اتحاد الكرة السوداني يشيد بحكومة جنوب السودان    تحديات تنتظر رونالدو في يورو 2024    بعد ساعات من حادث مماثل.. مصرع أسرة سودانية ثانية في مصر    انقطاع الكهرباء والموجة الحارة.. "معضلة" تؤرق المواطن والاقتصاد في مصر    السعودية.. استخدام طائرات الدرون لنقل وحدات الدم والعينات المخبرية بسرعة وكفاءة بين مستشفيات المشاعر المقدسة    سفارة السودان في واشنطن تعلق على حظر وزارة الخزانة الأمريكية ل(7) شركات لتورُّطها المُحتمل في الحرب السودانية    شاهد بالفيديو.. الفنانة إنصاف مدني تضع زميلتها ندى القلعة في "فتيل" ضيق: (هسا بتجيك نفس تحملي في أوضة وبرندة وسط 13 نفر وفي ظروف الحرب دي؟)    شاهد بالفيديو.. شاب من أبناء "الشوايقة" يتوعد القائد الميداني للدعم السريع "جلحة": كان فضلت براي في السودان ما بخليك (جاك الوادي سايل أبقى راجل عوم والمطر البدون براق جاك يا الشوم)    شاهد بالفيديو.. بطريقة مضحكة.. ناشط مصري يسخر من اسم اللحمة السودانية الجافة "الشرموط" بعد ظهوره في الأسواق المصرية: (ليه كدة؟ كل علبة من دي تمنها 3 سنين سجن بسبب الاسم بس)    شاهد بالفيديو.. الفنانة إنصاف مدني تضع زميلتها ندى القلعة في "فتيل" ضيق: (هسا بتجيك نفس تحملي في أوضة وبرندة وسط 13 نفر وفي ظروف الحرب دي؟)    شاهد بالفيديو.. شاب من أبناء "الشوايقة" يتوعد القائد الميداني للدعم السريع "جلحة": كان فضلت براي في السودان ما بخليك (جاك الوادي سايل أبقى راجل عوم والمطر البدون براق جاك يا الشوم)    تعليق مثير من زيدان على انتقال مبابي لريال مدريد    توتي الضحية    مصر تتفوق عالميًا بمؤشر جودة الطرق.. قفزت 100 مركز خلال 10 سنوات    نصائح مهمة لنوم أفضل    أشاد بالأداء والنتيجة..دكتور معتصم جعغر يهاتف اللاعبين والجهاز الفني مهنئاً بالانتصار    الأمانة العامة لمجلس السيادة تحتسب المهندسة هالة جيلاني    أديب: الحكومة الجديدة تحتاج "سوبر مان" لمواجهة التحديات    إغلاق مطعم مخالف لقانون الأغذية بالوكرة    شرطة بلدية القضارف تنظم حملات مشتركة لإزالة الظواهر السالبة    السعودية.. رقم قياسي عالمي في التبرع بالملابس    النمير: المريخ لا ينفصل عن قضايا الوطن والحزن يخيم على الجميع    السودان يكسب موريتانيا بهدفين في تصفيات المونديال    السودان يهزم موريتانيا ويتصدر مجموعته في تصفيات كأس العالم    الجزيرة تستغيث (4)    انتظام حركة تصديرالماشية عبر ميناء دقنة بسواكن    "كعب العرقي الكعب" .. وفاة 8 أشخاص جراء التسمم الكحولي في المغرب    التضخم في مصر.. ارتفاع متوقع تحت تأثير زيادات الخبز والوقود والكهرباء    إجتماع بين وزير الصحة الإتحادي وممثل اليونسيف بالسودان    أمسية شعرية للشاعر البحريني قاسم حداد في "شومان"    "إكس" تسمح رسمياً بالمحتوى الإباحي    حادث مروري بين بص سفري وشاحنة وقود بالقرب من سواكن    تونس.. منع ارتداء "الكوفية الفلسطينية" خلال امتحانات الشهادة الثانوية    السودان..نائب القائد العام يغادر إلى مالي والنيجر    السعودية.. البدء في "تبريد" الطرق بالمشاعر المقدسة لتخفيف الحرارة عن الحجاج    وفد جنوب السودان بقيادة توت قلواك يزور مواني بشاير1و2للبترول    صدمة.. فاوتشي اعترف "إجراءات كورونا اختراع"    بنك السودان المركزي يعمم منشورا لضبط حركة الصادر والوارد    عودة قطاع شبيه الموصلات في الولايات المتحدة    داخل غرفتها.. شاهد أول صورة ل بطلة إعلان دقوا الشماسي من شهر العسل    محمد صبحي: مهموم بالفن واستعد لعمل مسرحي جديد    خطاب مرتقب لبايدن بشأن الشرق الأوسط    السودان.. القبض على"المتّهم المتخصص"    قوات الدفاع المدني ولاية البحر الأحمر تسيطر على حريق في الخط الناقل بأربعات – صورة    الأجهزة الأمنية تكثف جهودها لكشف ملابسات العثور على جثة سوداني في الطريق الصحراوي ب قنا    ماذا بعد سدادها 8 ملايين جنيه" .. شيرين عبد الوهاب    الغرب والإنسانية المتوحشة    رسالة ..إلى أهل السودان    شركة الكهرباء تهدد مركز أمراض وغسيل الكلى في بورتسودان بقطع التيار الكهربائي بسبب تراكم الديون    من هو الأعمى؟!    حكم الترحم على من اشتهر بالتشبه بالنساء وجاهر بذلك    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المسألة الشرقية: السياسة القبَليّة والقبيلة المسيّسة!
هاشم الحسن
نشر في الراكوبة يوم 20 - 12 - 2020

لو تذكرون، عن المهمة الأولى من مهام الحكم الانتقالي، فقد ورد التالي نقله من إعلان الحرية والتغيير: ("1- وقف الحرب بمخاطبة جذور المشكلة السودانية ومعالجة آثارها بما في ذلك إعادة النازحين واللاجئين طوعاً إلى مواطنهم الأصلية وتعويض المتضررين تعويضاً عادلاً وناجزاً ومعالجة مشكلة الأراضي مع المحافظة على الحواكير التاريخية".).. انتهى!
وبغض النظر عن كون هذا النص سيفرض نفسه محوريا في صراعات الأرض/الدار القبلي والتاريخ التي تدور في الشرق مما سنأتيه لاحقا. وعن كون الحاكورة قديما هي تمليك الحكر خاليا أو بساكنته للانتفاع بهم. كما الذي بخصوص كل أرض بمن عليها يخصصها ملك إقطاعي لنبيل يرجوه زبونا سياسيا، وليعتاش هذا بريعها وعلى جهد سكانها. والمعلوم إنها ملكية قابلة للنزع الملكي. أو هو استملاك المواطن لما تخططه وتوزعه مصلحة الأراضي للسكنى والاستثمار ولمدة بعينها منصوص عليها في العقد، وقابل للنزع والتعويض. وعموما فلا توجد الآن حاكورة في السودان يمكن لحي أو جماعة قبلية أن تدّعيها كملكية خاصة مطلقة (سوى ما يعرف بالملك الحر) إلا ربما تلك حاكورة آل الأستاذ الشاعر عالِم عباس محمّد نور التي كانت لجده مفتي وعالِم السلطنة الدارفورية، إن لم تك هي الأخرى حاكورة جاه وانتفاع مؤقت وليست حاكورة تملك (حر) مطلق. وكان السلطان إبراهيم الرشيد قد حكرها للعالِم كما احتكر لنفسه وآله كل جبل مرة ومحيطه، انتفاعا.
وتجاوزا عن عرض حيثيات رأي لي قديم بأن ذكر الحواكير في الإعلان قد بُنيّ على خطأ في الحساب المعرفي والسياسي، ليس أقله الاستجابة الفجّة والفطيرة خضوعا للبروباقندا السياسية المسلحة عن هذه "الحواكير/الدور" (القبلية!). وأنه فعلى مثل هذه الفجاجة ستترتب جملة مترتبات فادحة ربما كان منها مثل هذا المقت والاحتقار المعلن من الجنرال (القبَلي) دقلو الأول "للجماعة ديل"، ذلك لأن الارتباط بين موضوعات الحاكورة الدارفورية مع مبتدأ حروبه أو منتهى سلامه هناك، لا يخفى!
أما ما لا يمكن التجاوز عنه لراهننا هنا فهو خطأ استخدام كلمة الحواكير نفسها في مقام كلمة "دار القبيلة" مثلما فعل الإعلان. الدار للقبائل هي وطنها للسكنى ومجالها الحيوي رعيا وزرعا. وهي للانتفاع العام بها وللتشارك الحتمي فيها مع قبائل الآخرين بشروط عرفية متوارثة. ولأن "الدار" ليست ملكية خاصة ولا ينبغي لها على الأقل مذ صدر قانون أراضي السودان في 1925 بل ومن قبل ذلك. فبدلا عن مثل هذه ألمجازفات فقد كان يمكن للإعلان أن يقول أشياء عن حقوق الأرض أوفق وأنسب مثل (تنظيم حقوق الانتفاع بالدار القبلي) أو (مراعاة حق الانتفاع التاريخي بالدار القبلي) أو أيّا مما يفيد الواقع والمنطق ومستقبل الاستقرار.
وإذ أصبح واضحا أنني لست من الكاظمين الغيظ – غفرانك اللهم – ولم أف بوعد التجاوز سوى بلاغيا، فالعفو. ولأتجاوز الآن إلى ما يهمني حقا من ذلك النص لحساب الراهن؛ ألا وهو التساؤل عمّا إذا كان كاتبوه قد تحسبوا لمستقبل من الخطاب السياسي السوداني أن يحتاجوا لإيراد نفس هذه الجمل، بذات نحوها والصياغة والمعاني؟ ولكن مع فارق جهوي هام؛ هو أنها في هذه المرة ستحيل السامعيها والقراء إلى أزمة السودان في الشرق! وهل ثمّة خطر على بالهم أنه قد ستثور عليهم هذه الأسئلة عن الدار القبلي وعن قضايا اللجوء والنزوح والسياسة القبلية والقبيلة المسيسة وغيرها من أسئلة "دار غرب" التي خاطبها الإعلان، ولكن هذه المرة من أقصى "دار الصباح"؟
ولأن الشيء بالشيء يذكر فإن مخاطبة (جذور الأزمة السودانية) كما في الإعلان، ستقتضى مني، شرقيا، أن يكون أول مدخل صدق واجب حولها هو أن أصدح باختلافي مع السياسيين القبليين و/أو القبليين المسيّسين من الشرق. الذين كلما صرّحوا تصريحا عن أحواله وصراعاته فسيحرص متحدثهم الكريم (خلي بالك يا حداثي، لا توجد نساء متحدثات، بعد!) أن يتجمّل لنخب السياسة والإعلام المركزية. وستجده ينفي أول ما ينفي أي صبغة قبلية عن الصراع الذي دار ويدور حول تعيينات الولاة في ولايات الشرق الثلاث، وليس فقط ولاية كسلا. وكذا عن الخلاف على تمثيل مسار الشرق بجوبا وحول اتفاقيات سلامه. وبالجملة، عن كل ما يتعلق بالسياسة في الشرق. "كضبن كاضب!". ليس صحيحا، بَتاً بَتا. وإنما يحملهم عليه التجمّل!
وأما على حقيقته، فإن محصلة راهن الصراع القائم الآن في الشرق إنه صراع سياسي قبلي، أو قبلي سياسي، بامتياز. وقفزا على تفاصيل أخرى من صيرورته نحو ما هو عليه، فإنه قد نفذ إلى الحاضر عبر خروق اخترقتها السياسات القبلية للإنقاذ في جسد المواطنة والوطن. ثم إنه قد استغوّل بآخرة حتى إن القبائل قد أمست وهي نفسها التنظيمات والأحزاب السياسية الوحيدة الفاعلة على الساحة، ولتمارس السياسة بالأصالة لا وكيلة عن أحد. ولا فرق هنا أن تصدرتها القيادات الأهلية التقليدية أو صعد على سدة سياستها البرجوازيون الجدد منها وفيها، المسلحين بتطلعاتهم السلطوية وبالقابلية القبائلية الجينية للتجنيد بالنقارة والنحاس. كيف حدث ذلك ومتى ولماذا؟ تلك هي الأسئلة التي تحتاج للإجابة.. بالأولى من الحكومة ومستشاريها ومراكز دراساتها ومحلليها، وحتى يفهم الحاكم قبل القارئ هنا مثل هذه الوقائع الماثلة والمآلات المحتملة.
وبعد، فكما نصحنا بعدم الركون لتصريحات المتجمِّلين من ساسة قبائل الشرق، فكذلك لا تخدعنك نخب الحداثة الجزافية إذ هي تخبرك أن القبيلة والدولة الحديثة نقيضان لا يجتمعان في السياسة! بل يفعلان يرضى الله عليك! ولك أن تسأل تاريخنا الخاص، أو دونك ما ترى من سياسة القوميات والأعراق والجماعات العرقية والثقافية المختلفة، ومن نهمة الشعوبيين الجدد، في دول ديمقراطية متقدمة كما عند كتلان إسبانيا وباسكها وفي سكوتلاندا وايرلندا وكندا والولايات المتحدة. ثم أينها هي طيبة الذكر الدولة الحديثة إلا رسما؟ وما الحداثة السودانية؟ ما أدراني؟ ليس هنا .. ليس بعد!
المفجع إنه بمثل تلك الخديعة ، للذات السياسي والحداثي قبل الآخرين، فلقد استفردت وتحكمت الطغمة الإنقاذية بسياسة الأقاليم والقبائل، حتى أن اللعينة وهي في حشرجتها الأخيرة بعز الثورة الديسمبرية، قد استطاعت أن تخرج بعض جماهير ولاية كسلا وشرق دارفور مثلا في مسيرات مؤيدة للمخلوع البشير سحبا على رصيد مدخور لها في السياسة القبائلية والزبائنية السياسية. جرى كل ذلك بينما القوى المعارضة (سابقا) في الأحزاب القومية والمنظمات الأهلية، تلك التي في (ق. ح. ت) وبخارجها، والتي في حكومتها المدنية، قد كانت مغيبة ولا تزال غائبة عن كافة مشهاد الأقاليم ومحجوبة عن شهادتها. ولمّا لم تكن هذه القوى، وبالتبعية حكومتها، مستعدة بالمذاكرة الجادة لامتحانات الأقاليم القاسية لا قبلا ولا بعد الثورة، فلقد قاربت كل تلك الأسئلة الولائية الملحة بمجرد "بخرة" إنقاذية مغشوشة في علم المحاصصات والموازنات القبلية وبناء على معرفة فطيرة بحساباتها. فهي على عماها ذاك، لم تقطع مع سياسات (نافع على نافع ومكتب القبائل في الجهاز) ولم تغادرها قيد أنملة، هذا بينما الآن، حتى الآن، فإن فلول المؤتمر الوطني والشعبيين من آلهم، ومخططو الانقلابات ورسّامو السيناريوهات، فكلهم منشغل بالصيد لنفسه في المياه العكرة لتلك السياسة القبلية ولهاته القبيلة المسيسة. بل وأوقن قاطعا الشك، بأن برهان الجيش ودقلو الدعم، ففي كل ساعة تمر وهم يستثمرون لمآربهم الخاصة من هذه الأزمة الشرقية. وسواء عبر مؤتمرات الصلح الأهلي (القلد)، أو في مسار الشرق بحوبا، وبكل هذه اللقاءات المتلفزة التي لا تنجز ولا تنتهي. ولكن، فأولا وأخيرا، فهم يستثمرون في السيولة الأمنية وفي انهيار السلم الأهلي.
ونعم، فالسياسة القبلية والقبيلة المسيسة شبيهان أصلا وقبحا، ولكنهما أمران مختلفان ولو بمقدار. بيد أنه مقدار حاسم في تحديد وتشخيص التحدي وفي علاجه. ففي الأولى يلعب السياسي بنرد العشائري/القبلي/الجهوي/الإثني ويرمي به على طاولة الصراع نيابة عن السلطة، أو للحصول عليها، كما فعلت دولة الإنقاذ وبرجوازيو مركزها والهوامش حين "أرتكب" الكل مخططاته وتطلعاته السلطوية وإلى الثروة على صهوات القبائل والجهات ثم شهر لسانه وسيفه باسمها ضد أعدائه الذين هم أعدائها استلحاقا بالضرورة. حينها سيكفي وصف مثل هذه السياسة بأنها (سياسة قبلية) لا تخوضها القبيلة باسمها مباشرة ولكنها تدار بمقدراتها ودمائها.
ولقد طالما أديرت الكأس المسمومة لتلك السياسة بين القبائل السودانية واستخدمت، بأقدار متفاوتة، جنوبا (قديما وجديدا)، وغربا وشرقا وحتى شمالا ووسطا، وسيّان بيد النخب السياسية الحاكمة أو بواسطة المعارضات المسلحة. ومثالها الأوضح ما جرى طوال العهد المقبور من إدارة الأقاليم بالقبضة الحديدية لأجهزة السلطة السياسة والأمن والحكم المباشر، ولكن أيضا باستخدام المبدأ (الكتشنري/الونجتي) الموروث في سياسات (فرّق تسد) بين السكّان وقبائلهم. وكذا، بل غالبا، فعبر السياسات الزبائنية/الغنائمية مع الأفراد أو الجماعة/القبائلية، كما يسوسها الحزب الحاكم أو التنظيم المعارض، الكلاهما شمولي. أو كيفما تبيحه لهما الميكيافلية والمؤآتاة المرحلية طالما يحقق لهما الخطط التكتيكية والإستراتيجية للنظام، أو لمعارضيه، ودونما أي مراعاة للمصالح الآنية والمستقبلية لسكان الإقليم.
وإذن، فصراع الفرقاء القبليين/السياسيين في الشرق، والذي تصاعدت وتيرته حديثا على إيقاع الرحى كما نصبتها وعركتها الطغمة الإنقاذية حتى "لخبطت" فيها وبها عجين الأقاليم، ومن البديهي من ثم أن تلغ فيه الفلول وتمشي بنميم الحراك المضاد للثورة رغما عن كون (المرحاكة) لم تعد بيدهم حصرا بعدما استحال غالب الصراع – بما سلف، ثم بمحفزات الفشل الانتقالي في احتواء مهيجاته – إلى صراع قبلي بامتياز. صراع مباشر على السلطة والثروة، وعلى مقوماتهما وتمثلاتهما، ويجري بالأصالة عن القبائل كفاعل سياسي مباشر وكراعٍ حصري لمصالحها، لا كمجرد زبائن ووسطاء ووكلاء للسلطة.
ولذا فإنه وفي مقدمة هذه المقومات والتمثلات المتقاتل حولها، فستأتي تلك الأواليات القبلية التقليدية ذاتها؛ الأرض التي هي "الدار" القبلي (الجغرافيا) ومكمن الثروات. ثم تاريخ المجتمعات القبلية على تلك الجغرافيا قيد النزاع، والذي هو حيثية الاجتماع عليها وبمثابة المذكرة التفسيرية للحكم بحيازة الأنصبة العظمى في ثرواتها من بعد نصيب شوكة الدولة السودانية الريعي المعتاد! ثم إنه وبالضرورة (الحداثية!) صراع مستميت على الاستقراب أو الاستبعاد من السلطات الإقليمية والولائية والمركزية، وربما من مصالح سلطوية خارجية. فعلى مثل تلك القربى إلى السلطة ومصادرها ستتقاتل كل الأطراف سعيا لإمتلاك وسائل الأولى نحو القوة والمناصب والجاه والتجارة والاقتصاد وغيره. وأما خطاب التحريض والكراهية المؤدي إلى الموبقات كجرائم الحرب والتطهير العرقي والإبادة الجماعية فهو من لواحق وتبعات وأعراض وإفرازات وأدوات الصراع وذخائر ومصادر ومشارع لسقياه يتدلى إليها الخصوم بدلائهم تعزيزا لقواتهم القبلية، وللاستخدام بحسب الحوجة وبحسب درجة التصعيد المطلوب.. وهكذا أعددها "عشان" أحذر من شناعة الهاوية.. ولكن، فهي ليست الأسباب الأولية!!
في دولة كالسودان، بالهشاشة المعلومة في تكوينها مجتمعا واقتصادا وسياسة. وانطلاقا من افتعالات سلطة "الإنقاذ" في السياسة القبلية. ثم تقديرا لمدى قدرة حكومة الثورة، أو عدم قدرتها، على التحكم في التفاعلات الناتجة عن تلك، أو الأنكى؛ عبر الاستمرار في تبني منطلقات النظام المقبور ووسائله أو أهدافه، فلربما توفزت القبيلة كلها وتحفزت لأمرها سواء بقيادة زعامتها الأهلية التقليدية أو (الحداثية!) ثم هي ستتوفر على وسائل القوة مما يسمح به الظرف السياسي الداخلي والخارجي والوضع الأمني الجديد. ولتلعب أصالة عن نفسها وبأوراقها الخاصة على مائدة صراعات السلطة والثروة. حينها فالقبيلة ستسوس علاقاتها وتقاطعاتها مع الآخرين ومع السلطة، بالأصالة عن مصالحها القبلية وليس نيابة عن أي سلطة أخرى، وعبر أدواتها القبلية التقليدية أو المستحدثة والمستجلبة بحسب المتاح لها في الظرف المعيّن. وسيكون ذلك هو ديدنها في السياسة الولائية والإقليمية والوطنية؛ وسواء للدفاع عن حقوق تاريخية أو مكتسبة أو لتحقيق المزيد من المكاسب والمصالح للجماعة كلها أو الأفراد في القيادة. ولأن مثل هذا التكالب على الموارد الشحيحة لن يثمر إلا بالخصم من حقوق ومصالح ومكاسب محتملة لخصوم قبليين أيضا، فغالبا ما سينتج عن ذلك صدام قبلي تنخفض أو تشتد وتائره بحسب المعطيات وتوافر المقومات. وتلك هي حالة (القبيلة المسيسة).
الخلاصة؛ كلا حالي القبيلة المسيسة والسياسة القبلية متوفر لمن يعاين في المسألة الشرقية. فكما أن بعض النخب السياسية تستخدم قبائلها في لعبة السياسة بغير ما إعلان بل لا تفتأ تنكره، فإن المصالح الوجودية للقبيلة قد تحتم على أفرادها الانخراط في أطوار القبيلة المسيّسة بصرف النظر عن انتماءاتهم السياسية ما بعد القبلية. وفي ظروف استرجاعية تقهقرية مستفحلة كالتي تتوفر الآن بشرق السودان، فإن حالة القبيلة المسيسة قد تسارعت حتى تجسدت عيانا بلا شك ولا ريبة. فأضحت القبائل تخوض الصراع السياسي مباشرة ضد خصومها القبلية/السياسية الحقيقية أو المتخيلة. وربما لو تطلب الأمر القبلي المتحمّس فستخوض صراعا ضد الدولة ذاتها، كما أثبتته حديثا سلسلة من تقاطعات عنيفة جدا. وبالطبع فكل هذا إنما يجري بمقتضى معطيات الأرض والاجتماع الواقعية هنالك، ورغما عن أنف ما ينخدع له الحداثيون الجزافيون من أمثولتهم وأمانيهم وأحلامهم.
ومرة أخرى؛ هذا الحال من أحوال القبيلة المسيسة ليست نبتا شيطانيا لا أصل له كما قد يغري العقل الحداثي الكسول. القبائل موجودة لم تزال ومصالحها كذلك، فلما توفر لها كمثل ذلك التدريب والممارسة والتأهيل المنهجي على سبل كسب العيش السياسي "الإنقاذي"، وعبر مخططات الزبائنية السياسية والسياسة القبلية في عهد الشؤم، فقد خرجت من قمقمها، ولكنها لم تتجسد واقعا سياسيا حقيقيا إلا حين استرخت، بالثورة وملابساتها والحكومة ومشاكساتها، تلك القبضة الأمنية والسياسية للوصي والراعي الرسمي القديم بآلته القمعية. وحين تعالت المنافسة على سنن الزبائنية حتى أمست تكالبا، فأصبحت ممارسة السياسة القبلية ضرورة وجودية للكيان القبلي ذاته، خاصة مع تنامي الظنون في أن السلطة الجديدة لا تكترث له ولا تفهمه ولا تتفهم مصالحه القبيلة أو هي تضررت من سياساته (كوصي جديد!)، كل ذلك مع استرخاء قبضته على السلطة، أو شدّتها في غير محل الشدّة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.