لا بد لي أن أعود في سياق هذا المقال فقط، وتفاديًا للإسهاب والتكرار، إلى نقطة مهمة في مقال الأستاذة أماني الطويل والذي تذكّر في خاتمته بشيئين رئيسين، هما: الأول: يخص تفعيل قانون العقوبات ضد الخطاب العنصري في الإعلام المصري: "أما على الصعيد المصري، فإن تفعيل قانون العقوبات ضد المنفلتين بخطابات عنصرية إعلامية بات مطلوبا بإلحاح في هذه المرحلة، وكذلك رفع مستوى الأداء الإعلامي في ملف العلاقات الخارجية المصرية، من شأنه أن يفقد الصائدين في المياه العكرة أي محتوى مصري لاستخدامه ضد السودان." الثاني: يتعلق بما يجب الانتباه إليه في محاربة الدولة العميقة وبقايا الإنقاذ: "من هنا من المطلوب على الصعيد السوداني الانتباه إلى توعية الشباب المنخرطين في الأحزاب ولجان المقاومة في الأحياء إلى أمرين، دور النظام البائد في تصعيد التوتر مع مصر وطبيعة مصالحه في ذلك، وكذلك طبيعة الفوائد الاقتصادية المترتبة على تعاون تنموي واقتصادي مع القاهرة." أهداف المقال: أنشد في هذا المقال أن أسلّط الضوء على بعض جوانب العلاقات الإيجابية بين البلدين، قديمًا وحديثًا، دون التقاضي عما بدر من سوء من جانب الإعلام المصري وندّه السوداني على حدّ سواء، وأقول إن المواطن السوداني يتألم بشدة لسماع تلك المشينات وخطاب العنصرية وبالعكس وبنفس القدر يمتعض المواطن المصري ويثور ويحزن لما يبدر من إعلامييّ السودان من خطاب متصافق وبائس يفتقد إلى ابجديات الأدب والسماحة السودانية، والساقية تدور وتدور بمخازي الأمور فتنكسر بيننا جسور ويتمادى بين الأفئدة نفور وقُصور، فهل يمثّل هذا النهج الأرعن اللاعقلاني حلّا لقضايانا العميقة والمصيرية: السباب على مسمع ومرأى من الناس كما في الحواري؟ لماذا لا ننتبه لحاجاتنا الآنية ونحن في مؤخرة الشعوب وفي زمن قتلت فيه جائحة كورونا بكل تحوّراتها الملايين ولا زالت تقضي يوماً تلو الآخر على أخضرنا ويابسنا وكل قطاعات الدولتين في انتكاسة لا سابق لها. فلنكفّ يا سادتي عن هذه الطفوليات ولنرجع البصر لنرى هل من فطور ولنرفع راية السماحة ومحبة الآخر كما رصدتها تعاليم أدياننا الحنيفة وإلا لكانت كلها شعارات جوفاء نرفعها ولا نعي ما تتضمن! لذلك أودّ أن ألفت الانتباه في سياق هذا المقال إلى ثوابت ومعطيات تاريخية تؤلّف بين القلوب ذلك عبر محاولة متواضعة لسرد تاريخي في خطاب توثيقي لبعض الأمور التي أثرتْ بنور العلم والمعرفة ثقافة البلدين لا سيما في غضون عصر النهضة ومن ثمّ ألّفت بين قلوب مواطنيّ الشعبين وأدّعي أن الأغلبية تجهلها ومن ثمّة أودّ أن أسلّط الضوء على شهادات أدلى بها بعض الأشخاص حول أهميّة تلك العلاقة الأزليّة وضرورة الحفاظ عليها. لن أتطرّق لقضية النزاع الحدودي التي لاكتها الألسن فقد سالت في قضية حلايب وشلاتين الكثير من الأحبار ولنترك الأمر في أيدي الحكومتين السودانية والمصريّة، أن تفصلا فيه بمرجعية قانونيّة لا مراء فيها وحسب المساطر والمعطيات الدوليّة. من جهة أخرى أقول وبكل صراحة، ليس الغرض من هذا المقال أن أردّد أو أعيد ما قاله الكثيرون أو أن أصف وأعلّق عمّا بدر من هجمات، هجوم معاكس وخطاب بغيض لا يرقى بأن نأخذه بعين الاعتبار، بين أعلاميي البلدين أو في مواقع التواصل الاجتماعي. ويجب لكل هذه المهاترات أن تنتهي. وهي لن تؤثر في نظري على متانة العلاقة المتأصلة بين البلدين. وأرى اقتراح الأستاذة الطويل في تفعيل قانون العقوبات ضد المتفلتين هام جدًا وصريح ولا بد أن يجد الاهتمام والتطبيق من قبل الدولتين، وسوف يردع دون أدنى شكّ من التمادي في اللغط ويقلل من كثافة هذه الحملات التي لا تخدم بأي صورة من الصور قضايا البلدين، بل بالعكس، فهي تؤزّم الموقف وتبثّ مجددًا نار الفرقة بين القلوب. لن أعود يا سادتي لأذكّر بجراحات الماضي، كما جاءت بعض الردود الممتعضة اللائمة والحانقة على مقالي الأول، حول تجاوزات الحكّام الأتراك في السودان. وكلنا يعلم أن عموم الشعبين قد عانى معاناة كبيرة من وطأة الحكم التركي ومن بعده تحت أغلال الاستعمار، فالمواطن المصري كما السوداني، قد ذاق كل منهما على حدّة مرارات الاضطهاد خلال هذه الفترات التي انطبعت في ذاكرتهما الجمعيّة. البعثات العلميّة والجمعيات الأدبيّة: في حديث شيّق مع الأستاذ محمد عثمان الفاضلابي سألته إن كان يجد في علاقة مصر والسودان أبعادًا أخرى عميقة توثّق لهذه العلاقة الأزليّة وتذكّر الكثيرين الذين يأججون نيران البغضاء بين الشعبين، بغض النظر عن مستحقات السودان في أراضيه التي لا خلاف فيها، فجاء حديثه عن هذه العلاقة ثرًّا وخرج نقاشًا عميقًا يدوزن نغمات العود على مقام راحة الأرواح كما جاء في أغنية سيّدة الغناء العربي أم كلثوم عندما تصدح معاتبة وكأنها تخاطب شعبيّ النيل، ومغنيّة "يا فؤادي لا تسل أين الهوى"، فهاكم مقتطفاته وخلاصته. كان السودانيون يسافرون للدراسة في مصر(الأزهر) ذلك منذ الدولة السناريّة. ويعتبر الشاعر محمد سعيد العباسي من أشهر السودانيين الذين درسوا بمصر في بداية القرن الماضي وغيره نفر من علماء، شعراء وأدباء السودان. أمّا فيما يتعلّق بالبعثة التعليميّة المصريّة للسودان فكانت نشطة منذ عهد رفاعة رافع الطهطاوي الذي أسس أول مدرسة في السودان، ومن بعد بدأت بعثات السودانيين المبتعثين لمصر والتي كانت أولاها بعثة السنهوري باشا، عرفت أو ارتبطت باسم أستاذ القانون والدساتير عبد الرازق السنهوري، ومن أبرز الذين درسوا من خلالها الأساتذة سيد أحمد الحسين، عبد الخالق محجوب، عبد الرحمن الوسيلة، إبراهيم عبد القيوم، فاروق أبو عيسى، الجنيد علي عمر وهناك آخرون من قياديي السودان وعمالقته. ونلاحظ أن بعضهم انضموا إلى الحركة المصرية للتحرر الوطني التي أسسها المناضل اليهودي المصري هنري كوريل الذي لعب دوراً هاماً في نضال وادي النيل ضد الاستعمار. وربما كان معظمهم معروفين لدى أهل السودان سياسياً فإن أحدهم وهو الأستاذ عبد الرحمن الوسيلة، الأديب الضليع وأنموذج لثمرة التلاقح الثقافي بين البلدين، يظل مبهمًا في وادي النيل. دعونا نسلط الضوء عليه بعض الشيء لنرى عمق ثقافة هذا الرجل التي تشبعت بروح العصر النهضوي الذي انطلق من أرض الكنانة نحو جنوب الوادي. فمن خلال منشورات توثّق لحياته عُرف عنه أنّه ترجم مؤلفات عديدة منها لشكسبير وأراغون ولوركا ونيرودا وغيرهم وكان مغرماً بالشعر ويحفظ الطويل مع أشعار دانتي واخيلوس وشكسبير إلى جانب ولعه بالشعر العربي وقد أتقن عبد الرحمن الوسيلة تعلم اللغة الروسية، فقرأ أعمال ليف تولوستوي واليكسي تولوستوي وجوجل وبوشكن وشيخوف وليرمانتوف، وهو يعتبر من كبار الأدباء لو لا نشاطه السياسي الذي طغى على صبغته المعرفيّة الاستثنائية. كان محبوباً وسط جماهير اليسار الذين كلّفوه ليكون سكرتيرا عاماً للجبهة المعادية للاستعمار التي ترأسها قاسم أمين. ومن خلال دراسة السودانيين وانطلاقة عصر التنوير الذي أضرم وأجج شعلة نهضة الأدب والحركة الوطنية والعلوم بالسودان، مرورًا بالمدارس المصرية والجامعات مثل جامعة القاهرة فرع الخرطوم، نجد أن التاريخ قد رسم بصمات واضحة للتعليم المصري لدى النخب السودانيّة ودونها. ومَن مِن العلماء مَن لم يرد الذهاب إلى باحات الجامع الأزهر التي جمعت الناس من شتّى أنحاء العالم ومن كل صوب وحدب؟! من ناحية أخرى فإن الحركة الفكرية والثقافية كانت أيضا منذ عشرينات القرن الماضي تشتعل جذوتها بالسودان، تتأثر وتؤثر بمصر، وكان الأديب معاوية محمد نور أول من كتب بالصحف المصرية. ونجد العديد من الجمعيات الأدبيّة التي اهتمت بحركة الأدب والنشر القادم من مصر وكان أهمها جمعية الأبروفيين نسبة لحي أبي رووف، وهو من أحياء أمدرمان العريقة، وجمعية الأشقاء التي ضمنت الزعيم الأزهري وجمعية الموردة (جماعة الفجر)، وكان أغلب أعضاء الجمعية من الهاشماب، ولقد برز منهم عرفات محمد عبد الله (مؤسس جريدة الفجر)، محمد وعبد الله عشري الصديق، وأحمد يوسف هاشم (أبو الصحف) ومحمد أحمد محجوب والدكتور عبد الحليم محمد ويوسف التنيّ والشاعر التجاني يوسف بشير. وكان هؤلاء قومييّ التوجّه ونادوا جمعيهم إلى وحدة وادي النيل. إمّا فيما يتعلق بجمعية الأبروفيين، فقد نشأت هذه الجمعية الأدبية على أياد روّاد نذكر من بعضهم خضر حمد، مكاوي سليمان، إسماعيل عتباني، د. إبراهيم أنيس، حسن الكد، حسين الكد، يحيى الفضلي محمود الفضلي وآخرون وكان اتحاد كل هذه الحركات الأدبيّة المذكورة أعلاه بمثابة انطلاقة في منتصف أربعينات القرن المنصرم لظهور الأحزاب الإتحادية وأبرزها حزب الأشقاء ووحدة وادي النيل والتي توحدت فيما بعد. انطلاقا من توحّد جمعيتيّ الأبررفيين والأشقاء خرجت الاحزاب الإتحادية وأبرزها حزب الأشقاء والتي انصبت جلّها في الحزب الوطني الاتحادي الذي ترأسه الزعيم اسماعيل الأزهري ووجد الدعم والرعاية من قبل السيد علي الميرغني وتمكن هذا الحزب من تحقيق الفوز بأول انتخابات وطنية في مواجهة حزب الأمّة الذي كان يرعاه السيد عبد الرحمن المهدي وتحقق على يد الحزب الوطني الاتحادي الاستقلال والجلاء في عام 1956. في خضم التحضير لهذا المقال قرأت في إحدى المقالات بعنوان "الأبروفيين"، قناديل الوعي وفرسان الوحدة الوطنية" الآتي: " لقد قدم "الأبروفيون" للحركة السياسية السودانية فكرة "مؤتمر الخريجين" كتنظيم يعبر عن دور الطلائع الوطنية في محاربة الاستعمار وانتهى رأيهم الثاقب إلى أن يكون مستقلًّا عن نادي الخريجين كما أنهم شكّلوا بداية التحوّل في نادي الخريجين. مثلوا في كل أوقات التوتر والانشقاق ضمان التوازن، وعلى حماس علاقتهم بمصر الا انهم أكدوا على سيادة السودان. فتحوا الطريق، للطلاب السودانيين باتجاه الجامعات المصرية، وذلك منذ عام 1927 ولعلهم ربما هم الذين صاغوا اغنية: يا شباب النهضة المتينة.. يلا ننزح نحو الشمال." (نهاية الاقتباس) وكل هذه أمثلة تجسد علاقات قويّة ومتينة لا تزال اشعاعاتها تروي دماء أهل السودان. ولابد أن تُضعف ثقل رسائل الهوس الحائم حاليًا في مواقع التواصل اللااجتماعيّ، وتلك في نظري قضية مفروغ منها وأنّ مسألة حبّ أهل السودان لمصر حقيقة لا جدال فيها. فحبّ السودانيين لمصر خالد وعميق ولن تستطيع وسائل الإعلام في كلا البلدين وفي أيّ فترة من الفترات، ولا حتى مشاهير أعلامييها المعاصرين، من التأثير عليه أو خدشه، فهو واقع ثابت ومعصوم بخاتم الخلود وتاريخ متصل ومصير واحد لا يمكن التشكيك فيه أبدًا، وهو ما تواصل عبر جيل تاج السر الحسن والذي عزف لقلبه الأناشيد القديمة، وخلّد هذه الصلات الحميمة بقصيدته آسيا وافريقيا وذكّر فيها بعمق علاقة شعب النيل وحبّ أهل السودان لبلاد الكنانة: مصر يا أخت بلادي يا شقيقة يا رياضًا عذبة النبع وريقة يا حقيقة مصر يا أم جمال وأم صابر ملء روحي أنت يا أخت بلادي فلنجتثّ من الوادي الأعادي فلقد مُدَّت لنا الأيدي الصديقة وإذا كانت تلك مصر في الشعر والسياسة، فإننا نجد محبتها حتى في بطون الشعر الصوفي فهجرة المتصوفة لها ما انقطعت منذ قرون ومنها الطريقة الختمية، كذلك الطرق الصوفية المختلفة من أحمدية وأدارسة وسمانية؛ ويجب أن نذكّر بمثال الشيخ الطيب نور الدائم الذي طلب من قبل الملك فؤاد وعين إماماً بمصر لأحد أهم مساجدها وغيره من المتصوفة والذين جسّد محبتهم لمصر الشيخ عبد الرحيم البرعي بقصيدته الشهيرة "مصر المؤمنة" والتي تكشف عن معرفة السادة شيوخ الطرق الصوفية بتاريخ مصر الصوفي ومعرفة تامة بآل البيت الذين أقاموا بها وبمقامتهم. وإذا بحثنا عن شأن الدراسة في مصر والتي كانت مجانية للطلاب السودانيين ومنذ العهد السناري سنجد مئات الآلاف من الطلاب السودانيين قد درسوا بمصر، خاصة منذ ما بعد الاستقلال حيث تمكنوا من الدراسة بها رغم انتمائهم لمختلف التوجهات السياسية، حتى أولئك الذين جلبوا منها فكر وحركة الإخوان المسلمين، وبثوا من بعد خطاب الكراهية من خلال منصات النظام البائد للشعب المصري. إن العلاقة بين الشعبين هي علاقة التاريخ والجغرافيا والثقافة والكفاح المشترك وسوف تظل علاقة راسخة ومتواصلة عبر الزمن. شهادة الأستاذ نور رشاد، مصريّ عاشر أهل السودان: يذكر الأستاذ نور رشاد أنه عمل قبل حقبة من الزمن بالسعودية في إحدى الفنادق وقد جمعته، بحكم هذا العمل، علاقة وطيدة بالسودانيين ولم ينسي بالرغم من مرور أكثر من ثلاثين عاما اسم مدير شؤون الموظفين الأستاذ محمد الناير لدماثة خلقه وابتسامته الدائمة. يذكر أستاذ نور وجود العديد من الجنسيات الأجنبية والعربية داخل إطار العمل بالفندق لكن كان العنصر السوداني والمصري دائما متحد مع بعضه البعض. وهذه بالطبع تجربة جديرة بأن تذكر وتذكِّر بالقرب الوجدانيّ بين الشعبين. من أجمل الأشياء التي ذكرها أستاذ نور أنّهم كانوا ينادون بعضهم البعض ب "ابن النيل". وبعدها تعرّف على الأستاذ أشرف عوض ببيت العود الذي عرّفه على الكثير من السودانيين، فهم له إخوة وأصدقاء. شعور قوّي يصعب عليه أن يصفه: قوة صادقة وصداقة متينة تجمعنا ومن أوّل لقاء نحسّ بأننا على موجة واحدة، وحتى لو طال الغياب بيننا سنة أو سنتين، تعود الأمور بعد لقاء متجدّد كأنما كانت عليه بالأمس وتظل علاقة حميمة ومستمرّة. يقول هذا على المستوى الشخصيّ، لكن على مستوى المجتمع المصري فهو لا ينكر أن يحدث بعض الأحيان تنمّر أو تحرّش بسبب لون البشرة، سواء لذكر أو أنثى، فهو يعتبره نوع من الجهل حتى ولو بدر الأمر من شخص متعلّم وهناك أحداث فرديّة حدثت وكتبت عنها الصحف كحوادث النصب التي وقعت في إطار السياحة العلاجيّة أو الطبيّة وهذه كلّها أشياء قبيحة دون أدنى شك. يواصل حديثه ويقول هناك أحياء بأكملها في مصر مثل أمبابة وعابدين وغيرها، نجد فيها أجزاء كبيرة جدًّا يسكنها أهل السودان وفيها محلات سودانية تباع فيها المنتجات السودانيّة مثل الثوب السوداني وكل الحاجيات التي تخصّ أهل السودان وأظنّ أنّ أغلب هؤلاء معهم الجنسيّة المصريّة. ونجد من جهة أخرى أنّ الجالية السودانيّة بمصر كبيرة أيضًا لا سيما بحي لازوغلي وكلهم يعيشون ويتعايشون بالتي هي أحسن، وقد حدثت زيجات كثيرة بين سودانيين ومصريات والعكس وأذكّر أن رئيس مصر السابق محمد نجيب، الله يرحمه، كان من أمّ سودانيّة. فدور الإعلام والسياسة هو الذي يسئ للعلاقة بين الشعوب مثال موضوع حلايب وشلاتين الذي حدث في الفترة الأخيرة وأيضًا موضوع كرة القدم يسبب بعض الحساسيات بين الشعبين. فالإعلام غبي فعلًا لأنّه يشعل النار بينهما، مثال مباراة مصر والجزائر. أنا لا أقول (مع مزحة وابتسامة) مصر والسودان حتّة واحدة كما تقول النكتة ولكن العلاقات أكبر مما نتصوّر. في نهاية حديثه يبادرني قائلاً: أتمنى أن يعينك ما ذكرته في المقال فأنا مصري تعدّيت الخمسة وستين عاما، عملت صداقات مع إخوة سودانيين واعتزّ بهم وأنا واثق جدًّا أنّهم يعتزون أيضًا بصداقتي معهم وإن شاء الله ربنا يرزقنا بأنظمة حاكمة ذكيّة تعرف تستغل الطاقة البشرية الموجودة في السودان ومصر لإحداث تكامل زراعي صناعي وعام. والخير فيما اختاره الله. خاتمة: الحديث عن العلاقة الأزليّة بين شعب مصر والسودان، أو بين المصريين والسودانيين، موضوع عميق ويحتاج إلى تأني وحكمة عندما نتطرق إليه، فليس بالسهل أن نختصر كل هذه العهود والعلاقات والصلات والمواثيق والانصهار والتولّد في أحاديث هرطقة روّج لها بعض الإعلاميين وبعض الذين يتجولون في ساحات مواقع التواصل الاجتماعي لإحداث البلبلة وخدش ذات البين. من يستحضر في نفسه قصائد شعراء السودان كما أوردناها أعلاه والتي تتوسط وجدان أهل السودان أو تذكر قصائد الصوفية في أرض الكنانة كقصيدة الشيخ البرعي "مصر المؤمنة" المأثورة عند أهل السودان والتي تقول: "يا صاحي أُمَّنَا لزيارة أُمّنا، مصر المؤمّنَة بأهل الله"، فسوف يعلم مدى الحبّ والتقدير والتبجيل الذي يكنّه أهل السودان لإخوتهم في "أرض الكنانة" وبالعكس من يتحدث لأهل السودان المتواجدين بمصر الآن فسوف يعلم مدى التقدير والاحترام والحرفيّة التي يقابل بها أهل السودان في مصر. والطالب محمد عوض عبد الواحد حوّل لدراسة الهندسة من جامعة السودان إلى جامعة القاهرة وأجده خير سفير لمصر بين السودانيين فحديثه عذب عن التعامل الراقي وعن المساعدات التي يجدها كل يوم بين إخوانه في مصر. فلن تفرّقنا الأقاويل ولن تشتتنا المحن. أشارك الكثيرين الرأي في كثير من الحقائق التاريخية التي ظُلِم السودان فيها وأعلم حق العلم عن تاريخ التأرجح والتوتر السياسي بين الدولتين ولكن لابد لنا ورغم كل هذه الصعاب والعقبات التاريخية المريرة أن نبدأ مجددًا أو على الأقل نحاول العمل والانطلاق نحو علاقة يسودها التوازن والاحترام المتبادل وتاريخ السياسة العالميّ خير معلّم. ما هي الحلول أو ما هو المخرج الذي ينشده مناهضي العلاقة بين الدولتين؟ أنترك تلك العلاقة مع جارتنا مصر ونحن نعلم أيما علم أن مصير الدولتين متربط ارتباطا وثيقًا بوحدة الجغرافيا والتاريخ وما عدا ذلك من واقع جيوسياسي واجتماعي. إن تاريخ ألمانيا ودول الجوار علمنا الكثير الوفير في كيفية حلّ الصراعات بين الدول، ذلك رغم أهوال الحرب العالمية الثانية، وأن لابد للقيود أن تنكسر ولابد للدبلوماسية أن تعود إلى حكمتها واتزانها، فكل بلد ينشد الوصول إلى مصلحة شعبه ورخائه وأمانه، فالسلام هو الحل والنقاش المتبادل وطرح هذه القضايا على مائدة مستديرة مهم جدًا ومصيري وألا يعمينا الغضب وأحقاد الماضي من استشراق مستقبل منير وسلمي لأهلنا في كل بقاع وادي النيل. لذلك لابد لنا ألا نقف أو نَحرِن بجمود على محطات تاريخ مضى رغم العبرات دونما أن نحرك ساكن في اتجاه علاقة متزنة، من أجل السلام والأمان لشعب السودان ومصر. والله وليّ التوفيق. (٭ نقلًا عن المدائن بوست دوت كوم) [email protected]