض النيل الأحد عشر على المحاصصة ويلتزم السودان بألا يتجاوز حصته من مياه النيل يصبح الاقتصاد في استخدام المياه على رأس الأولويات. هنا يظهر تميز النقل بالأنابيب مقارنة بالقنوات التي تتسبب في إهدار كميات كبيرة من المياه بسبب التبخر والتسرب. في واقع الأمر يكتسب منع التبخر قيمة خاصة وظاهرة تغير المناخ تتفاقم من عام إلي آخر سيما والأقاليم المدارية موعودة بالمزيد من الحرارة!.
4- تحتاج القنوات الناقلة إلي عمليات نظافة دورية ومكلفة لإزالة الحشائش وما قد يترسب فيها من طمي وهو الأمر الذي يعطي الأنابيب ميزة أخرى.
5- يتفوق نقل المياه بالأنابيب على نظيره بالقنوات بأنه أكثر حفاظاً على سلامة البيئة. ذلك لأنه يمنع توالد الحشرات الناقلة للأمراض وعلى رأسها الباعوض كما يمنع انتشار أمراض البلهارسيا والدوسنتاريا وغيرها من الأمراض المائية.
6- تعيق القنوات حركة الإنسان والحيوان من موقع إلي آخر في المشاريع الزراعية وهو الأمر الذي يستوجب تشييد الجسور والبرابخ بتكلفة عالية كما يفرض صيانتها بتكلفة ربما تكون أعلى. في مقابل ذلك نجد أن دفن الأنابيب لا يشكل عائقاً لحركة الإنسان والحيوان أو السيارات والآليات الزراعية.
7- تضمن الأنابيب وصول المياه إلي غاياتها في زمن قياسي وذلك بفعل الضغط وحدة الانحدار. أن سرعة وصول المياه تعني فيما تعني نقل كميات كبيرة من المياه تتفوق في حجمها المياه المنقولة بالقنوات وأن كانت عميقة ومتسعة. تعني أيضاً رفع كفاءة الإنتاج الزراعي والحيواني.
8- بفعل الضغط وقوة اندفاع المياه عبر الأنابيب سيكون من السهل رفعها مباشرة إلي الصهاريج التي تقام في القرى التي تشيد في المشاريع الزراعية. سيكون من الممكن أيضاً مد الأنابيب البلاستيكية ذات الأقطار دون المتر إلي أراضي الزراعة المطرية والأراضي الرعوية بين النيلين. إن إيصال المياه إلي تلك الأراضي يشكل دعوة قوية لاستقرار الرحل وللتوسع في الزراعة المطرية.
9- بفعل الضغط الرأسي في بحيرة الخزان وانحدار الأرض في المشاريع الزراعية التي سبقت الإشارة إليها سيكون اندفاع المياه في الأنابيب قوياً. لهذا سيكون من الممكن إنشاء محطات توليد كهربائي صغيرة وهي ال Small hydros أو ال Mini – hydros وذلك على مسافات متباعدة في مسار الأنابيب. إن إيصال الكهرباء المولدة إلي قرى المشاريع المقترحة سيعني الدفع بالتنمية الريفية إلي آفاق أوسع.
10- أخيراً يبدو مما ذكرناه عن طبيعية أرض ما بين النيلين ومن تراجع الحكومة عن مشروع (ترعة كنانة) أن استصلاح الأرض وشق الترع سيحتاج لعمليات هندسية ضخمة ومكلفة. إن نقل المياه بالأنابيب تحت الضغط العالي وإمكانية إيصالها إلي أراضي قد تكون أكثر ارتفاعاً – أي ما يسمي بأراضي القيزان – سيقلل من الحاجة لعمليات تسطيح التربة وشق القنوات.
مسارات الأنابيب Alignments of Aqueducts
لنقل المياه إلي المشاريع التي تناولتها هذه الورقة نرى أن تمتد عدة أنابيب من بحيرة خزان الرصيرص لكل مشروع على حده.
لقد فرضت تعلية الخزان تمديد الردمية (الكتفين) the embankments على جانبي جسم الخزان ولعل الردمية الغربية امتدت إلي حوالي 24 كيلو. متر قد يرى المهندسون أن تخرج الأنابيب من الردمية الغربية من واجهتها الشمالية تم توجه كل منها إلي المشروع المستهدف. قد يرون أيضاً تمديد الردمية الغربية من عند نهايتها في اتجاه الجنوب لمسافة قصيرة بحيث تصبح في شكل الحرف الانجليزي "L". إذا ما تم تجريف التربة أو حفريات خلف هذا الامتداد فستكون للبحيرة واجهة في اتجاه الغرب.
بهذا التعديل في الردمية سيصبح من الممكن مد أنابيب المياه مباشرة في اتجاه النيل الأبيض حيث يقوم مشروعا الجبلين – الرنك والرنك – جلهاك بهذا التعديل في الردمية تصبح الواجهة الشمالية للردمية للأنابيب الثلاث الناقلة للمياه إلي المراحل الثلاث لمشروع كنانة الكبرى ويكون هناك متسعاً للأعمال الهندسية الخاصة بكل الأنابيب. كيفما كانت خيارات المهندسين فإننا نرى أن تمتد الأنابيب من سد الرصيرص في الاتجاهات التالية:
1- أنبوب في اتجاه الشمال الشرقي لنقل المياه إلي مشروع الجبلين – الرنك.
2- أنبوب في اتجاه الجنوب الغربي لنقل المياه إلي مشروع الرنك – جلهاك.
3- أنبوب ثالث في اتجاه الغرب ليعبر النيل الأبيض عند مدينة الرنك ومن ثم يتفرع شمالاً وجنوباً لنقل المياه إلي القرى القائمة وتلك التي يمكن أن تقوم على الضفة الغربية للنيل الأبيض.
يبلغ الفرق في الارتفاع بين منسوب التخزين في بحيرة خزان الرصيرص – وهو 490 متر وارتفاع الأراضي بالضفة الغربية للنيل الأبيض – وهو 382 متر فوق سطح البحر عند ضفاف النيل – يبلغ ما يفوق المائة متر.
إن من رأينا أن هذا الفرق يسمح باندفاع المياه بقوة لتعبر النيل ولتصل إلي الأراضي الزراعية المتاخمة له وهي موزعة بين دولتي السودان وجنوب السودان.
تكمن أهمية نقل المياه بهذه الوسيلة في إمكانية رفعها مباشرة إلي الصهاريج القائمة وتلك التي يمكن تشييدها في قرى غرب النيل.
تكمن الأهمية أيضاً في توفير المياه بغرض التوسع في إنشاء المشاريع البستانية الصغير لإنتاج الفاكهة والخضر لرفع مستوى الغذاء ولإيجاد فرص عمل ولتنويع وزيادة مصادر الدخل لدى القرويين.
4- أخير هناك الأنابيب الثلاث الناقلة للمياه إلي المراحل الثلاث لمشروع كنانة الكبرى. من هذه الأنابيب يمكن أن تتفرع أنابيب بمقاسات متوسطة وصغيرة وذلك لنقل المياه لأغراض الشرب للإنسان والحيوان في الأرضي غير المستصلحة للزراعة المروية وهي أراضي الزراعة المطرية وأراضي المرعي.
5- التنمية البشرية في المشاريع المروية:
غني عن القول أن الغرض الأساسي من قيام هذه المشاريع هو التنمية البشرية بمعناها الشامل – لهذا نرى ألا تتجاوز المساحات المخصصة لكل مزارع رب أسرة العشرة فدان – بهذه المساحة سيكون من الممكن حشد أكبر عدد من المزارعين والرحل من أصحاب الماشية تحفيزاً لهم على الاستقرار.
من زاوية أخرى فإن صغر المساحة سيدفع المستفيدين إلي التكثيف والتنويع في الإنتاج الزراعي والحيواني. ذلك لأن التكثيف سيدفع المزارعين إلي تطبيق الحزم التقنية والحلول الشاملة التي ينصح بها المرشدون الزراعيون كما أن إدخال الحيوان سيدفع المزارعين إلي زراعة الأعلاف البقولية التي تسهم في استعادة الأرض لخصوبتها بدلاً عن تركها بوراً مع توفر المياه. بتكامل هذه العوامل تحقق المجتمعات الزراعية الجديدة الاختراقات الاقتصادية التي تضعها في مسار التنمية البشرية.
نضيف هنا أن صغر المساحات the plots التي تخصص لكل مزارع وحشد أكبر عدد ممكن من الأسر على أراضي المشاريع المقترحة سيعني توفر المبررات الاقتصادية لتوفير أهم مقومات التنمية البشرية. بتلك المقومات نعني مياه الشرب النقية والخدمات الصحية والتعليمية. يعني أيضاً رصف أو تعبيد الطرق حتى لا تظل المجتمعات القروية الحديثة حبيسة في فصل الخريف. يعني أيضاً توفير الكهرباء للاستخدام المنزلي من أحد المصادر المتاحة كالشبكة القومية أو المولدات أو من الطاقة الشمسية وهي الأمثل إذا ما تم توطينها على نطاق واسع ووجدت الخبرات الفنية التي تحسن التعامل معها وترعاها.
المشاريع الزراعية بدولة جنوب السودان:
سبق أن ذكرنا أن معظم مساحة مشروع الجبلين – الرنك وكل مشروع الرنك – جلهاك يقعان داخل مقاطعة أعالي النيل بدولة جنوب السودان.
لعله من المناسب هنا أن نلقى بعض الضوء على الأهمية الزراعية – الاقتصادية التي تتمتع بها مقاطعة أعالي النيل أو أعالي النيل الكبرى كما كان الحال في التقسيم الإداري القديم.
تتضح الأهمية الزراعية لمقاطعة أعالي النيل إذا ما القينا نظرة سريعة على بعض الحقائق الجغرافية عن دولة جنوب السودان. إن أبرز تلك الحقائق هي:
أن غرب الاستوائية والأجزاء الجنوبية من بحر الغزال الكبرى تقع جميعها بين خطوط المطر 1600 إلي 1000 ملم. كما هو معروف أن كانت الأمطار الغزيرة تثرى الأرض بالغابات والغطاء النباتي إلا أنها تمثل عامل إفقار للتربة مما يجعلها غير صالحة لكثير من المحاصيل. إضافة لذلك – وكما يفيد الزراعيون – لا تصلح المناطق غزيرة الأمطار أصلاً لإنتاج عدة محاصيل نقدية وإعاشية بسبب عدم ملاءمة البيئة ومتطلبات مراحل النمو والحصاد.
أن مناطق السدود في أسفل بحر الجبل وشرق بحر الغزال تغطيها المياه في معظم أشهر السنة ولذلك ليست هي المناسبة لكثير من المحاصيل كما لا تصلح لاستخدام الآليات الزراعية.
تغطي جبال الايماتونق والتلال المحيطة بها أجزاء واسعة من شرق الاستوائية كما تتراوح معدلات الأمطار عند منطقة البيبور وحتى الحدود الأثيوبية تتراوح ما بين 800 إلي 1400 ملم.
من زاوية أخرى تصعب تربية الحيوان – أحياناً تستحيل – في المناطق غزيرة الأمطار. تعزى الصعوبة لتوطن الحشرات الناقلة للأمراض كما هو الحال في غرب الاستوائية أو بسبب فقر المراعي الناتج عن فقر التربة.
أما مقاطعة أعالي النيل فتتميز على بقية مقاطعات دولة جنوب السودان بالآتي:
‌أ- تتراوح معدلات الأمطار فيها ما بين 800 ملم في جنوبها و 500 ملم في شمالها وهي المعدلات الأنسب لزراعة قائمة طويلة من المحاصيل الإعاشية والنقدية ولذلك فهي الأنسب لتصبح صومعة غلال جنوب السودان.
‌ب- تتميز تربتها بالخصوبة وبالاستواء مما يجعلها ملائمة للزراعة المطرية الآلية كما أنها ثرية بثروتها الحيوانية وبصفة خاصة الأبقار.
‌ج- يشقها النيل الأبيض فيوفر لها مصدراً مستقراً للمياه، الثروة السمكية والنقل النهري الذي يصلها بجوبا جنوباً وبالخرطوم شمالاً.
‌د- يستخرج منها البترول وذلك من منطقة عدارييل.
إن من رأينا أن يخطط هذين المشروعين بذات الكيفية التي ذكرناها آنفاً بغية تحقيق التنمية البشرية المنشودة. نضيف هنا أن هذين المشروعين أسوة بمدينة ملكال وكل المدن والقرى في القطاع الجنوبي من النيل الأبيض تستطيع الاستفادة من كهرباء سد النهضة التي يتم نقلها مباشرة وبخطوط خاصة عبر الأراضي السودانية. إن نقل كهرباء سد النهضة إلي مقاطعة أعالي النيل سيمهد الطريق لإحداث نهضة تنموية كبرى قوامها الإنتاج الزراعي والحيواني بدفع قوى من التصنيع الزراعي ومنافذه المتاحة وهي النقل النهري جنوباً حتى جوبا لأغراض الاستهلاك المحلي وشمالاً عبر السودان للتصدير. أن اجتماع وتفاعل الزراعة المروية مع تربية الحيوان وتوفر الكهرباء الرخيصة في قرى تتوفر فيها خدمات مياه الشرب النقية والخدمات الصحية والتعليمية سيضع المجتمعات القروية الجنوبية بامتياز على طريق التنمية البشرية المتسارعة والمستدامة.
أن من رأينا أن تسعى حكومة دولة جنوب السودان إلي إنشاء حقول إرشادية يقوم عليها مهندسون زراعيون متميزون ومحفزون من السودانيين الجنوبيين والشماليين وإن استدعى الأمر فلا بأس أن يتم التعاقد أو يُستجلب مزارعون أجانب بصفة مؤقتة لينشروا خبراتهم وليروجوا لكيفية التعامل مع الأرض والحيوان. نرى أيضاً أن تختار حكومة الجنوب المزارعين الذي سيوطنوا في المشاريع الزراعية أن تختارهم من قبائل مختلفة سعياً للتنوع القبلي والعرقي. إن ميزة هذا الاختيار أنه يحول القرى الجديدة إلي بوتقات تنصهر فيها المعارف والثقافات التي تتوجها أجيال قادمة بالانصهار العرقي الذي يصنع الأمة الموحدة. يحدث ذلك في أجواء يسودها التنافس الحر والشريف للوصول إلي أعلى معدلات الإنتاج مما ينعكس إيجاباً على سكن ورفاهية الأسر المثابرة ويثير الغيرة لدى الجميع!.
لقد أسهم مجتمع مشروع الجزيرة بقدر كبير في اقتصاد السودان كما هو معروف، من زاوية أخرى تحول المشروع إلي بوتقة انصهرت فيها القبائل والأعراق كما نراه اليوم.. وهذا ما نطمح أن يتحقق في مشروعي الجبلين – الرنك والرنك – جلهاك وفي القرى التي يمكن أن تقوم على ضفاف القطاع الجنوبي للنيل الأبيض.
كما حدث في مشروع الجزيرة يمكن أن تتحول القرى الجديدة إلي مناطق لصياغة إنسان الجنوب الجديد من حيث العلم والخبرات. الإنسان الجديد الذي يعود إلي مجتمعاته الزراعية الرعوية التي أتي منها آباؤه حاملاً معه عوامل الاستنارة وليقود حركة التنمية.
أخيراً نرى أن السودان بما تراكم لديه من خبرات وبما لديه من كوادر ومعينات فنية هو الأجدر بتبني إنشاء وإدارة المشاريع الزراعية الكبرى بمقاطعة أعالي النيل. إننا واثقون كل الثقة من أن السودان إذا ما أبدى استعداده لتخطيط وتنفيذ المشاريع الزراعية المذكورة فإنه حتماً سيجد – للأسباب المعروفة – الإشادة والموآزرة والدعم من الأشقاء ومن المجتمع الدولي وذلك بالقدر الذي يغطي معظم التكلفة.
في واقع الأمر هناك عوامل موضوعية تدفع في هذا الاتجاه – أن أول تلك العوامل هو أن الأعمال الهندسية الخاصة بمنشأ القنوات عند خزان الرصيرص أعمال متشابكة بالنسبة لكل القنوات المقترحة – هناك عامل ثالث ينبغي ألا يغيب عن أذهاننا وهو أن السودان شريك في مشروع الجبلين – الرنك وهو مشروع واحد لا معني في تقسيمه إلي مشروعين.
أخيراً نجد أن الأنابيب الثلاث المتجهة إلي مقاطعة أعالي النيل هي أنابيب عابرة للأراضي السودانية عند محلية التضامن بولاية النيل الأزرق. أن عبور الثلاث أنابيب لأراضي محلية التضامن يسمح بمد أنابيب منها لتوفير المياه في تلك الأراضي البعيدة والمعزولة عن النيل. إن توفير المياه في تلك المناطق – وإن كان بالقدر اليسير الذي يكفي حاجة الإنسان والحيوان في الشرب فإنه سيغير من وجه الحياة في جنوب النيل الأزرق. سيتغير وجه الحياة بتوطين النازحين إلي المدن والعائدين من الحرب بما يسمي إعادة الدمج وكل من ضاقت بهم الحياة بالولاية. هذا بالطبع بالإضافة إلي الرحل العائدين من جنوب السودان والذين يصعب عليهم عبور الحدود بمواشيهم. إن توفير المياه للإنسان والحيوان في محلية التضامن سيحولها إلي الأرض الموعودة أو الفردوس المفقود لما فيها من موارد.
تتضاعف مكاسب السودان بقيام المشاريع الزراعية الكبرى في أعالي النيل من خلال ارتفاع الدخول وتحسن القوة الشرائية لدى المزارعين فتتسع الأسواق للصادرات السودانية من السلع الصناعية مما يعطي دفعة قوية للصناعة السودانية.
إن إهداء السودان هذه الهدية القيمة لدولة جنوب السودان سيعني وضع أول لبنة للسلام الحقيقي والمستدام في دولة جنوب السودان وهو الأمر الذي يعزز الأمن القومي السوداني.
أن تبني السودان لهذا المشروع تنفيذاً وإشرافاً حتى يقف على قدميه سيؤسس لعلاقة جوار وإخاء متينة تتلاشى معها مرارات الماضي وتوفر الأجواء الإيجابية لمعالجة كل القضايا العالقة، ما نراه منها اليوم وما قد يستجد في مقبل الأيام.
أخيراً إن قيام هذين المشروعين سيعني استفادة دولة جنوب السودان من مياه النيل كما يؤكد استحقاقاتها المائية. بهذا المشروع يُرسل السودان رسالة إيجابية إلى الأخوة الجنوبيين مما يجعل دولتهم أكثر استعداداً لاستئناف العمل في قناة جونقلي باعتبارها أحد مشاريع حفظ المياه.
ان استفادة دولة جنوب السودان من سد النهضة على هذا النحو سيمهد لانضمامها الى " ترويكا" النيل الشرقي لتصبح الدولة الرابعة, سيما و نهر السوباط الذي يجري في ارضها ينحدر من الهضبة الاثيوبية .
سد النهضة وصناعة السكر في كنانة وحجر عسلاية:
الآن وقد لمسنا المكاسب التي سيحققها سد النهضة في التوسع الزراعي باستخدام الأنابيب في نقل المياه إلي أراضي بما بين النيلين، فإننا نرى أنه من الممكن والميسر استخدام الأنابيب للتغلب على الموانع الطبوغرافية وتقليل التكلفة في نقل المياه إلي المزيد من الأراضي الزراعية. أن ما يدفعنا إلي هذه الخلاصة هو قيام سد النهضة بتنظيم جريان النيل الأزرق ووجود سدود سودانية قادرة على الاحتفاظ بمناسيب عالية في أحواضها طوال العام.
على ضوء ما تقدم نتناول أدناه ما يمكن أن يقدمه خزان سنار إلي صناعة السكر في كل من كنانة "الصغرى" وحجر عسلاية. إن ما نعرفه عن خزان سنار هو:
أنه شيد في عام 1925 ليستخدم كقنطرة barrage ترفع منسوب المياه إلي المستوى الذي يجعلها تنساب في ترعة الجزيرة بالراحة.
يبلغ الطول الإجمالي للخزان ثلاث كيلومتر يمثل منها جسم الخزان – وهو بناء حجري – ستمائة متر.
إن جسم الخزان يرتفع عن قاع النهر بستة وعشرين متراً وأن بأسفله توجد 80 فتحة Sluices لتصريف المياه كما هو مزود بمفيض Spillway بعرض ثلاثمائة متر لتصريف مياه الفيضان.
يبلغ أعلى منسوب لبحرية الخزان 421,7 متر فوق سطح البحر ولتغذية قناتي الجزيرة المناقل يكفي رفع المنسوب الى 417,2 متر.
أما الفرق في المنسوب بين 421,7 متر و 417,2 وهو 4,5 متر – فهو يمثل حجم التخزين الذي يبلغ 600 ألف متر مكعب.
بعد هذه الإيضاحات نطرح سؤلاً وهو كيف يمكن لمشروعي سكر كنانة وحجر عسلاية أن يستفيدا من سد النهضة عبر خزان سنار؟
سبق أن ذكرنا أن مدينة سنار تقع على ارتفاع 437 متر فوق سطح البحر بينما تقع مدينة كوستي على ارتفاع 384 متر حسبما جاء بإصدارات تقويم السودان.
أوردنا هذين الرقمين لإعطاء القارئ الكريم مؤشر عن مدى الاختلاف في الارتفاع بين النيلين الأزرق والأبيض. نضيف هنا أنه بينما يمكن رفع منسوب التخزين في حوض خزان سنار إلي 421,7 متر فوق سطح البحر فإننا نجد أن منسوب النيل الأبيض عند مدينة كوستي يصل إلي 382 متر مما يعني أن هناك فرق بين المنسوبين يبلغ حوالي الأربعين متراً.
إن نظام الري المتبع في مشروعي كنانة وعسلاية هو نظام متعدد المراحل، أي Multi – Stages Irrigation system الذي يبدأ بالطلمبات الرافعة من النيل الأبيض ثم يُعزز بطلمبات أخرى نقالة booster pumps على مرحلتين حتى تصل المياه إلي القطاعات الأعلى من المشروعين.
إن البديل الذي نقترحه في هذه الورقة هو الأنابيب الناقلة للمياه من حوض خزان سنار دون الحاجة إلي المضخات الرافعة. أننا لا نستبعد أن تظهر بعض المعوقات الناتجة عن طبغرافية الأرض بين النيلين في محور سنار – كوستي، إلا أننا على اقتناع تام من أنها معوقات مقدور عليها بالحفريات مهما كانت عميقة.
إن الطبيعة الطينية للأرض وامكانية القيام بحفريات تسع أنبوبين لكلا المصنعين لهي عوامل من شأنها أن تخفض من تكلفة الحفريات والأعمال الهندسية المصاحبة. إن أهم المكاسب التي يحققها نقل المياه بالأنابيب هي انتفاء الحاجة لحرق البقاس كوقود لتوليد الكهرباء التي تستخدم في تشغيل الطلمبات والمصنعين على حد سواء. إن عدم حرق الكميات الضخمة من البقاس يعني إمكانية استخدامها كخامة أساسية في صناعة الأعلاف التي يتصاعد الطلب عليها. هذا بالطبع بالإضافة للاستخدامات الأخرى للبقاس إذ يشكل خامة ممتازة لعدة صناعات نذكر منها: ورقة الطباعة الفاخر، الخشب المضغوط، الكرتون .. الخ وفي كل هذه الاستخدامات مكاسب إضافية لمصنعي السكر وللماشية إذا ما نكبت البلاد بموجه جفاف ومن هذه وتلك مكاسب للاقتصادي الوطني.
إن المكاسب التي سيحققها سد النهضة لصناعة السكر ليست قاصرة على رفع منسوب المياه في بحيرة خزان سنار إلي منسوب 421 متر لتنساب تلقائياً عبر الأنابيب الناقلة فحسب، وإنما تشمل أيضاً الطاقة الكهرومائية الرخيصة من السد مباشرة أو من سدي الرصيرص وسنار بعد رفع طاقتها وبذلك تنتفي كل الأسباب لحرق تلال البقاس فماشيتنا في أمس الحاجة إليه!.
إن من رأينا أن آفاق نقل المياه بالأنابيب لأغراض الري والشرب وشتى الاستخدامات ما زالت متسعة. على سبيل المثال يصل أعلى منسوب للمياه في بحيرة سد مروي إلي أكثر من ثلاثمائة متر فوق سطح البحر بينما تقع مدينة مروي- كمؤشر – على ارتفاع 252 متر. أن فرق خمسين متر الذي يزداد طرداً مع انحدار النيل في رحلته شمالاً هو فرق يكفي لنقل المياه بالأنابيب إلي كل المواقع على وادي النيل بالولاية الشمالية. إن نقل مياه الري بالأنابيب يعني الاستغناء عن الطلمبات وتوفير الوقود والطاقة الكهربائية كما يعني التوسع الزراعي في الأراضي الهامشية.
والله الموفق
د. عمر محمد علي أحمد
عضو رابطة خريجي كلية الاقتصاد
والدراسات الاجتماعية بجامعة الخرطوم
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.