هل سأل الذين استمعوا لخطاب السكرتير السياسي للحزب الشيوعي محمد مختار الخطيب في ندوة حزبه بميدان الأهلية أم درمان لماذا أخرج كل ما يختزنه الحزب من معلومات و عرضه علي الناس و انتظر ردة الفعل الجماهيري؟ ذكرت بعد سماعي للخطاب أنه يعد خطابا تاريخيا. ليس خطاب ندوة عادي بل الرجل قدم مشروعا سياسيا متكاملا ينقل التفكير لمربع جديد في العمل السياسي، و يعتبر أول حزب يقدم رؤيته السياسية للشعب. بالفعل الخطاب يحتاج لتحليل فكري عميق بعيدا عن الحساسية السياسية. رغم العديد من الأخوة عابو علي هذا القول…! البعض قال حتى الآن لا نعرف أين يقف الحزب الشيوعي هل هو مع قوى الحرية و التغيير، و يشارك في صناعة القرار، أم أن الحزب لديه رؤية مخالفة تماما لقوى الحرية و التغيير، أم هناك أسبابا آخرى جعلته يتخذ هذا الموقف الرمادي؟ أولا يعد خطابا تاريخيا لآنه يخالف المنهج الذي درجت عليه القيادة السابقة للحزب الشيوعي " عبد الخالق محجوب و محمد إبراهيم نقد" الذان كانا يعدان مفكران ثم سياسيان، تغلب عليهما صفة المفكر علي السياسي، فكانت لديهم قدرة عالية جدا من التحليل المنهجي، يتعرضان للقضايا بشكل عام، و في ذات الوقت يركزان علي قضية محورية يعتبرانها جوهر المشكل و تساعد علي نشر وعي جماهيري مطلوب، و بالتالي يطرحان عليها العديد من الأسئلة التي تقود للوعي. الخطيب لا تغلب عليه صفة مفكر، بل هو كرس نشاطه في العمل النقابي المتواصل جعله يقدم صفة السياسي، لذلك يعتقد يجب عليه أن يقدم كل ما لديه من معلومات للجماهير، و هي التي يقع عليها التحليل و أتخاذ الموقف الذي تراه مناسبا، و هذا يرجع لاقتناع الخطيب أن وعي الشارع أصبح يفوق الوعي داخل المؤسسات الحزبية، لذلك يراهن عليه. نتفق مع الخطيب في وعي الشارع، لكنه وعي محدود، بأن الوعي في الشارع أن نظام الإنقاذ قد فقد مقومات وجوده، و فقد سطوته، و كان لمصلحة البلاد لابد من التغيير، لذلك كان وعي الجماهير يتمحور في وجوب التغيير. لكن الشارع ليس بالوعي الكامل لعملية التحول الديمقراطي، و هي مهمة الأحزاب السياسية، المشكلة التي حاول أن يخفيها الخطيب أن الأحزاب و كل التحالفات المعارضة كانت لا تملك مشروعا سياسيا متفقا عليه بعد سقوط النظام، لذلك كانت تردد بعض القيادات السياسية أن عزل الرئيس قد فاجأ الناس. نعم قد فاجأ الناس، لكن كان لا يجب أن يفاجئ القوى السياسية، و التي كان عليها أن تتحسب لذلك، و تكون مستعدة لذلك اليوم. لكن أثبتت التجربة أنها هي نفسها كانت في حالة من الإندهاش أكثر من الشارع، غياب المشروع و محاولة الإيجابة علي القضايا التي تطرح لابد أن تثير خلافا داخل التحالف، و أصبحت كل حزب أو منظمة تطرح ما يتوافق مع مصالحها، الأمر الذي أظهر الخلاف داخل قوى الحرية و التغيير، و أصبح تيار الهبوط الناعم هو صاحب الصوت الأعلي.
كان المتوقع في ندوة الحزب الشيوعي، أن يقدم سكرتيره السياسي تحليلا منهجيا، يجب علي سؤال لماذا حدثت كل الانحرافات التي أشار إليها، أولها قضية الهبوط الناعم، رغم إنه أرجعها للإمبريالية و دول المحيط التي تريد استغلال ثروات البلاد لمصلحة الرأسمالية العالمية، فالقيادة الاستالينية عاجزة أن تخرج من دائرة الحرب الباردة التي تجاوزتها الأحداث، و حتى الدول التي تحكم بالماركسية انخرطت في النظام الرأسمالي العالمي، فمتى تفيق القيادة في الحزب الشيوعي من منامها الذي طال. رغم أن الخطيب يريد أن ينقل الجدل السياسي من جدل تفرض شروطه وسائل الاتصال الاجتماعي، إلي جدل يتناول ما يفكر فيه الزملاء، لكن الخطيب لم يوضح كيف تتم عملية التحول الديمقراطي في البلاد، و كيف يستطيع أن يغير شروط الجدل الذي يريده أن يحدث في الشارع، رغم أن تغيير النظام صحبته مساومة بين " قوى الحرية و التغيير و المجلس العسكري" حيث يعتقد الخطيب أن المجلس العسكري هو الحاضن لثقافة النظام السابق، و سوف يقف حجر عثرة في إكمال عملية التحول الديمقراطي علي الأسس التي يجب أن تكون عليها. لكن الخطيب يقول أن من أجل الديمقراطية لا يتم و يتسع إلا من خلال الصراع الاجتماعي و هذا هو الذي يزعج القوى الرجعية. و هنا يستلف الخطيب هذه المقولة من أفكار لينين، التي يقول فيها "أن الصراع الطبقي في الماركسية لا يصبح صراعا شاملا للأمة بأسرها، لا لمجرد أنه يدور في الميدان السياسي، و أنما عندما يدور حول ما هو جوهري في هذا الميدان و يتشبث به، و هو هيكل سلطة الدولة، باعتبار أن الدولة هي العامل الضابط للتوازن الكلي للتكوين الاجتماعي." أن استلاف مقولات تاريخية يؤكد أن الحزب الشيوعي يريد أن يحصر عملية التفكير في تلك الحقبة التاريخية، و التي فقدت قدرتها علي تحديات الواقع و انحسرت. و إذا استلفنا لذات الواقع المتغيير مقولة من قلب النظام الرأسمالي يقول صمويل هنتجتون في كتابه " النظام السياسي لمجتمعات متغيرة" يقول فيه " أن التمدن و زيادة نسبة المعرفة و القراءة و الكتابة و التعليم و نشر وسائل الإعلام هذه جميعا تساعد في دفع المطامح و التوقعات التي في حال عدم تحقيقها تشكل صدمة للأفراد و الجماعات، و تدفع بهم إلي مجال العمل السياسي، و في ظل غياب مؤسسات سياسية قوية قادرة علي التكيف تعني هذه الزيادة في المشاركة عدم الاستقرار في البلاد" و هو الذي يحصل الآن في السودان، حيث أن القوى الجديدة في المجتمع التي خارج دائرة الأحزاب، هي التي لها القدرة علي ممارسة الضغط ، بسبب انتشار و سائل الاتصال الاجتماعي، و أصبح دورها مؤثرا في العمل السياسي، بل تعمل لها كل القوى السياسية و حتى العسكريين حسابا، الأمر الذي جعل بعض القوى تحاول كسب ودها.
قال الخطيب " أمتازت ديسمبر عن أكتوبر و إبريل بأصرار الشعب علي حماية شعاراته و ثورته" لكنه لم يوضح الأسباب التي أدت لهذا الامتياز. إذا لماذا كان هذا الامتياز؟ لم يوضح الخطيب لماذا هذا التغيير في الشارع من خلال استخدام منهجه التحليلي. و كما ذكرت أن الخطيب لا يريد الدخول في أي حوار فكري يعرضه للانتقاد، لذلك قذف بالمعلومات للشارع، و طلب منه أن يشكل وعيه من خلال تحليله لهذه المعلومات. و كان علي الخطيب أن يتبين العوامل التي أدت لهذه الفروقات، في أكتوبر و إبريل كانت الأمية تشكل نسبة كبيرة في المجتمع، لذلك كانت قوى التغيير محصورة في ثلاث " الأحزاب و النقابات و المؤسسات التعلمية العليا" الآن أنتشر التعليم في جميع مناطق السودان، و انحسرت الأمية في المجتمع، و انتشار التلفونات الذكية، و أصبحت وسائل الاتصال الاجتماعي تلعب دورا كبيرا في تشكيل الوعي، غياب العناصر التي تشتغل بالفكر داخل المؤسسات الحزبية التي كان يجب عليها أن تكتشف هذه التحولات، و تقدم رؤى جديدة لكي تتناسب مع هذه التحولات، هي التي جعلت ثورة ديسمبر تتفجر من الشارع، و يقوم الشارع بنفسه لحراستها، هذه التحولات لا يستطيع الفكر الماركسي الارثوذكسي أن يجيد قراءتها. لذلك تجد الآن ما يطرح من العناصر خارج دوائر الأحزاب من تحليل و متابعات أكثر عمقا و فهما من النخب داخل الأحزاب، الأمر الذي يجعل التعثر في العديد من القضايا.
أشار الخطيب في حديثه " أن الحكومة لم تصبح مدنية و مجلس السيادة أصبح لديه سلطات تنفيذية. و أصبح للعسكريين الحق أن يكونوا مجلس السلام و مفوضية الانتخابات و الحدود و المؤتمر الدستوري. الأمر الذي جرد مجلس الوزراء السلطة التي يفرض بها قراراته" هذه ليست مشكلة العسكريين هي مشكلة تحالف " قوى الحرية و التغيير" الذي لم يكون هناك اتفاق بين مكوناته علي مشروع واحد، يمكن أن يفرض علي الآخرين، بل كان الخلاف بينهما هو الذي قاد لذلك، حيث استثمره العسكريون الذين كانوا في وحدة، لذلك استطاعوا أن يستفيدوا من الخلافات داخل تحالف قوى الحرية و التغيير. كانت الثقافة السائدة في الإنقاذ تجاه المعارضين أن تقدم لهم الوظائف و الأغراءات المالية، و ظل العسكريون محافظين علي هذه الثقافة، و هذا ما أشار إليه الخطيب، عندما قال هناك جلسات في منازل رأسماليين سودانيين و حفلات عشاء و غيرها و تحضرها قيادات من قوى الحرية و التغيير. لماذا لم يكشف الحزب الشيوعي عن ذالك في مهده، لكي يتم تغيير القيادات التي تشارك في المفاوضات مع العسكريين، رغم أن هذه المعلومات كانت دائرة في عدد من قروبات المثقفين و السياسيين، و معروف الذين كانوا يحضرون هذه اللقاءات في الغرف المغلقة. لكن الحزب الشيوعي سكت عنها بعد ما تجاوزتها الأحدث. فالحزب الشيوعي الذي امتلك هذه المعلومات و امتنع من توعية الناس بها يتحمل مسؤولية نتائجها. كما أن القيادات التي تحضر هذه اللقاءات كان أغلبيتها من القيادات التابعة لقوى الاجماع الوطني.
القضية الآخرى رفض الحزب الشيوعي أن يشارك في كل هياكل السلطة، و يعتقد أن الحكومة الحالية ليست مكتملة الأركان المدنية لتقول العسكريين علي السلطة التنفيذية، و في نفس الوقت يرفض الانتخابات المبكرة، لأنها تفتح الباب لعودة الثورة المضادة، إذاً ما هو خيار الحزب الشيوعي؟ و في ذات الحديث يطالب لجان المقاومة في الأحياء أن تراقب و تكون حذرة من تحركات الثورة المضادة، و طالب الجماهيرأن تقيم منابرها السياسية في الأحياء و الأسواق و مكان العمل. و لكن الخطيب لم يوضح بماذا يبشر هؤلاء الذين يعتلون المنابر، فقط أن يكونوا ضد الثورة المضادة و مراقبتها، أم أن هناك مشروعا سياسيا يجب أن يشكل الأرضية الأساسية للجماهير في عملية التحول الديمقراطي؟ فالحزب الشيوعي يسكت عن الكثير من القضايا رغم تعدد بياناته، فالحزب الشيوعي الذي كان يراقب الواقع السياسي كيف فات عليه أن عضويته السابقة هي التي تتحكم في مسار العملية السياسية، و تعلم القيادة الاستالينية أن الصراع الديمقراطي سوف يفرض شروطه من جديد داخل المؤسسة، لذلك كان نقد الخطيب انحر فقط في زيارات رئيس الوزراء حمدوك للخارج، و انتقاده للتعينات التي تجري و شبهها بذات سياسة آهل الولاء التي مارسها النظام السابق. و هي بالفعل تمثل كعب آخيل في سياسة حكومة الفترة الانتقالية
يعتبر خطاب السكرتير السياسي للحزب الشيوعي خطوة سياسية جيدة، تعالج مشكلة غياب المفكر الذي يقدم رؤية الحزب من خلال تحليله للأحداث من خلال المنهج الذي يتبناه الحزب، و أن كان الخطيب قد رآى: أن الفكرة نقل الناس من التفكير القائم علي المعلومات غير المؤكدة، و دائرة في العديد من وسائط الاتصال الاجتماعي، إلي التفكير في القضايا التي لها علاقة بجوهر العمل السياسي كما يراه الزملاء، و الذي يؤثر في عملية التحول الديمقراطي، كما أن الخطاب في خطابه يوضح الملامح الرئيسية التي تفكر فيها القيادة في الحزب الشيوعي، و يعتبر هذا تحول حقيقي من الإرث الذي خلفه السكرتيران السابقان للحزب، من تناول القضايا من خلال الإعمال الفكري، و التزكيز علي قضية محورية تشكل حجر الزاوية في عملية الوعي الجماهيري، و تعتبر محاولة الخطيب في نشر كل المعلومات هي من باب الثقة في وعي الشارع و دورها في عملية التغيير التي ربما تتوافق مع رؤية الزملاء، تحية للخطيب و القيادة التي معه، لأنهم فتحوا أبوابا للحوار في العديد من القضايا. و نسأل الله حسن البصيرة.
زين العابدين صالح عبد الرحمن الوسوم السودان تحديات المرحلة الانتقالية