في أخر اتصال مع أحد أصدقاء العمر اكتملت قناعتي بأن الحال في السودان أصبح يتفوق على حكاوى العبث واللامعقول، التي كانت أحد الاتجاهات الأدبية الرئيسة في فترة من فترات التطور الروائي، وقد كانت تعبر عن أحوال العالم وقتها وحتى اليوم، وهى أحوال تدل على التوهان وعدم معرفة ما يخبئه اليوم، بل الساعات القادمة. ولم تكن هذه القناعة ناتجة عن ما حكى ذلك الصديق من أحوال السودان، ولكن لما عكسه من أحواله شخصيًا، التي دلتني على أن الأمر في السودان قد أصبح جللا! سألته عن أحد الأصحاب المشتركين القريبين منه علاقة وسكنًا، فقال لي إنه لم يقابله منذ سنة تقريبًا، وعن أحد أصدقاء الدراسة، الذي عاد وزوجته إلى بلد دراستنا الجامعية سويا، وأصابه مرض اسكته عن الكلام، بما جعل هذا الصديق يتصل به وبزوجته بشكل شبه يومي ليطمئن على أحواله الصحية، لذلك كنت أجد عنده أخبار الصديق المريض في أي وقت أسأله، ولكن في الاتصال الأخير اخبرني بأنه لم يتصل به منذ أكثر من شهر فطلبت منه الاتصال وإبلاغي ولكن بعد أيام قليلة كانت النتيجة هي أنه لم يفعل!.. هذه المقدمة، التي قد يعتبرها البعض خارج الموضوع، رأيت ضرورتها لتبيان عبث ولا معقولية ما يحدث في السودان لدرجة أن الأشخاص الطيبين أصبحوا لا يستطيعون المحافظة على أقل خصائص تلك الطيبة كأمر واقع! أما في ما يخص الحال العام الذي يثبت ما جاء بعنوان المقال، فقد تجمع لدي من أخبار عناوين الأخبار في هذا اليوم الاثنين الرابع عشر من شهر يونيو وندوتين شاهدتهما بالقنوات السودانية خلال الثلاث أيام الماضية. فإلى مضابط تلك الأحداث الحديثة: – حريق باخرة بضائع بميناء بورتسودان، وهو خبر ذو أهمية خاصة نابعة عن كون الباخرة تحمل بضائع في وقت تشح فيه في الأسواق وترتفع أسعارها بسبب هذا الشح بالإضافة إلى أسباب الخنق الذي تمارسه جماعات الانقاذ والساعون إلى إنفاذ الهبوط الناعم بكل وسيلة. وكذلك لكون الحرق حدث بميناء بورتسودان/ وما أدراك ما وراءه، فإنه يذكرني بحرائق النخيل وما وراءه! – الدكتور جبريل وزير المالية يطلب من السيد وجدى العضو البارز بلجنة تفكيك الانقاذ إبراز الوثائق التي تبرهن ما ذهب إليه في لقاء تلفزيوني مشهود في أن المالية تسلمت قدرًا مهولًا من الكاش بالدولار، إلى جانب أصول يمكن العمل عليها لتتحول إلى موارد يمكن استغلالها لصالح المسحوقين من الشعب الصابر! والغريب في الخبر أنه ليس أول، ولا أظنه سيكون أخر، المغالطات بين مسئولين كبار في أمور الدولة السودانية الانتقالية من غير تدخل رئيس وزرائها لتبيان الحقيقة، فهناك مثلًا المغالطات التي لا تزال تتبادل بين رئيس الوزراء شخصيًا ورئيس مجلس السيادة، مع اطلالة السيدة وزيرة المالية المكلفة سابقًا ومستشارة الدكتور الوزير حاليًا عن تبعية الشركات العسكرية وكذلك التطبيع مع إسرائيل: هل حدث أم لم يحدث وما مصيره، إن كان قد حدث، بعد سقوط أحد طرفيه أول أمس؟! – مذكرة لحمدوك بشأن إنقاذ الموسم الزراعي بالجزيرة! وهو خبر في غاية الغرابة لعدة أسباب، نذكر منها: الحديث الذي اتفقت عليه كل الأطراف من اعتبار المشروع درة التنمية بما يمكن أن يقدمه في مجال استعادة الزراعة لدورها في التنمية بشكل عام، بل وذهب البعض، بما فيهم رئيس مجلس الإدارة، إلى العمل ليس فقط لاستعادة ما كان من أمر المشروع، بل الاستفادة من التطور التكنولوجي للقفز به إلى ما يستحق كأكبر مشروع مروى -بالراحة- في العالم! كذلك من دواعي -الاستغراش- على قول الكاتب الساخر الفاتح جبرا، ما ظللنا نسمعه من أقوال المسئولين في الري عن العمل الجاد في تنظيف القنوات وفي الطاقة ولجنة توفير السلع الاستراتيجية عن توفير الوقود والسماد، وهل أكثر منها استراتيجية؟! وبهذه المناسبة نسأل أيضًا عن اللجنة المسئولة عن تتبع الاستعدادات لإنجاح الموسم الصيفي وعلاقتها برئيس الوزراء الذي تم الاستنجاد به؟! – استمرار الاحتجاجات الرافضة لزيادة أسعار الوقود وآثارها على رفع أسعار كل ما يرتبط بها من أجرة المواصلات والنقل بشكل عام وكل سلعة أخرى تقريبًا. وهو أيضًا خبر غريب ويقع في نفس دائرة العبث واللا معقولية، فمن ناحية الاحتجاج، أظن أن الاحتجاج على المسائل التفصيلية لم يعد يجدى، خصوصًا بعد تصريحات وزير المالية بأن تحرير الأسعار أمر نافذ مهما يحدث في الشارع، وهو أمر مؤكد بدون مثل هذه التصريحات الاستفزازية، كجزء مما اتفق عليه مع مؤسسات التمويل الدولية، التي أثنت على الإجراءات السابقة الماحقة، من مثل تعويم الجنيه، أو بالأحرى إغراقه، وطلبت الاستمرار في تنفيذ ما اتفق عليه سابقًا وهو ليس سريًا بل موجود بنصه وغضه وغضيضه في الاتفاق بين الحكومة والصندوق ومدته سنة تنتهى في هذا الشهر يونيو، وتحت مراقبة خبراء الصندوق في الداخل والخارج! نواصل ________ الميدان