عندما يَذكر أو يتذكر الإنسان الفلسطيني أو العربي أو العالمي القضية الفلسطينية، لا بد له إلا وأن يُقرنها بشاعرها المتميز شاعر الشعب والثورة والقضية الفلسطينية محمود درويش، الذي نقل القضية الفلسطينية بفعل شعره المقاوم، من مجرد إحساس الآخرين بها على أنها قضية إنسانية لشعب هُجر من وطنه بفعل الإحتلال يستحق أن يتلقى المساعدات الغذائية أو أن يكون مجرد رقم في صفحات الأممالمتحدة الإنسانية، إلى قناعة كل الآخرين بواقعها السياسي مع حقيقتها الإنسانية، بأنها قضية شعب له كل الحق بأرضه ووطنه وحقه باستعادة حقوقه المسلوبة، وأنه يشكل رقما صعبا ومهما لا يمكن تجاوزه أو شطبه من سجلات العالم الجيوسياسية الملتفت للأقوياء المصرين على حقوقهم وثوابتهم، الذين منهم الشعب الفلسطيني الذي أثبت أنه القوي بإرثه وحضارته وقيادييه وبثقافته ومثقفيه. محمود درويش أيها الشاعر الإنسان: من ذا الذي إن إراد أن يتعرف على الثقافة الفلسطينية لا يطرق باب ثقافتك ويقرأ أشعارك، ليتعرف على خصوصيتها ومعانيها العظيمة، فأنت الأيقونة الفلسطينية المتكاملة والمنسجمة، فيها الصورة المعبرة عن الشاعر الإنسان بحسه وأحاسيسه وبخلجات قلبه، المتعاطف مع قضايا أمته، رغم جراحه وهول معاناته وكبر حجم قضيته، كما وفيها الصور الواضحة المعبرة عن الشعر الثوري بكلماته الجامعة المانعة التي أعزت قضيته، بعد أن كان أريد لها أن تكون مجرد صفحة مهملة من صفحات الأمم ما بعد الثالث، وأنصفت شعبه الصابر الصامد المرابط وأسهمت بنقله من مجرد لاجئين يتلقون المساعدات الغذائية إلى جموع مقاتلين من أجل الحرية، فكيف لا وأنت القائل: سجل أنا عربي ورقم بطاقتي خمسون الف وأطفالي ثمانية وتاسعهم سيأتي بعد صيف فهل تغضب سجل انا عربي واعمل مع رفاق الكدح في محجر وأطفالي ثمانية اسلّ لهم رغيف الخبز والاثواب والدفتر من الصخر ولا أتوسل الصدقات من بابك ولا أصغر أمام بلاط اعتابك فهل تغضب، سجل أنا عربي محمود درويش أيها الشاعر الوطني: من الذي إن أراد أن يتعرف على الرموز الوطنية الفلسطينية مثل أبو عمار وأبو جهاد وأبو مازن وغيرهم الكثير من القادة العظام، الذين سطروا صفحات مضيئة في كتاب فلسطين، التاريخ والتراث والحرية والاستقلال، لا يمر على ذكراك أيها الصرح الوطني الكبير، فاسمك كما الكثير من الأسماء الفلسطينية والعربية والعالمية الكبيرة لمع بفضاء فلسطين والعروبة والعالم، فإن كان من القادة من حمل السلاح من أجل التحرير والحرية، فبرع وأنجز وخط بدمه العزيز اسم فلسطين، أو إن كان آخرون اتقنوا الأدب السياسي المقاوم فدفعوا بفلسطين وقضيتها وشعبها إلى واجهة الأحداث الدولية وأروقتها الأممية فأبدعوا وحققوا من الإنجازات ما أغضب المغتصب لفلسطين وللحقوق، كنت أنت القلعة الوطنية الشامخة الذي عنون معاني العطاء والتحدي والصمود، وكنت قنديل الثقافة الفلسطينية ومنبعها الذي أزاح عتمة الليل عنها، وكنت ابن شعب الجبارين الذي أجبر العالم أجمع على تصفح وقراءة الحكاية الفلسطينية وتفهم فصولها عبر شعرك وقصائدك، حيث أسهمتَ بصنع قرارهم النصر لك ولفلسطين، بعد أن نقلتهم من ممانعين للحق الفلسطيني إلى مؤمنين بحتمية إقامة دولة فلسطين وعاصمتها القدس، لأنك أنرت طريق النضال والحرية بكلماتك المنظومة الموزونة التي عرفت أين تصل وتوصل الآخرين بها، ولأنك أنرت زوايا قلوب شعبك بأحاسيسك الملكية التي عرفت كيف تمتلكها فأعطتك حبا تستحقه، رغم تضحيتك بقلبك الواسع الكبير ككتلة لحم لا كوعاء تعقل وشعور، فكان كل عطائك ونضالك ومعاناتك حبا بشعبك الذي نقلت همه فأجدت، وشرحت حاله فنجحت، وصورت معاناته فأبدعت، ووصفت ثورته ونضاله فأنصفت، ووقفت إلى جانب قادته فأعطيت ونصحت، فكيف لا وأنت القائل: أنا شاهدُ المذبحة وشهيد الخريطة أنا ولد الكلماتُ البسيطة رأيتُ الحصى أجنحة رأيت الندى أسلحة عندما أغلقوا باب قلبي عليّاً وأقاموا الحواجز فيّا ومُنع التجوّل صار قلبي حارةْ وضلوعي حجارةْ وأطلّ القرنفل وأطلّ القرنفل محمود درويش أيها الشاعر الثوري: من ذا الذي إن أراد أن يتعرف على القضية الفلسطينية بأبعادها ومآسيها، بحلوها ومرها، بإنسانيتها وثوابتها، لا يمكن له إلا وأن يقرأ شعرك الوطني الذي علّم الناس أدب وثقافة ومسلكيات المقاومة فكنت المعلم بأبعاده الإنسانية، والقائد بأبعاده النضالية، والمدرسة بإبعادها التربوية، والثورة بأبعادها النضالية، والدولة بمقوماتها البنائية والحضارية، فقد كنت ضمير الشعب الذي إن بُح صوته يوما كنت حنجرته الحية وصوته العالي الجريء، وإن ظلمه الأعداء دوما وسلبه حقوقه، كنت كلماته النافدة كالرصاص والمعبر بصدق عن إرادته الفولاذية، فخلقت عنده حالة ثورية احترمها الأعداء قبل الأصدقاء، واحترم نفسه قبل أن يحترمه غيره، كما وخلقت حالة وطنية فريدة عند إخوانه وأشقائه والعالم، فتداعى الأشراف والأطهار والأنقياء الأتقياء لنصرته، وحالة يائسة عند أعدائه، فانفك عنهم الناس عدا الشيطان وأعوانه، فلم تطل الغربان الناعقات على شعب فلسطين لخوفها من سلاحك المضاء، ولم تسمعه نعيقها لخوفها من شعرك البتار، واختفت الأفاعي ولم تنفث سمومها بوجهه وبوجه قادته لأنها أيقنت أن شِعرك وشعورك هو الترياق، وهربت الضالات الخائنات فاختبأت بأوكارها الظلامية لأنها تخاف النور الذي يشع من فمك وقلبك، فكنت الضوء الأول المتقدم الذي أضاء الطريق والنفق، وصنعت بإشراقتك وحضورك فجر الغد ونهار الحرية، واليد الرافعة التي مسكت بيد شعبها لترفعه للمجد وللعلياء، ولم تكن ممن يدوسون بأقدامهم على أجساده للوصول إلى القمم، وكنت القلم والرصاصة والحجر الذي أسهم بوضع لبنة متينة بجدار الدولة التي ستقام بفضل نضالك وكتاباتك وأشعارك، وكنت السفير فوق العادة الذي نجح بوصف القضية، فتسابق العالم كله لاحتضانها والإعتراف بها، حتى عدوك لم يستطع أن يقول لا أمام قوة نعمك، كيف لا وأنت من كتبت وثيقة إعلان قيام الدولة والحرف الأول كان بدمك، كيف لا وأنت القائل: أيها المارون بين الكلمات العابرة آن أن تنصرفوا وتقيموا أينما شئتم ولكن لا تقيموا يننا آن أن تنصرفوا ولتموتوا أينما شئتم ولكن لا تموتوا بيننا فلنا في أرضنا ما نعمل ولنا الماضي هنا ولنا صوت الحياة الأول ولنا الحاضر، والحاضر، والمستقبل ولنا الدنيا هنا.. والآخرة فاخرجوا من أرضنا من برنا .. من بحرنا من قمحنا .. من ملحنا .. من جرحنا من كل شيء، واخرجوا من ذكريات الذاكرة أيها المارون بين الكلمات العابر! محمود درويش يا حكيم فلسطين الوطن والدولة، بعد رحيلك تكالبت العقارب والحيات، وتشابكت معها أيادي الضاريات والقوارض والغربان، فنسجوا من المخططات ما خبرت مثلها لما كنت بيننا، ونسجوا الأسوء منها لما غبت عنا بفعل رحلة الموت الحق علينا، لكنهم نسوا عنفوان الشعب الفلسطيني الذي تسلح بالعلم والثقافة وبوحي أشعارك، ففلسطين بعدالة قضيتها وبإيمان شعبها وبصدق ووطنية قيادييها لا بد ستنتصر رغم هول الجراح وطول المعاناة، ورغم بشاعة ونذالة الأعداء، لأن الشعب كله هو كأنت الشاعر المناضل والقائد والإنسان. عطا الله خيري السفير الفلسطيني في عمان