"هنا كان يقف طابور الصباح.. وهنا كان يرفف علم السودان.. وهنا كان يتقافز التلاميذ في مرح".. هكذا كان يردد (هاشم) وهو يتجول في مساحة مترامية، ليس بها سوى بعض حجارة تتناثر هنا وهناك.. فقد أصبحت مدرسة قريته العائد إليها بعد سنوات من الانقطاع، أثرًا بعد عَيْنٍ، والواقع أن مدرسة الممسوكة الأساسية المختلطة، التابعة لإدارية المحفورة بمحلية السنوط في ولاية غرب كردفان، لم تصل لهذا الحال بفعل حرب أو نزاع مسلح، ومع ذلك، تلاشت هذه المدرسة مجسّدة أنموذجاً صريحاً لحال التعليم في ولاية غرب كردفان، الحائزة على النسبة الأعلى– من بين الولايات السودانية ال18- في وجود الأطفال خارج المدارس. حضيض (هاشم جمعة) الذي وصل إلى قريته–الممسوكة- ضمن لجنة من أهالي القرية بالعاصمة الخرطوم، بعد سنوات من الغياب، للوقوف على الحال الذي آلت إليه المدرسة، ولبحث إمكانية تأهيلها بعد تواتر الأنباء عن أنها قد بلغت الحضيض، لم يجد وهو يطوف بالمكان، سوى إرسال نداءات استغاثة لأسرته وأهالي قريته وكل من يهمه شأن التعليم، لإنقاذ المدرسة التي كانت في يوم ذات صيت وصدى يُسمع. تأسست مدرسة الممسوكة الأساسية المختلطة في العام 1997 بجهد من الأهالي وليس سواهم، وأصبحت المدرسة التي خرّجت دفعات وكان يدرس بها نحو 270 تلميذاً وتلميذة، مجرد مساحة جرداء لا يوجد بها أثر لفصل أو مكتب أو مخزن أو سور، أو حتى ما يشير إلى أن المكان كان ذات يوم مدرسة. واقع "من حقّ جميع الأطفال الحصول على تعليم جيد"، هكذا تنص المعاهدات والمواثيق الدولية جميعها، وربما التشريعات الوطنية، غير أن الواقع في ولاية غرب كردفان عمومًا، يجافي هذا الحق الإنساني، إذ يقتضي الحق في التعليم وجود مؤسسات تعليمية لائقة ومعلمين مؤهلين، مع توفير خدمات الحماية والصحة المدرسية ومرافق المياه والصرف الصحي في المدارس. في منطقة الممسوكة والمناطق المجاورة في وسط ولاية غرب كردفان، يحرم عدم توفر هذه المطلوبات الأطفال من الحق في التعليم. الواقع في مدرسة الممسوكة الأساسية يجسد ذلك، حيث يوجد بالمدرسة معلم واحد يحمل شهادة ثانوية، وقد تم إلحاقه رسميًا بسلك التعليم قبل نحو أربعة أعوام، بعد أن كان متعاونًا، كما لا يوجد ولا فصل واحد أو حمام واحد أو مخزن أو سور. مسؤولية يقول مدير التعليم بمحلية السنوط، أحمد محمد أبو قرين، إن غالبية المدارس بالمحلية تعاني من إشكاليات بسبب البيئة المتدهورة للتعليم، مشيرًا في حديثه ل(الحداثة)، إلى أن محليته بها 74 مدرسة مبنية من مواد محلية (القش)، وبالتالي ليس بها حتى مخازن لحفظ المعدات المدرسية التي تتعرض للتلف والفقدان. حسب قانون تخطيط التعليم العام وتنظيمه لسنة 2001 تعديل 2016، تقع مسؤولية تمويل وإدارة ومتابعة المرافق العامة للتعليم في الأساس على الحكومات الولائية والمحليات. يقول وزير التربية والتعليم السابق البروفيسور محمد الأمين التوم ل(الحداثة)، مشيرًا إلى أن القانون أعفى الوزارة الاتحادية من المسؤولية من أي دور. وأوضح البروفيسور التوم أن وزارة التربية كانت وجهت كل الولايات بأن يوفر أي طفل في سن السادسة مقعداً دراسياً بالصف الأول، على ألا يزيد عدد الأطفال في كل فصل عن 40 تلميذًا، كحد أقصى، وأن تضع– الولايات- ميزانية تتضمن إنشاء وصيانة المدارس. نقص واقع مدرسة الممسوكة، لا ينفك بحال عن واقع تدهور البيئة المدرسية في جميع مدارس محليات ولاية غرب كردفان، ففي محلية السنوط التي تتبع لها المدرسة، يتجسد تدهور البنى والبيئة المدرسية. يقول مدير التعليم بمحلية السنوط، أحمد محمد أبو قرين، إن غالبية المدارس بالمحلية تعاني من إشكاليات بسبب البيئة المتدهورة للتعليم، مشيرًا في حديثه ل(الحداثة)، إلى أن المحلية بها 74 مدرسة مبنية من مواد محلية (القش)، وبالتالي ليس بها مخازن لحفظ المعدات المدرسية التي تتعرض للتلف والفقدان. وحسب مدير التعليم بمحلية السنوط، فإن نسبة الإجلاس لا تتعدى 40%، مع وجود نقص حاد في المعلمين، موضحًا أنهم في المحلية بحاجة إلى نحو 400 معلم ومعلمة، لسد النقص الحاصل. كما تعاني المدارس في المحلية من ارتفاع نسب التلاميذ المتسربين من الدراسة، ويوضح أبو قرين أن نسبة التسرب كانت لا تتجاوز 4%، لكنها ارتفعت في السنوات الأخيرة لتصل إلى 7%، وهي نسبة عالية. ويعزي أبو قرين ارتفاع نسب التسرب إلى أسباب أمنية أدت لتهجير بعض القرى، وبالتالي هجر أطفالها للمدارس، بجانب عدم جاهزية المدارس التي كان ينبغي أن يتولى الأهالي أمر تجهيزها لاستقبال التلاميذ، وفضلًا عن ذلك، فإن أسباباً رئيسة تعود إلى عدم أولوية التعليم لدى الأهالي بالمنطقة، فبعضهم يفضل أن يذهب أبناؤهم إلى مناطق التنقيب الأهلي عن الذهب أو الرعي، بحثًا عن المال بدلًا من إرسالهم للمدارس. تحدّيات "يوجد في السودان أعلى معدل للأطفال غير الملتحقين بالمدارس في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. هنالك أكثر من 3 ملايين طفل تتراوح أعمارهم بين 5 و13 عاماً لم يلتحقوا بالمدرسة، أكثر من نصفهم من الفتيات"، وفقًا لمنظمة الأممالمتحدة للطفولة (يونسيف)، التي تقول إن من بين أكثر التحدّيات الملحة التي تواجه تحسين جودة التعليم في السودان، توفير مساحات صفية كافية ومعلمين مدربين ومراحيض، بجانب مستويات كافية من التمويل. حسب وزير التربية والتعليم السابق البروفيسور محمد الأمن التوم، في مقال نُشر بصحيفة (الحداثة) يوم الاثنين التاسع من أغسطس، فإن بيانات للبنك الدولي، ذكرت أن نسب الأطفال خارج المدرسة بلغت عام 2014 في متوسط السودان 31%. وحسب تلك البيانات، فإن ولاية غرب كردفان أحرزت النسبة الأعلى في وجود الأطفال خارج المدارس مسجلة 54%، بينما سجلت الولاية الشمالية النسبة الأدنى (7%)، وسجلت 7 ولايات نسباً أقل من المتوسط هي: الشمالية (7%)، الخرطوم (10%)، نهر النيل (11%)، الجزيرة (20%)، البحر الأحمر (23%)، النيل الأبيض (24%)، وشمال كردفان (28%). وفي حين بلغت نسبة الأطفال خارج مقاعد الدراسة في المناطق الحضرية 13%، سجلت نظيرتها في الريف 38%. ويعزي البروفيسور محمد الأمين بقاء الأطفال خارج المدرسة، إلى أسباب النزاعات والفقر ودرجة الوعي بأهمية التعليم، والأخيرة قد أكدها مدير التعليم بمحلية السنوط. تساؤلات فهل وضعت محلية السنوط ومن ورائها الولاية ميزانية محددة وخطة لصيانة وإصلاح المدارس؟ وكم عدد المدارس التي بحاجة للصيانة؟ كذلك ما يتعلق بمرتبات وأجور العاميلن، هل حكومة الولاية دفعت بخطط وميزانية تفصيلية تضمنت الصرف على العملية التعليمية للوزارة الاتحادية؟ وهل تسلمت الولاية تمويلًا للميزانية من وزارة التربية الاتحادية أم لا؟ تلك أسئلة بحاجة إلى إجابات وفقًا للبروفيسور محمد الأمين التوم، الذي اعتبر أن ما حدث لمدرسة الممسوكة إهمال واضح، وهو من مسؤولية الولاية والمحلية. تدعو خطة التنمية المستدامة لعام 2030، التي التزم المجتمع الدولي بتحقيقها، إلى تعميم التعليم وتمكين الجميع من الانتفاع به في مرحلة الطفولة المبكرة، وكذلك في مرحلتي التعليم الابتدائي والثانوي. وحسب اتفاقية حقوق الطفل الصادرة عن الأممالمتحدة، فإن على الحكومات أن تفعل كل شيء ممكن للتأكد من أن كل طفل في بلدها يتمتع بكل حقوقه الواردة في هذه الاتفاقية، وتتعلق بخدمات التعليم والحماية والصحة المدرسية ومرافق المياه والصرف الصحي في المدارس، وهو ما لم يتحقق في كثير من ولايات السودان. "كل طفل وطفلة يستحقان أن يعيشا طفولتهما كاملة، بغض النظر عن من هما أو أين يعيشان"، هذه فحوى المواثيق والتشريعات الدولية والوطنية، غير أن الواقع الماثل في ولاية غرب كردفان وولايات سودانية أخرى، يفتح أبواب التوقّعات بأن تتفاقم حالة التعليم السيئة أساسًا، في تلك المناطق، بما يهدّد مستقبل أجيال بكاملها. الحداثة