تناول المقال السابق برامج إدارة الرئيس الأمريكي بايدن الاجتماعية التي تستهدف دعم الكادحين والطبقة الوسطى بحيث أن يتم تمويل تلك البرامج الطموحة عبر فرض ضرائب إضافية تصاعدية على الشركات والأغنياء. هذا المقال يتناول القضايا المتعلقة بحركة الحقوق المدنية حيث أبدأ بالقصة التالية: بموجب إعلان مُسبق واِختيارياً، في تمام الساعة الثالثة بعد ظهر يوم الثلاثاء 25 مايو 2021 كان العاملين في المكان الذي أعمل فيه قد تجمعوا ليعيشوا لحظة صمت استمرت لمدة 8 دقائق و46 ثانية بالضبط! نفس هذه الممارسة تمت في عدد كبير من المؤسسات الحكومية والمنظمات والشركات الخاصة في نفس اليوم، وذلك بهدف احياء الذكرى الأولى لاغتيال الأمريكي من أصل أفريقي جورج فلويد الذي ضغط شرطي أمريكي اسمه ديريك تشوفين بركبته على رقبة جورج، وهو مقيد وملقي على الأرض على بطنه، كل ذلك الوقت حتى فاضت روحه. سجل هاتف أحد المارة تلك اللحظات وتمّ تداول الشريط في وسائل التواصل الاجتماعي. انتفض كل أصحاب الضمائر الحية، في أمريكا وحول العالم، للمشاهد الصادمة لاعتقال وموت جورج فلويد البالغ من العمر 48 عاماً، التي حدثت في يوم الاثنين 25 مايو 2020 في مدينة مينيابوليس بولاية مينسوتا الأمريكية. وفي الذكرى السنوية الأولى يوم الثلاثاء 25 مايو 2021، التقت عائلة جورج فلويد في البيت الأبيض بالرئيس الأميركي جو بايدن ونائبته كامالا هاريس، إحياءً لذكرى مقتله الذي دشن فصلاً جديداً في كفاح الأميركيين نحو المساواة والعدالة. وكان قد تمّ الحكم على الشرطي ديريك تشوفين في 20 أبريل 2021 بالسجن لمدة 22 عاماً و6 أشهر، ولاحقاً أقر مجلس مدينة مينيابوليس مبلغ 27 مليون دولار تسوية قانونية تدفع كتعويض لعائلة جورج فلويد.
بالنسبة إلى قادة الرأي التقدمي والسياسيين الليبراليين في الولاياتالمتحدة، حادثة فلويد حركت في أوساطهم أسئلة أفضت لجهود كبيرة لفهم لماذا يحدث مثل ذلك، وكيف يتمّ منع حدوثه مستقبلاً، خاصةً تجاه أيً من أقليات أفراد المجتمع؟ لقد توجت تلك الأبحاث والمداولات بإصدار رئيس الولاياتالمتحدةالأمريكية جوزيف بايدن بتاريخ 25 يونيو 2021 أمراً رئاسياً تنفيذياً يستهدف تعزيز التنوع، والانصاف، والاِشتمال، والتيسير الخاص بالمعوقين، ويرمز له اختصاراً ب (DEIA). فما هو معنى هذه المصطلحات؟
يعني مصطلح "التنوع" ممارسة تضمين العديد من المجتمعات، والهويات، والأعراق، والخلفيات، والقدرات، والثقافات، ومعتقدات الشعب الأمريكي، بما في ذلك المجتمعات المحرومة، في النسيج الاجتماعي. أمّا مصطلح "الإنصاف" فيعني المعاملة المتسقة والمنهجية العادلة والحيادية لجميع الأفراد، بما في ذلك الأفراد الذين ينتمون إلى المجتمعات المحرومة من الخدمات. ومصطلح " الاِشتمال" يعني الاعتراف والتقدير واستخدام مواهب ومهارات العاملين من جميع الخلفيات. أمّا مصطلح التيسير الخاص بالمعوقين، فيُقصد به تصميم وبناء وتطوير وصيانة المرافق، وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، والبرامج، والخدمات، بحيث يمكن لكل الناس، بمن فيهم الأشخاص ذوو الإعاقة، استخدامها باستقلالية وبشكل كامل. يشمل التيسير توفير التسهيلات والتعديلات في المرافق والوسائل التي تضمن المساواة في الوصول إلى العمل والمشاركة في الأنشطة للأشخاص ذوي الإعاقة، وتقليل أو إزالة العوائق المادية والسلوكية التي تحول دون تكافؤ الفرص، والالتزام بضمان أن الأشخاص ذوي الإعاقة يمكنهم الوصول بشكل مستقل إلى كل ما هو متاح للآخرين، والسعي لتحقيق أفضل الممارسات.
حادثة مقتل جورج فلويد وما استتبعها من الوعي بضرورة توسيع وتمتين التشريعات المتعلقة بالحقوق المدنية، لم تكن الأولى من نوعها في تاريخ تطور الحقوق المدنية في أمريكا. كمثال، هناك القصة المُلهمة للسيدة الأمريكية من أصل أفريقي والتي كانت تعمل ك "خيّاطة" في ماكينة خياطة وتستغل البص من مكان سكنها إلى مكان عملها وبالعكس. بعد انتهاء دوامها في يوم الخميس 1 ديسمبر 1955، استغلت البص من مكان عملها وجلست في أول مقعد خلف المقاعد المخصصة للبيض، وفي المحطات التالية امتلأت كل مقاعد البيض وصعدت أعداد إضافية منهم، فطلب سائق البص من الجالسين في المقاعد خلف مقاعد البيض، أن ينتقلوا للمقاعد الخلفية ففعل الجميع ولكن روزا رفضت التخلي عن مقعدها، فتمّ اعتقالها وتغريمها عشرة دولارات، فانتظمت الكنائس والتجمعات في مدينتها مونتغمري، ولاية ألباما في حملة تدعو لمقاطعة البصات، فخسرت شركة النقل ألاف الدولارات. وانتقلت الدعوة في مدن أمريكية أخرى حيث برز مارتن لوثر كينغ كزعيم لحركة الحقوق المدنية السلمية، ونتيجة لنضاله السلمي ونضال رفاقه أمثال روزا باركس ومالكوم إكس وآخرين، كسب العديد من الأمريكيين الأفريقيين الحق في التصويت في الانتخابات العامة في الجنوب الأمريكي الذي كان يضع العراقيل أمام ذلك الحق، كما صدر قانون الحقوق المدنية في سنة 1964 والذي ألغى التمييز على أساس العرق في التوظيف والتعليم وجرّم الفصل العنصري في المرافق العامة. ولاحقاً في العام ذاته، أصبح مارتن لوثر كينغ أصغر الحائزين على جائزة نوبل للسلام سناً.
في السودان، يشكل اعتزاز القبائل مُشكلة لاستقرار البلد وسلامه، ولا سيما الانقسام بين القبائل المنحدرة من أصل أفريقي والقبائل العربية، خاصةً في دارفور. وبما أن القتال بين القبائل يمكن أن يندلع في أي وقت، فإن الشجاعة العسكرية عندها أصبحت عنصر شرف في معظم المناطق في البلاد. استخدم النظام البائد الذي استمر ثلاثة عقود من الحكم الوحشي، الانقسامات القبلية لتأجيج الحرب الأهلية في أجزاء كثيرة من السودان. أدى هذا إلى ظهور خطاب ثقافي جديد بمصطلحات جديدة، مثل المركز والهامش، والتهميش والمهمشين. بعد انتصار ثورة ديسمبر 2018، وبحسب التقرير القطري السنوي لوزارة الخارجية الأمريكية حول ممارسات حقوق الإنسان في السودان، أنه "طوال عام 2020 واصلت الحكومة الانتقالية بقيادة مدنية عملية الإصلاح القانوني. وشمل ذلك إلغاء قانون النظام العام وتعديل الأفعال الإجرامية لحظر تشويه الأعضاء التناسلية للإناث وإلغاء عقوبة الاعدام في حالة الإدانة باللواط، وزيادة الحريات للأقليات الدينية، بما في ذلك إلغاء قوانين الردة". ومع ذلك، لا يزال هناك "نقص في التحقيق والمساءلة بشأن العنف ضد المرأة؛ والاتجار بالبشر؛ وتجريم السلوك الجنسي المثلي بالتراضي؛ وعمالة الأطفال". في تقديري أنه، بينما كل يوم تتأكد عالمية وكونية قيم ومعايير حقوق الإنسان، لكننا نتفهم أن لكل مجتمع تاريخ وارث يتمّ تطوير تلك المعايير من خلالها، وفي إرث كثير من السودانيين ما ورد في حديث رسول الإسلام " ألا لا فضلَ لِعربِيٍّ على عجَمِيٍّ ولا لِعجَمِيٍّ على عربيٍّ ولا لأحمرَ على أسْودَ ولا لأسودَ على أحمرَ إلَّا بالتَّقوَى"، ويشكل ذلك، بجانب التجارب الإنسانية المعاصرة، أرضية مشتركة للكفاح من أجل الحقوق المدينة. [email protected]