علي يس * أخطر ما زوَّد الله به آدم عليه السلام – و ذريته من بعده – ليتمكن من شق طريقه على الأرض ، هو هذا الشيء الذي نسميه "الذوق" ، و هو "البرنامج" الذي إذا تم إتلافه في شخصٍ ما ، فقدت حياته المعنى ، أما إذا تم إتلاف الذوق في أُمّة ، فلا رجاء فيها إلا أن يبعث الله لها رسولاً .. * و الذوق ، يا مولانا ، هو هذه القدرة المشتركة بين جميع أمم البشر و أفرادهم ، التي تجعلك – دون تعليم و دون تدريب – تميز بين الخير و الشر ، بين القبيح والحسن ، بين الحار و البارد ، بين الحلو والمر ، بين العدل و الظلم ، إلخ .. و هو أمرٌ يظل هادياً و منيراً طريق صاحبه ما لم يتعرض للإفساد و الإتلاف ، بيد صاحبه أو بأيدي "سلطة" ما .. و ذوقك يتلف يا شيخ ، حين تتجاهل إشاراته ، حين تأتي فعلاً قبيحاً ، فيقول لك ذوقك إنه قبيح ، فتتجاهل توجيه الذوق و تصر على الفعل الذي تعلم أنه قبيح ، و بالإصرار و الموالاة سوف يتحول هذا القبيح عندك إلى "حسن" ، و يكون عندها قد مضى ذوقك إلى رحمة مولاه .. * أما بيد غيرك ، فإن إتلاف ذوقك ، و إن يكن أمراً عسيراً ، يمكن أن يتم ب"التلقين" العملي المتواصل، من قبل جهة متسلطة عليك ، فالسجين الذي يوضع في ظلام دامس لسنين متطاولة ، يتم في الواقع إفساد "ذوقه البصري" ، و الآخر الذي يتم تعريضه إلى ضوضاء متصلة طوال اليوم ، يجري في الواقع إفساد ذوقه السمعي ، و لكن الإفساد الأخطر هو إفساد الذوق المعنوي ، يعني : حين تعتاد على ظُلم يتم تسويقه بديباجة "العدل" دون أن تعترض على ذلك ، فسوف يختلط عليك قريباً معنى العدل والظلم.. و حين يأتي قتلة الثوار ليؤكدوا لك ، يومياً ، و خلال عامين متواصلين، أنهم هم حماة الثورة و الثوار، دون أن يبدر منك أي اعتراض على هذه المغالطة البذيئة ، فسوف يأتي قريباً يوم لا تستطيع فيه التمييز بين الجزارين و بين الضحايا ، و هذا الأخير بالذات هو ما يجري هذه الأيام !!!… * حين تنطع مسؤول قانوني رفيع ، أيام عصابة البشير ، رداً على ملاحظة بدهية للغاية أبديناها في كتاباتنا تلك الأيام، تقول تلك الملاحظة إنه مما يناقض بدهيات العقل أن يُسترد المال العام المختلس ، بعد اكتشافه ، ثم يقال للموظف المختلس : إذهب إلى بيتك آمناً مطمئناً !!.. حين تنطع قائلاً أن هذا الأمر يخضع لاختلاف الآراء !!.. يعني ، يا شيخ ، قال لنا ذلك المسؤول (الذي لا أشك أنه ما يزالُ مسؤولاً كبيراً بحكومة ما بعد الثورة) بالعربي : إن كون النار باردة أو حارة أمر يمكن أن تختلف حوله الآراء ، و كذلك يمكن اعتبار من يقول أن الحنظل حلو الطعم صاحب رأي يقبل الصحة و يستحق الاحترام !!! * و الطفل الذي ما يزال يحبو ، يعلم بذوقه الذي أودعه الله فيه ، و قبل أن يعرف معنى كلمة "قانون" ، يعرف أن السرقة أو الاختلاس ، جريمة في حد ذاتها و دون أي ارتباط بحجم المال المسروق أو المختلس ، و أن استرداد المال لا يمحو الجريمة .. هذا طبعاً بافتراض أنه تم بالفعل استرداد كل المال المسروق أو المختلس ، فما بالك إذاً بالذي جرى على أرض الواقع والذي يعرفه الجميع ، وهو أن تلك المليارات تم اختلاسها منذ سنين عددا ، و أنها تم تدويرها في السوق ، و أنها تضاعفت ، لابد ، بضعة أضعاف (و أن هذا الأمر ما يزال جارياً بعد الثورة المسروقة)!!!.. * إذا استمرت الحال على هذه الوتيرة ، فإنني أتوقع قريباً أن يتصدى محامٍ "شاطر" لمهمة إطلاق سراح جميع السجناء في قضايا جنائية ، و أوّلهم لصوص المؤتمر الوطني ، بمنطق لا يقل قوة عن منطق ذلك المسؤول الرفيع ، هو أن ما قام به هؤلاء المجرمون أمرٌ يخضع لاختلاف الرأي "الذي لا يفسد للود قضية" ، و أنك إن كنت تراهم مجرمين فإنهم لا يرون أنفسهم مجرمين .. أدركوا القانون والقضاء من طوفان الفوضى .. المواكب