* بطريق غير مباشر، كان أصدقائي حين نجتمع في بعض جلسات الأُنس ، يوحون إلي بأنني رجل بلا قضية، وبلا تاريخ نضالي، وبلا وزن سياسي!! * وأصدقائي الخمسة أولئك، يتألفون من أحد عتاة الكيزان، وأحد أخطر الشيوعيين، وبعثي » على السكين« وأنصاري "سكينه في ضراعه"، وخامسهم ختمي من أحباب " أبو هاشم".. * وكانوا عادة ما يتجمعون – فجأة – في مكتبي ، ويطلبون الشاي ، ويبدؤون الحديث عن ذكرياتهم النضالية وتاريخ كفاحهم المجيد. وللحقيقة، لم يكونوا يدخلون في الموضوع بدون مناسبة، كانت هنالك دائماً مناسبة تمهد لذلك النوع من الذكريات، كأن تأتي »ست الشاي« وتتذمر من غلاء السكر، فينتهز أحدهم الفرصة قائلاً: » بالله تتذكروا لمن نميري زاد السكر سنة 75م، وطلعنا في مظاهرات؟ اليوم داك قفلوني أسبوع في زنزانة.. « أو ما شابه من مناسبات.. * وعادة ما كان يبدأ الحديث عز الدين صغيرون، صاحب التاريخ الماركسي العريق، فيروي، مثلاً، كيف جاءه رجال أمن النميري منتصف الليل، وطلبوا منه الذهاب معهم في "مشوار صغير"، لم يعد منه إلا بعد خمس سنوات.. ثم يثني الحديث صاحبي عبد الله جابر الأنصاري، فيذكر كيف أنه كان أيام الجزيرة أبا يحمل بندقية وهو في الخامسة عشرة من عمره، فتنفد ذخيرته، ويستخدم البندقية عكازاً يحطم به رأس أحد الجنود، ثم يجد نفسه محاصراً، فيلقي بنفسه في النيل وينجو بأعجوبة(لا أتذكر الآن تفاصيلها ..( وحين تنتهي قصة عبد الله يتلقف الحديث حسين، البعثي، ويروي قصة المطاردة التي خاضها مع رجال الأمن، وكيف خدعهم وتنكر في زي شحاذ.. كان رجال الأمن قد طرقوا باب بيته فعرفهم وهو بالداخل، فوضع لحية ولبس أسمالاً وحمل عصا يتوكأ عليها، )وقرعة) يتلقى فيها الصدقات، وخرج إليهم متذمراً يقول: – باين عليكم ضيفان!!.. الزول ده" جلدة" ساكت، أرحكم معاي أنا المسكين ده، حرم أعشيكم.. تصدقوا لي يومين ما أكلت.. جيتو في بطن بيتو طردني!! * ثم يضحك حسين قائلاً: واحد فيهم جدع لي خمسة قروش وقال لي: «الزول ده مشبوه، تاني كان لقيناك عندو بنقبضك"!!.. مشيت أنا وهم دخلوا البيت عشان "يقبضوني" !! * وما إن ينتهي حسين حتى يكون سيد أحمد يوسف الختمي قد بدأ رواية ما جرى بُعيد انقلاب مايو، حين أحس بأن أعين "الأمن " لا تفارقه، وتوقع أن يقوموا بمداهمته في أية لحظة، فاشترى " باكتة" ورق، وقرر أن يحملها خفية إلى صديق له" مطبعجي" ليطبع له فيها أي كلام شيوعي، ثم يضعه على مكتبه.. ولكن ناس الأمن لم يمهلوه.. جاءوا قبل أن يذهب إلى المطبعة.. وصادروا ما لديه من كتب وأوراد وأوراق، ومن بينها باكتة الورق الأبيض، وذهبوا به إلى محكمة عسكرية بتهمة الانتماء إلى تنظيم رجعي.. – أها يا أبو السيد!! – تصوروا، يوم المحكمة القاضي سألني ): إنت ختمي؟( قلت ليهو: لا أنا شيوعي.. قال لي : "نعرف كيف؟" ربنا ألهمني وقلت ليهو: المنشورات اللقوها عندي !! نادى العساكر الجابوني وقال ليهم: لقيتوا عندو منشورات؟ قالوا ليهو: لا.. بس لقينا ورق أبيض. – وبعدين!! – ربك ما كريم.. وسيدي إيدو لاحقة.. تصدقوا لمن جابوا الورق الكان أبيض نضيف، لقوهوا كلو منشورات عن كفاح الطبقة العاملة وشتيمة في الرجعية والبرجوازية.. آمنت بكرامات أبو هاشم وقربت أهتف: " عاش أبو هاشم" إلا خفت يرجعوني الحبس تاني بعد ما فكوني!! * عندها، يجد إسحق فضل الله،" الكوز" أن عليه أن يقول شيئاً.. فيروي قسطاً من تفاصيل لعبة القط والفأر التي دارت بينه وبين رجال أمن النميري والمشاوير التي كان يضطر إليها تاركاً العيلفون قبيل لحظات من طرقات رجال الأمن على الباب.. والخيبات التي كان يلقاها ضباط الأمن حين يعودون من البيت الذي يضم ثلاثة من عتاة الكيزان– كلهم مطلوبون، وكلهم مصنفون بدرجة «"خطر" – خالياً وفاضهم .. – ثم يجئ الدور على "أخوكم" .. وأخوكم يحس بخجل شديد، حين يتذكر أنه لم يشكل خطراً على أي نظام سياسي طوال تاريخه.. لم يحاول (بتاع أمن) واحد أن يسأله يوماً عن هويته.. لم يكلفه "التنظيم" بأية مهمة سرية أو علنية، لأنه – ببساطة – ليس لديه "تنظيم "برغم أن الكثيرين قالوا له: إنت معانا.. الشيوعيون والكيزان والختمية والبعثيون.. كشكرة ساكت!!".. * يا ترى، هل أحكي لهم واقعة النضال السياسي الوحيدة التي خضتها؟.. ولكنني لم أكن أعرف حينها أنني مناضل.. كل المسألة أن طلاب الثانوي جاءوا الى مدرستنا وقذفوا أسقف الزنك بالحجارة.. كنت بالصف الأول المتوسط، فخرجنا.. سمعتهم يهتفون):صايع صايع وشعبك ضايع) فهتفت معهم، وإن كنت لا أعرف من هو ذلك الصايع بالضبط.. ذهبوا في اتجاه الشارع فتبعتهم، كنت آخر واحد، إلى أين لا أدري.. لسوء حظي جاء عسكري يحمل سوطاً طويلاً.. جاء من الخلف، فكنت أقرب الناس إليه فأودع ظهري سوطين "زي السم .." كان ذلك أول"خلاف" حقيقي، بيني وبين النميري.. وحين خرجت في الانتفاضة أهتف بسقوط النميري كان ذلك انتقاماً مني لذينك السوطين..(عجباً يا مولانا .. كان فض التظاهرات يتم بالسياط فقط) !!.. * هل أحكي لهم حكاية السوطين، كبداية حقيقية لتاريخ مناضل سياسي لا يشق له غبار؟!