علي يس * عرف قراء البروفسير عبداللطيف البوني ، من خلال عموده الصحافي الشهير "حاطب ليل" عرفوا له قدرات سردية عالية ، و نزوع إلى "مسرحة" بعض القضايا التي يتناولها ، فضلاً عن القدرات التصويرية الجيدة للشخوص و للمواقف التي يتناولها ، و برغم أن البوني لم يجعل الكتابة القصصية هماً من هموم عموده الصحافي ، إلا إنه كثيراً ما تطرق إلى تصوير بعض المواقف الخاصة به أو ببعض معارفه من أفراد مجتمع القرية الذي يألفه ، و يحضرني بقوة موقف سبق أن حكاه د. البوني بينه و بين فتى من "ركاب بص اللعوتة" قبل زهاء عشرين سنة ، تضمن جدالاً بين الأستاذ الجامعي و بين شاب لا يبدو أنه نال أي قسط من التعليم ، انتهى الحوار بينهما – فيما حكى البوني – بعبارة مفحمة تأزَّم منها الراوي بقوة ، إذ قال له الفتى : (إحترم شيبك!!) و هي عبارة لم يكن ثمة مبرر لإطلاقها سوى سوء أدب الغلام و لكنها بالنسبة للبوني، كما حكى هو ذاته، كانت صادمة ، إذ نبهته إلى قليل من البياض الذي اعترى شعر رأسه آنذاك .. الصدام بين الجيلين صوره البوني بطريقة غاية في الرشاقة و السخرية ، و لكن ، مع ذلك لم يألف القراء بروف البوني كاتباً روائياً أو قصصياً. * لكن الرواية الوحيدة – حسب علمي – التي كتبها بروف البوني "مواهب عبدالفضيل"، والتي صدرت في أواخر أيام العهد البائد، كانت واحدة من الروايات التي تضمنت أسئلة عسيرة في سياق التحولات الاجتماعية التي شهدها السودان خلال ربع القرن الأخير، من تمدد أفقي عريض للفقر في مقابلة تمدد رأسي حاد للثراء المترف لدى فئة صغيرة من المجتمع ، هو في غالبه ثراء لم يأت بالطرق الطبيعية ، بل بتجاوز القيم و المبادئ الإنسانية ، و لهذا كان لدى هذه الفئة المترفة استعداد لا محدود للتجارة في فقر الفقراء .. و كان (عبدالفضيل) هو الشاهد و البطل الذي اختاره البوني لخوض المعركة ، و لكن عبدالفضيل ، الموظف المتقاعد الذي تعاني زوجته من السرطان و ابنه في السجن بينما تركت ابنته "مواهب" دراستها الجامعية لضيق ذات اليد، ظل يخوض معركته بأخلاق "فرسان القرون الوسطى" ، و لهذا لم يكن أمامه من فرصة للنصر المباشر – حسب مقاييس الواقع المعيش – و لكنه بالتأكيد انتصر معنوياً .. * أستطيع أن أصف هذه الرواية بأنها عملٌ "مختلف" معمارياً ، فهي عملٌ هجينٌ – من حيث تقنية الكتابة – بين الكتابة القصصية والدراما والمسرح – الأمر الذي قد يؤخذ عليها من قبل معتادي النقد الأكاديمي الصارم – والحوارُ فيها هو سيد الموقف ، و السردُ في كثيرٍ من جوانبه أشبه بالسيناريو ، أما من حيث الموضوع فهُو جريءٌ جداً في ما تضمنهُ من نقدٍ (إجتماعي – سياسي) للمؤسستين السياسية والاجتماعية ، وقد تم بناء شخصيات الرواية و أحداثها بحرفية عالية أقرب إلى طريقة كتاب "السيناريو" التلفزيوني ، و برغم أن رسالة هذه الرواية المباشرة توحِي – حسب خاتمتها – بتفاؤل الكاتب بانتصار (عبدالفضيل) الذي يمثِّلُ المبادئ والقيم والصدق و (الفضيلة) ، في مواجهة الرأسمالية الحديثة – الشرسة ، كما يسميها الكاتب – و التي تتجرد من جميع القيم و الأخلاق و المبادئ الإنسانية ، عموماً ، أقول برغم ذلك ، إلا أن الرسالة الرمزية التي تتضمنها خاتمة الرواية تؤكد خلاف ما يؤكده ظاهر الأحداث ، فعبد الفضيل "الذي يمثل الفضيلة" ينتهي إلى العجز الكامل والشلل ، ولعل الكاتب قد وُفِّق في الفرار من سؤال "ما بعد الفشل" بترك النهاية مفتوحة ، يكملها خيال القارئ حسب تصوراته و مزاجه . * رواية "مواهب عبدالفضيل" تمثل شكلاً جديداً في الكتابة كما قدمت. و هي، بلا شك ، إضافة إلى المكتبة الروائية السودانية ، التي توثق – قصد الكاتب أم لم يقصد – حقبة سوداء من حقب الصراع الاجتماعي و الأخلاقي داخل المجتمع السوداني . المواكب