– ليست هناك أية جهة قامت بالضغط عليَّ والاعتذار قرار شخصي يوافق قيمي – علاقتي متزنة بكل القوى السياسية لكن لم ولن أنتمي لحزب يحركني ب(الريموت كنترول) – لا أُحب تصنيف حكومة ومعارضة والعمل في السودان (ما فيه قشة مُرة) – نعم.. حين اتصل بي الأخ أيلا أبديت موافقتي مبدئياً ومن حقي أن أّراجع نفسي – لابد للمثقف أن يتوقف ملياً قبل أن يشارك في أية سلطة سياسية إذا كانت هذه أو غيرها – هناك غياب لفكرة موضوعية أو مشروع وطني يلم شتات التجربة السودانية عبر التاريخ – الكفاءات ليست مرتبطة بالشهادات الأكاديمية وإنما هي مسألة خبرة وقدرات – نجاح الحكومة يعتمدُ على القراءة الثاقبة للوضع الماثل بدون مجاملات وبدون مزايدات – ليس لعمري أثر على ما أقوم به من نشاطات علمية واجتماعية و(الشجر الكُبار فيه الصمغ) حاوره: فتح الرحمن شبارقة زغرودة أخته التي شقت صمت الأسافير فرحة باعتذاره عن الوزارة، ومداخلة ابنه عمار المبتهجة بذلك الاعتذار، لفتتا الانتباه بقوة إلى البروفيسور بركات موسى الحواتي (76 عاماً) الذي يتكئ على خبرات أكاديمية وعلمية وافرة جعلته من القلائل الذين ينطبق عليهم تماماً الوصف بالكفاءة في (حكومة الكفاءات)، فهو خبير إداري مرموق وأستاذ جامعي متخصص في القانون الدستوري والإداري. ولذلك ربما، طرحت تسمية الحواتي وزيراً لوزارة ديوان الحكم الاتحادي، ثم اعتذاره الذي أعقب إعلان التشكيل عن الوزارة بعد أن أعلن موافقته المبدئية، العديد من الأسئلة التي تناسلت في ظل صمته عن التعليق المباشر على ملابسات التعيين والاعتذار. وعلى خلفية ذلك، ذهبت بالأمس إلى منزل (الوزير المُعتذر) في حي الواحة بأم درمان بعد ترتيب مسبق لاستجلاء القصة الكاملة. وطرحت عليه بمكتبته العامرة الكثير من التساؤلات الساخنة، أجاب عليها البروف الحواتي – الحاصل على أرفع الشهادات العلمية من جامعات أوروبية- بوضوحه المعتاد، وقدم إضاءات كاشفة في هذا الحوار الذي قطعه اتصال من ابنته داليا ذكَّرته فيه بمقال نشره قبل سنوات في جريدة (الصحافة) بعنوان (الشباب والتغيير.. حوار هادئ) تنبأ فيه بما يحدث في الساحة الآن، فإلى مضابط الحوار: أثار قرار تعيينك وزيراً في الحكومة الجديدة واعتذارك عنها الكثير من التساؤلات.. دعنا نبدأ بسؤال.. هل أنت سياسي؟.. إسلامي؟.. أم أكاديمي فقط؟ – أستطيع أن أصف نفسي بأني مواطن سوداني عادي أعشق الوطن، فأنا من جيل الستينيات الذي فجَّر ثورة 1964م وما زلت أعتز بشرف كبير بما قام به هذا الجيل. جيلُ العطاءِ المُستجيشُ ضراوةً ومُصادمة.. المُستميتُ على المبادئ مؤمنا.. المُشرئبُ إلى النُجومِ لينتقي صدرَ السماءِ لِشعبِنا، أو كما قال الشاعر محمد المكي إبراهيم.. عفواً للمقاطعة لكن ماذا عن انتمائك السياسي تحديداً؟ – إذا كنت تقصد هوية تتعلق بمساري السياسي فأقول لا أبداً، فأنا أحاول بقدر الإمكان أن أعتدل في مساري الفكري ولا أدخل في أي انتماءات سياسية قد تفرض علىّ أن أتعامل بما لا أوافق عليه عن طريق (الريموت كنترول)، ولذلك طرحت نفسي من خلال العمل الأكاديمي كمواطن عادي جداً يحاول أن يسهم في استقرار السودان وازدهاره من خلال العمل الثقافي والفكري، ومن خلال كل ما يتعلق بالنشاط الذي يؤسس لسودان قوي وعزيز. وساعدني على ذلك العمل الأكاديمي الذي يتيح لك التفكير الحر دون أي مؤثرات سياسية أو اجتماعية، ولذلك هذا الوضع يتيح لك التعامل مع كل القوى السياسية براحة وتكون مقبولاً لديهم بدرجات متفاوتة. رغم سيرتك الأكاديمية والمهنية الطويلة يستغرب البعض من أنك لم تكنْ وزيراً في يوم من الأيام.. لماذا؟ – والله هذا ليس قراري، أما وقد جاء القرار متأخراً فإنني على الرغم من اعتذاري المشروع أعتبره شهادة لما بذلت من عطاء، فالوزارة مسؤولية أمام الله والوطن. لكن حتى وإن لم أكن وزيراً فقد كان لي كثير من الإسهام في مسارات كثير من الحكومات، من خلال الرأي العام فيما أطرحه من قضايا. وهناك عوامل وظروف كثيرة تجعلك تتصدر المسألة لكن في نفس الوقت هناك أسباب لعدم الاختيار، وأنا نفسي أتساءل لماذا لم يتم الاختيار إلا في هذا الوقت- تحديداً. على خلفية ذلك لماذا اعتذرتَ عن تكليفك الأخير كوزير لوزارة ديوان الحكم الاتحادي؟ – أولاً أنا حين اتصل بي الأخ أيلا مشكوراً في نفس يوم (الأربعاء) قبل نحو ثلاث ساعات ونصف الساعة من إعلان التشكيل الوزاري، أبديت موافقتي مبدئياً، وكنت أتوقع أن يتأخر الإعلان عن التشكيل لفترة طويلة فوجدت أنه أُعلِن في نفس اليوم بعد حوالي ثلاث ساعات ونصف الساعة، وبعدها فكرت جدياً في : إلى أي مدى يمكن أن أكون مسؤولاً أخلاقياً وقانونياً عن هذه المهمة الصعبة التي كلفني بها رئيس الجمهورية والأخ أيلا بكل ثقة في أن أقوم بهذا الواجب. فبدأت في التفكير الجاد.. ورأيت أولاً إلى أي مدى يمكن أن أقوم بهذه المهمة الشاقة؟.. عفواً بروف.. هل كان اعتذارك بسبب الظرف والمناخ العام في البلد أم ربما كان لأسباب أخرى؟ – هو قراري الشخصي الذي أتحمل مسؤوليته والذي قدرته بما يصالح عقلي وليست هناك أية جهة مارست عليَّ أي نوع من الضغط سواء أكان ضغطاً أسرياً أو سياسياً.. وتمثلت أسبابه فيما يلي: السبب الأول للاعتذار أنَّ المناخ العام لا يساعد على القيام بالإجراءات اللازمة لعملية التغيير المطلوب خصوصاً وأنَّ طبيعة الوزارة معقدة جداً وتتصل بقسمة السلطة والثروة على مستوى كل السودان، والسبب الثاني بالنسبة لي كان موقفاً أخلاقياً يرتبط بعدم استعدادي للموافقة على ما يجري من انتهاكات وأنا كأستاذ للقانون الدستوري ومعني بتدريس حقوق الإنسان ما كان ممكناً أن أتحمل مسؤولية أخلاقية في هذا السياق. ثم أنَّ طبيعة الوزارة سياسية- وهي سيادية بما يعني الالتزام الصارم بالسياسة العامة، ويعني ذلك بالضرورة الموافقة على ما يحدث في الساحة مما ذكرت سلفاً. والسبب الثالث هو أنَّ الترشيح للوزارة رغم الموافقة المبدئية يقتضي الجلوس للتفاكر التفصيلي بوضوح وشفافية تساعد على القبول بقناعة أو الاعتذار بقناعة، وفي الأمرين احترام للنفس وللآخر. لكنك مع كل ذلك وافقت مبدئياً وأنت كنت تعلم تلك الانتهاكات؟ – نعم وافقت مبدئياً، ثم قدمت مذكرة فيها كل أسباب ومبررات اعتذاري ومن حقي أن أّراجع نفسي ولا أتراجع. هل تفاجأت باختيارك للوزارة كما تفاجأ البعض باعتذارك عنها؟ – المفاجأة لم تكنْ واردة لأنه تكلم معي الأخ أيلا، وقبل ذلك لم يكنْ في ذهني إطلاقاً أن أكون وزيراً. لكن يبدو أنَّ المعايير كانت اختيار الشخص المتخصص للمكان المناسب في هذه المرحلة. وكان ينبغي أن تمتد شروط التعيين لمقومات القرار على الشخص المناسب- المكان المناسب – الوقت المناسب. * من الذي رشحك لوزارة ديوان الحكم الاتحادي؟* – يمكن أن يُرشحك للوزارة تخصصك وجهدك المستمر بدون توقّف باتجاه مجالات العمل الاتحادي ومجالات العمل الإداري وفي مجالات الخدمة المدنية والرقابة الإدارية، وربما إلى حد الكبير الجمع بين الخبرة والجانب العلمي. * هل أبدى الرئيس وأيلا تفهمهما لاعتذارك عن الوزارة؟* – أولاً لابد أن أسوق لهما شكري الجزيل على ما منحاني من ثقة.. ثانياً لم يصلني رد على مذكرتي، ولكن أرى أنهما يقدران موقفي الواضح تماماً. * هناك من رأى أنَّ اعتذارك وضع الحكومة في موقف حرج وبعث رسالة لبريد المعارضة؟* – اعتذاري لا يضع الحكومة في موقف حرج، لسبب بسيط هو أنَّ القرارات تقوم على خيارات رهينة بالمتغيرات وللحكومة من المعايير والضوابط ما تضع به هذه الخيارات. والاعتذار في هذه الظروف يحتمل من يوافق عليه أو يرفضه حسبما يرى أو يقدر، ولا دخل لي في هذا التقدير. ولكنه كان موقفاً شخصياً نظرت له من زاوية علاقة المثقف الوطني بالسلطة وتداعياتها.. فلابد للمثقف أن يتوقف ملياً قبل أن يشارك في أية سلطة سياسية إذا كانت هذه أو غيرها. هل صحيح أنَّ عمرك الآن هو (76) عاماً؟ – نعم، عمري (76) سنة، حتى نكون واضحين، لكن ماهي علاقة العمر بما أقوم به من نشاط فكري واجتماعي واسع؟ * البعض ردَّ اعتذارك لأسباب تتعلق بتقدم السن ولأسباب صحية قد لا تمكنك من الاضطلاع بمهام الوزارة؟* – أولاً أحمد الله على نعمة الصحة والعافية، وأنا قادر وأمارس كل أنشطتي العملية والفكرية والثقافية والاجتماعية بكل حيوية، ولذلك هذا السبب غير وارد وغير موضوعي وأنا (بشتغل 15 ساعة متصلة في اليوم)، وإذا كان وارداً فلماذا تم اختياري أصلاً لهذا المنصب؟. وكما يقولون: (الشجر الكُبار فيه الصمغ). لكن أرى أنه من حق الشباب أن يقوموا بإدارة بلادهم وفقاً للتخصصات اللازمة، وأعتقد أنَّ هذا يقتضي من صانع القرار البحث عن الشباب في تخصصاتهم المختلفة لأنَّ من حقهم وهم أبناء المستقبل أن يشاركوا في إدارة هذه الدولة بعيداً عن المحاصصات السياسية وبعيداً عن الأيديولوجيات وتأكيداً لدورهم في الستقبل. والعمل في السودان ما فيه (قشة مُرة) وبعيد جداً عن ما يمكن أن يكون هو مواقف سياسية بقدر ما هو مواقف وطنية تعلو على السياسة. * إذا طُلِب منك ترشيح شخص لكي يكون وزيراً في مكانك بعد اعتذارك فمن تُرشِح؟* – لا أستطيع، وأعتذر عن الإجابة، لكن من المؤكد أنَّ (حواء والدة). * كيف كانت ردة الفعل الأسرية باختيارك للوزارة خاصة أننا سمعنا عقب اعتذارك زغرودة أختك، وطالعنا مداخلة في السوشيال ميديا لابنك عمار استبطنتْ سعادة كبيرة بالاعتذار؟* – الأسرة ديمقراطية تماماً وفيها كل ألوان الطيف السياسي، وفيها من لا يهتم بالسياسة. ونحن نتناقش دائماً وهي أسرة كبيرة وفيها من يرفض حتى عملك العادي، وهناك من يفصل بين العمل وبين المسألة السياسية. ولذلك أنا احترمت جداً آراء أسرتي ومن حقها أن تعبر عن رأيها. * هل ترى أنَّ هذه الحكومة الجديدة يمكن أن تنجح في تجاوز الأزمات الراهنة في ظل المناخ العام والظروف المحيطة بالبلاد على أكثر من صعيد؟* – أولاً الأخ رئيس الوزراء أيلا أعرفه جيداً وهو رجل دولة ممتاز يدير صراعاته بحكمة، والرجل صارم ولا يجامل في اتخاذ قراراته.. ثانياً نجاح الحكومة يعتمد بصورة أساسية على القراءة الثاقبة للوضع الماثل بدون مجاملات وبدون مزايدات، وباتجاه جاد إلى تأكيد قيمة الوحدة الوطنية كترياق لأي شتات أو فوضى يمكن أن تحدث، ولذلك دعنا نأمل. والكفاءات في رأيي ليست مربوطة بالشهادات الأكاديمية وإنما هي مسألة خبرة وقدرات وإرادة. وأعتقد ولحد كبير أنه لابد من مشاركة تكون وحدة وطنية مبنية على الخبرات والتخصصات في المجالات المعينة وفقاً لجدولة زمنية، ولابد بعد ذلك من إعادة النظر في عملية هيكلة الحكومة من أولها إلى آخرها في سلطاتها التنفيذية والتشريعية والقضائية على المستوى الاتحادي والولائي والمحلي، ولن يتم ذلك بغير المورد البشري المقتدر وبالنظر الجاد والأمين في مدى مشروعية شاغلي مناصب الخدمة المدنية، والتأكيد على قيمة المنصب العام كمركز موضوعي وليس ملكاً شخصياً (الشخصنة) يتم فيه تجاوز القوانين واللوائح. وهذا عمل كبير جداً قد لا تقوم به حكومة واحدة وإنما عدد من الحكومات، وربما كان من المهم في هذا السياق أن تضع الدولة كل تيارات القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني وأهل الفكر، لتكون مدخلاً علمياً لخارطة طريق وتكون مخرجاً للبلاد من أزماتها المتفاقمة. * من إفاداتك بروف الحواتي يصعب تكييفك.. فهل أنت معارضة أم مع الحكومة؟* – أنا مواطن عادي. والمعارضة والحكومة بالنسبة لي مكملان لبعضهما في كل الظروف. فالحكومة تطرح آراء ومشروعات، والمعارضة تنتقدها ليس بهدف التدمير وإنما بهدف التقويم، وأنا هذا التصنيف لا أحبه.. فالحكومة، أية حكومة، تقوم بما يحقق للشعب استقراره السياسي وازدهاره الاقتصادي وتحقق في ذلك الرضا العام- بدون ذلك يحدث التوتر العام، ودور المعارضة هو العمل على تصحيح المسار عن طريق النقد والانتخابات هي الفيصل. وأنا علاقتي متزنة بكل القوى السياسية، والشخصية القومية وفي كل الأحوال وبسبب عدم انتمائها الحزبي تكون محلاً للجدل والآراء مقبولة تماماً متى اتجهت للصدق بعيداً عن التجريح. …..؟ – من الناس من يخلطون المصطلحات ويتعاملون معها بطريقة غير سليمة.. مثلاً يصنفون بعض الناس بأنهم من أهل اليمين وآخرون من أهل اليسار.. تاريخياً مسألة اليمين واليسار ليست مسألة مربوطة بالفكر الموضوعي بقدر ما هي مربوطة بموقعك الجغرافي أو بوضعك على يسار المنصة أو على يمينها للتداول في مسألة مطروحة. ومنذ ذلك الوقت بدأت مسألة اليمين وله مواصفات ليست توافق اليسار. والمسألة ليست كذلك إطلاقاً، فعلى كل من يحمل فكراً أن يطرحه متى كان هذا الفكر موضوعياً ومقبولاً ويحقق مصالح المجتمع. والآن مع فكرة العولمة صار من الصعب أن تصنّف هذا يمين وهذا يسار. ففكرك هو الذي يحقق مدى قبولك أو رفضك ومن حق المجتمع أن يقبل أو يرفض، ويصلح في نفس الوقت. لذلك أنا مسألة يمين أو يسار غير واردة بالنسبة لي وكذلك التصنيفات السياسية (بأنواعها ودرجاتها المختلفة أعتقد أنَّ هناك غياباً لفكرة موضوعية تلم شتات التجربة السودانية وتعترف بالرؤى السياسية المختلفة عبر التاريخ، ونحن لدينا تجارب منذ 1956م وما قبلها جديرة بأن يُنظر فيها فكرياً وتحقق لنا نفساً سودانياً أصيلاً يكون فيه كل ألوان الطيف السياسي المقبول مما يحقق الوحدة الوطنية.