نعم ما ستقرأه صحيح، "اخترعت برمجيات دردشة تابعة لفيسبوك لغة غير بشرية خاصة للتفاوض بينها، وهي لغة غير مفهومة للناس العاديين". سيكون أمراً مرعباً حقاً إذا استخدمت هذه البرمجيات -التي طورها معمل أبحاث الذكاء الاصطناعي بالفيسبوك- هذه اللغة التي اخترعتها للتآمر على مخترعيها من البشر. جاء ذلك الخبر بعد 218 عاماً من اكتشاف حجر رشيد، الذي سَهَّل بالطبع فك رموز الهيروغليفية في العصر الحديث. لكن لا تزال توجد كتابات قديمة لم نفهمها بعد، بل وتسبب استعصاء إحداها على الفَهمِ في إعدام عالم آثار على يد حلفاء للنازيين، حسبما ورد في تقرير للكاتبة كانديدا موس، نُشر بموقع "الديلي بيست" الأميركي، عرضت فيه تاريخ الكتابات القديمة، خاصة تلك التي لم تفك طلاسمها بعد. الكتابة الأشهر اكتُشِفَ حجر رشيد عام 1799 على يد جندي فرنسي يُدعَى بيير بوشار خلال حملة نابليون بونابرت على مصر، على بعد 35 ميلاً شمال الإسكندرية، في قلعةٍ بالقرب من مدينة رشيد. يبلغ طول حجر البازلت الأسود أربع أقدام، وعرضه هو قدمان ونصف القدم. والحجر، كما نعرف، عليه نقوش بثلاث كتابات: اليونانية القديمة، والهيروغليفية، والديموطيقية (كتابة مصرية متأخرة استخدمت في منطقة الدلتا). ويوضح النص اليوناني أنَّ الحجر كان تخليداً من الكهان لبطليموس الخامس، حاكم مصر اليوناني في القرن الثاني قبل الميلاد، وذُكِرَ عليه أنَّ الكتابات الثلاث تحمل المعنى ذاته. بعبارةٍ أخرى، كان الحجر هو المفتاح الذي فك شيفرة الهيروغليفية. كان العلماء آنذاك قد حاولوا لمئات السنين فك رموز الهيروغليفية. وربما بقيت أهمية الحجر مجهولة لولا احتواء الحملة الفرنسية على مجموعةٍ من الأكاديميين الفرنسيين الذين تلقوا تعليماتٍ بأن يستحوذوا على كل شيء ذي أهمية ثقافية وتاريخية. سَلَّم الجندي بوشار الحجر للعلماء الذين عملوا عليه حتى عام 1801 حينما هَزَمَ البريطانيون الفرنسيين في مصر واستولوا عليه. ولا يزال الحجر معروضاً في المتحف البريطاني منذ 1802 حتى اليوم. لكن يعود الفضل كاملاً في فك الرموز الهيروغليفية إلى الفرنسي فرانسوا شامبليون، الشاب العبقري الذي ألقى أول محاضرة له عن الفيلولوجيا (فقه اللغة المقارن) في سن السادسة عشرة. ونشر شامبليون، الذي يُعرَّف بأنه أبو علم المصريات، فَتْحَه الهيروغليفي عام 1822، وفجأة تفوَّق على عمل الأكاديميين البريطانيين في نفس المهمة. ربما امتلكت بريطانيا الحجر، لكن فرنسا تمكنت من قراءته. الكنيسة المسيحية التي تُبيح تعدد الزوجات لكنَّ فك رموز الشيفرة الهيروغليفية لم يكن خبراً جيداً للجميع. إذ مثَّل القرن التاسع عشر قمة الهوس بكل ما هو مصري، وأرادت النخبة حينئذٍ أن تحوز آثاراً لضمها إلى مجموعاتها الشخصية، أو أن ترى كنوز مصر القديمة "النادرة". من بين هؤلاء جوزيف سميث، مؤسس كنيسة يسوع المسيح لقديسي الأيام الأخيرة ( الكنيسة المورمونية). والمورمون هم طائفة يعتبر أتباعها أنفسهم مسيحيين، معقلهم في ولاية يوتاه الأميركية، حيث يشكلون نحو 61% من سكانها و1.7% من إجمالي سكان الولاياتالمتحدة، أي نحو 6 ملايين نسمة. الاختلاف بين المورمون والمسيحيين الآخرين هو "كتاب المورمون"، الذي يعتبر أيضاً أساساً لديانتهم، حسب تقرير لموقع "رصيف 22". وتشكل قدسية العائلة إحدى القيم الأساسية لديهم، وتُحرّمُ كنيستهم شرب الخمر، وغالبية أتباعها لا يشربون الشاي والقهوة وكل ما يحتوي على الكافيين، كما أنهم لا يدخنون السجائر. وبعض المتشددين من المورمن يمنعون النساء من لبس التنانير القصيرة والسراويل. مارس المورمون تعدد الزوجات، ولا يزال عدد من أتباعها من رافضي التحديث يمارسون هذه العادة في مجتمع منغلق على نفسه رافض للمتطفلين، ومن الصعب جداً مغادرته، وفقاً لما ورد في موقع "راديو سوا". ما علاقة المورمون بالهيروغليفية؟ في عام 1835، حصل مؤسس الطائفة جوزيف سميث على بعض البرديات من أحد معارض المومياوات المتجولة. سميث سمى هذه البرديات "كتاب إبراهيم"، وادَّعى أنَّها كانت ترجمة لكتابات إبراهيم أثناء وجوده في مصر (كما ذُكِرَ بسفر التكوين). استكمل سميث وصف محتوى البرديات بأنَّها تحتوي، بالإضافة لأشياء أخرى، حساباً للكون وخلقه، وترجمها. وفي 1880 قدست كنيسة قديسي الأيام الأخيرة البرديات، ولا تزال مؤثرة في العقيدة المورمونية حتى اليوم. لسوء حظ سميث، بمجرد تمكن عالم مصريات غير مورموني من قراءة الهيروغليفية وفحص البرديات (يُشار إليها عادةً باسم برديات جوزيف سميث)، تَبَيَّنَ أنَّها كانت بقايا نصوصٍ جنائزية مصرية قديمة تحتوي على كتاب التنفس لمؤلفه حور، وكتاب الموتى الشهير. وفي 1912، نشر آرثر كروتندن ميس، القَيّم المساعد بمتحف متروبوليتان للفنون، خطاباً قال فيه إنَّ "كتاب إبراهيم" ليس إلا "تلفيقاً خالصاً". أما روبرت ريتنر، عالم المصريات بجامعة شيكاغو، فقد كان أكثر لطفاً حين كتب في 2014 أنَّ النصوص الجنائزية المصرية "أُسيء فهمها وترجمتها". لكنيسة قديسي الأيام الأخيرة ردود على ذلك التناقض، تدور عادةً حول فترةٍ في تاريخ البرديات كانت ضائعةً فيها، لكنَّ الخلاف تسبب في إحراج كنيسة أُسِّسَت جزئياً على افتراضٍ محوري أنَّ جوزيف سميث كان مترجماً لا غبار عليه. لذلك أي دليلٍ على عكس ذلك سيكون إشكالياً للغاية. وعلى غرار الهيروغليفية جاء مفتاح قراءة الكتابة المسمارية التي كُتبت بها اللغة السومرية، التي يعتقد أنها أقدم لغة مكتوبة في منتصف القرن التاسع عشر من نقش بيستون، وهو نقش مسماري ثلاثي اللغة مكتوب بالفارسية القديمة، والعيلامية، والأكدية، ثم تم لاحقاً فك شفرات اللغة السومرية. كتابات غير مفهومة ورغم ذلك لم تكن الهيروغليفية أو المسمارية آخر الكتابات غير المقروءة؛ إذ استخدمت مستوطنةٌ قديمة في وادي السند، تقع اليوم في باكستان وشمال الهند، كتابةً لم يتمكن العلماء من فهمها بعد. ازدهرت هذه الحضارة بين عامي 2600 و1900 قبل الميلاد، وظلت مجهولةً بالكلية حتى صادف أطلالها البريطانيون وعلماء الآثار الهنود في العشرينيات. نعرف أنَّه كان لدى أفراد تلك الحضارة أقدم حمامات في العالم، وعاشوا في عمرانٍ حضري كبير، وامتلكوا تقنيات صرف متطورة، لكنَّنا لا نستطيع قراءة نصوصهم. لماذا؟ لأننا نعرف قليلاً جداً عن شعبهم أو لغتهم. فكما أوضح أندرو روبنسون، مؤلف كتاب Lost Languages: The Enigma of the World's Undeciphered Scripts، بعناية: "بدون معرفة اللغة الأساسية (هل هي شكل قديم للسنسكريتية أو الموندا أو شيء آخر مجهول تماماً؟)، وبدون معرفة أسماء أي من حكام السند القدامى أو الشعب، وبدون نظير لحجر رشيد، سيكون من المستحيل فك رموز اللغة". كذلك توجد كتابات أخرى عصية على الفهم. من بينهم الرونغورونغو، التي استُخدِمَت في جزيرة الفصح النائية القابعة في جنوب شرق المحيط الهادي التابعة لتشيلي حالياً. تعود الكتابة حسب سكان الجزيرة إلى فترةٍ من التاريخ عندما قتل تجار الرقيق القادمين من بيرو النخبة المتعلمة بالجزيرة. وعندما صادف فيه المبشرون الكتابات كان السكان المحليون يستخدمون ألواحاً مغطاة بالطلاسم للصيد أو لإشعال النار. أما النظام الخطي أ، وهو نظام كتابة قديم اكتشفه السير آرثر إيفانز على الأحجار التي اشتراها من سوق بضاعة مستعملة في أثينا عام 1893، ثم وجده إيفانز لاحقاً على جزيرة كريت، فلا يزال "عصياً على الفهم" بالنسبة للمجتمع العلمي. وكذلك ما زال نظام كتابة آخر من جزيرة كريت يُعرف باسم "الهيروغليفية الكريتية" غامضاً، بسبب اشتراكه مع الهيروغليفية في غموض رموزه التصويرية. بالإضافة لرسمٍ جداريٍّ وُجِدَ في وادي الحول في مصر يشبه الهيروغليفية، لكنَّه ليس مكتوباً بها. أما العيلامية الأولية، وهي نظام كتابة إيراني قديم يبلغ عمره 5000 آلاف عام، فقد حيرت العلماء لدرجةٍ دفعت جاكوب دال، الباحث بجامعة أكسفورد، إلى إطلاق مشروعٍ جماعي لفك رموزها. إذ نشر دال عام 2012 صوراً عالية الجودة للجماهير بحثاً عن مساعدتهم في فك الشيفرة. وأفضل تخمين (حتى أكتوبر/تشرين الأول 2012) حسب دال، جاء من أبٍ وابن من كاليفورنيا، رأيا أنَّ النص يتحدث عن الحصاد. لماذا قتلوه بسبب الكتابات الغامضة؟ وأخيراً، في سيتوفو ببلغاريا عام 1928، كشف الحطابون بعض العلامات الغريبة في الجرف البلغاري. خاب أملهم بعدما عرفوا أنَّ هذه العلامات لا تدل على مكان أحد الكنوز المخفية، لكنَّ خبر اكتشافهم وصل إلى علماء الآثار. وجذب التنقيب -إذا صحت تسمية فيضان الباحثين عن الكنوز والآثار الهواة تنقيباً منظماً- انتباه ألكسندر بيف. ونظم بيف، الذي كان أميناً لمجتمع مدينة بلوفديف الأثري، حملةً لمدينة سيتوفو، وحاول فك رموز الكتابة. عمل وحده لعقودٍ على النقوش، والتي افترض أنَّها أحد أشكال اللغة التراقية القديمة، أو السلافية، أو الفريجية، أو الكلتية. عمل الرجل كذلك كجزءٍ من حركة المقاومة البلغارية التي عارضت السلطات البلغارية الفاشية المتحالفة مع النازية. من المؤسف أنَّ أحد نقوش سيتوفو تسبَّب في موت بيف. فعندما وجدت السلطات الموالية للألمان نسخةً من نقشٍ أرسله بيف لعلماء آثار سوفيتيين طلباً للاستشارة، اتهموه بالتجسس لصالح السوفييت، إذ افترضوا أنَّ النقش الغريب كان شيفرةً أجنبية. وحُكِمَ عليه بالإعدام رمياً بالرصاص عام 1943. ولم تُنشَر النقوش إلا بعد وفاته. تختم الكاتبة كانديدا موس قائلة: "كل ذلك ينذر بالسوء من ترجمة لغات الذكاء الاصطناعي. ربما عندما نتمكن من فهم ما كانوا يقولونه لن يعجبنا ما سمعنا، أو ربما، بحلول ذلك الوقت، سيكون من الخطير أن نحاول حتى فهم لغتهم".