بعد ارتفاع سعر وجبة الفطور مع انعدام وندرة في الخبز لمدة ثلاثة أيام، على التوالي، خرج تلاميذ المدرسة الصناعية بمدينة عطبرة يوم الأربعاء الموافق 19 ديسمبر عام 2018، لتناول وجبة الإفطار في كافتريا مجاورة للمدرسة، وقريبة من كلية الهندسة، بجامعة وادي النيل، لكنهم فوجئوا بمضاعفة سعر وجبة وساندوتشات الفول، مع شبه انعدام للخبز. ليست القضية هنا فحسب، فمدرسة عطبرة الصناعية لا يأتي إليها التلاميذ من المدينة فقط، حيث يوجد فيها سكن داخلي للطلاب القادمين من أنحاء مختلفة من ولاية نهر النيل، وظلوا يعيشون ظروفاً صعبة في الأيام التي سبقت احتجاجات 19 ديسمبر. كان مواطنو مدينة عطبرة بالمجمل، تحت وطأة ظروف معيشية صعبة، تتمثل في ندرة متطلبات المعيشة الأساسية، من خبز، غاز الطبخ وأزمة في المحروقات، ورغم مطالبات للمسؤولين سبقت الاحتجاجات، قبل مدة، إلا أن شيئاً لم يتغيّر، إلا بعد ذلك الخروج الكبير، الذي مهد الطريق لإطاحة النظام المُباد، بعدما عمّت الاحتجاجات أنحاء واسعة في البلاد، التي كانت تعيش الظروف نفسها، وإنْ بدرجات متفاوتة. ومع نقاشات التلاميذ، ومجادلاتهم، صباح الأربعاء، لتوفير وجبة الإفطار، بدأ صوت الاحتجاجات يعلو، بخاصة من تلاميذ الداخلية، حسبما تحدث تلاميذ ل(الحداثة)، خلال زيارتها للمدرسة في الذكرى الأولى لاندلاع الاحتجاجات، وربما لم يكن يدري التلميذ مطلق أول هتاف احتجاجي، إنّ حنجرته في طريقها لإحداث تغيير جذري في البلاد، فشلت معارضات سياسية ومسلحة، في إنجازه خلال عقود من الحرب والمعارضة. وسرعان ما توالفت حناجر التلاميذ، وتوحدت في غضبة احتجاجية عارمة، إذ شقوا طريقهم إلى السوق، معبئين بالهتاف، مع قلق ساور معلميهم، خوفاً من أن يتم البطش بهم على أيدي الأجهزة الأمنية، وقد وجدت أصوات التلاميذ الغاضبة صدًى لها في سوق عطبرة، المدينة العمالية الشهيرة، والمعروفة بمناهضة جزء كبير من مواطنيها للنظام البائد، فبدأ المحتجون يتسللون إلى مسيرة التنديد بانعدام الخبز وغلاء الأسعار، وسط شلل بين الأجهزة الأمنية. وقت خروج موكب تلاميذ عطبرة الصناعية، ربما كان في تلك الأثناء يعقد أعضاء حزب المؤتمر الوطني المحلول، آخر اجتماع لهم بمقر الحزب الواقع قرب حي الامتداد، لمناقشة أزمة الخبز نفسها، وعند سماعهم باحتجاج التلاميذ، قد يكونوا رأوا أنه احتجاج عادي، شهدوه مرات ومرات في أي مكان بالسودان، طوال فترة حكم النظام المُباد، وبالتالي واصلوا في إكمال أجندة الاجتماع الروتينية. كان النهار يتقدم حثيثاً في مدينة عطبرة، المدينة المشتعلة صيفاً والباردة شتاء، حيث يعبر الدراجون الشوارع المخططة جيداً، وتجوب الركشات، الشوارع الفرعية، ويستقبل الميناء البري الباصات القادمة ويودع المغادرة، وهنالك بالقرب من حي السودنة، ينخرط عُمال السكة الحديد في عملهم الروتيني، في ورش ضخمة، لقد كانت الحياة حتى بعد خروج التلاميذ تبدو عادية بالإجمال، لكن، مع كل غوص للشمس في كبد السماء غرباً، تصوغ الحناجر الطفولية، قدراً جديداً للبلاد، فكانت الليلة الشتوية الأكثر اشتعالاً في تاريخ واحدة من أوائل المدن السودانية في العصر الحديث، إن لم تكن الأولى على الإطلاق. عصراً، وحتى مغيب الشمس، انضم البالغون للمسيرة التنديدية، حيث خرجت الهتافات السياسية، المطالبة بإسقاط النظام نفسه، وفي غمرة الاحتجاج، كان قد استحال مقر حزب المؤتمر الوطني المحلول، من لهب إلى رماد، إلى نهاية حقبة، إلى إنهاء نظام الجبهة الإسلامية تماماً، وإن تجسّد ذلك في يوم الحادي عشر من أبريل عام 2019، عندما أعلن وزير دفاع البشير، ورئيس البلاد العابر الذي تسلم مقاليد السلطة لنحو 32 ساعة، اقتلاع النظام البائد. يوما الخميس والجمعة اللاحقان لغضبة الأربعاء في عطبرة، رُوعت المدينة بعقاب جماعي من الأجهزة الأمنية، سقط على إثر ذلك عدد من الشهداء والجرحى، وبدأت شاحنات ضخمة تجلب دقيق الخبز للمدينة، كان وقتها هتاف التلاميذ قد انسحق تحت وطأة الخوف والقمع، لكن صداه، تسلل إلى أرجاء الوطن المختلفة، مغيّراً السودان مرة، وربما للأبد. الحداثة