أخبار الخلافات والصراعات الدائرة في الساحة السياسية بالخفاء وفي العلن بين المكون العسكري والمدني من جهة وبين الكتل المدنية نفسها من جهة أخرى ، لا نستطيع أن نقلل من خطورتها ، لأنها تتسع وتتعمق كل يوم نخشى أن تطغى هذه الخلافات والصراعات وتتحول إلى صراعات مسلحة ، خاصةً أن معظم الكتل المتصارعة تمتلك جيوش وسلاح . التناقضات بينهم طفت على السطح ولم يعد من الممكن إخفاؤها أو الالتفاف حولها ، وهي لم تعد محصورة في مجلس السيادة ومجلس الوزراء ، وقد انتقلت إلى الشارع وسيحدث إثر ذلك صدامات لا يمكن تجاهل خطورتها. هذه الصراعات ستحتدم ومرشحة لتصبح أكثر حدة كلما اقتربنا من موعد تسليم رئاسة مجلس السيادة للمدنيين وكلما اقتربنا من موعد الانتخابات والتحول المدني الديموقراطي . مما لا شك فيه أن هذه الصراعات ليست من أجل الوطن ولا من أجل المواطن ، وإنما من أجل بقاء بعض القيادات العسكرية والمدنية في السلطة السياسية للتمتع بالمزيد من الامتيازات التي أدمنت الحصول عليها من جهة، وضمان الحماية من المساءلات القضائية حول الكثير جداً من القضايا على مختلف الصعد، إذا صعدت جهات أخرى إلى مواقع صناعة القرارات . مآلات هذه الصراعات تعتمد إلى حد بعيد على مدى قناعة العسكريين والمدنيين بالالتزام بالحوار الديموقراطي والاحتكام للوثيقة الدستورية ، وهو أمر مشكوك به. فبعد تجربة سنتين من سيطرة المكون العسكري والمدني على مقاليد السلطة في الحكومة الانتقالية تعززت القناعات لدى قطاعات واسعة من الشعب السوداني بأن المكونين المدني والعسكري قد فشلوا في القيام بمهامهم وواجباتهم وليسوا متوافقين على برامج حقيقية من أجل العبور بالبلاد إلى بر الأمان . كلهم يتكلمون في السياسة ويتصارعون على كراسي السلطة ، سواءً العسكريين أو المدنيين أو شركاء السلام المسلحين . يستقوي العسكر بالجيش وتستقوي الحركات بمليشياتها المسلحة وتحالفها مع العسكريين في مجلس السيادة ، وليس أمام المدنيين غير أن يستقووا بالثوار فإن خذلهم الثوار أصبحوا لقمة سائغة في أفواه العسكر وقادة الحركات المتحالفين مع العسكر والفلول . عليهم كلهم أن يفهموا قبل فوات الأوان أن صراعاتهم لا تخدم أهدافهم الضيقة ولا تخدم مصلحة الوطن الواسعة ولا تخدم أحلام الشعب في الحرية والسلام والعدالة . أولئك الذين في مجلس السيادة أو مجلس الوزراء أتت بهم الثورة ودفع الشعب ثمن وظائفهم بالدماء الذكية التي أريقت والأرواح الطاهرة التي أزهقت . لم يأتوا بانتخابات حرة نزيهة ولم يفوضهم الشعب ولم يأتوا بانقلاب عسكري ، وإنما بمحاصصات وتوازنات غيب عنها الثوار . عليه فهم ممثلون لهذا الشعب الذي اسقط الطغاة وأتى بهم ، وما كانوا ليحلموا بهذه السلطة لولا ثورة هذا الشعب العظيم وتضحياته . ولنكون منصفين فإننا لا نأخذ على المكونين المدني والعسكري خلافهم ، فمن الطبيعي – ونحن نتلمس طريقنا نحو الحكم المدني الديموقراطي – أن يكون بينهم خلاف في الرؤى والآراء والأفكار، لكننا نأخذ عليهم أن اختلافهم اختلاف تضاد لا اختلاف تنوع ، ونأخذ عليهم فشلهم في الالتزام بتنفيذ الوثيقة الدستورية ، ونأخذ عليهم وضع العوائق والعراقيل أمام تنفيذها ، ونأخذ عليهم فشلهم في إنشاء مؤسسات الحكومة الانتقالية ، ونأخذ عليهم فشلهم في إصلاح الجيش والأمن والشرطة ، ونأخذ عليهم فشلهم في إدارة خلافاتهم بالرشد والحكمة المتوقعة من القادة العظام ، ونأخذ عليكم فجورهم في الخصومة التي أعمتهم عن معاناة الشعب وهموم معيشته ، ونأخذ عليهم أطماعهم غير المشروعة في السلطة ولجوءهم للأكاذيب والافتراءات وافتعال الأزمات وصنع المسلسلات سيئة التأليف والاخراج ، فاستحقوا عن جدارة أن ينطبق عليهم المثل الذي يقول (جبناكم فزعة بقيتوا وجعة) . الشعب السودان كله يعلم أن من المكونين العسكري والمدني من يبني ومنهم من يهدم، فالجهلاء والحمقى وقصيري النظر والانتهازيين موجودين في الطرفين . هكذا ابتلي بهم الوطنيين الأشراف من المدنيين والعسكريين ، وهكذا ابتلي بهم الشعب السوداني كله. هؤلاء هم أعداء الحرية والتحول الديموقراطي ويجب التخلص منهم ، لأنهم معاول هدم كما قال الشاعر بشار بن برد : مَتى يَبلُغُ البُنيانُ يَوماً تَمامَهُ ………. إِذا كُنتَ تَبنيهِ وَغَيرُكَ يَهدِمُ . ما أصعب البناء وما أسهل الهدم ، كما قال الشاعر : ولو ألفُ بانٍ خلفهم هادمٌ كفى …………. فكيف ببانٍ خلفه ألفُ هادمِ ؟ نطالب مجلس السيادة ومجلس الوزراء والحاضنة السياسية وشركاء السلام بالرشد والحكمة ، وأن يباشروا فوراً اجتماعاتهم ، لأن الوضع لا يحتمل التأخير . ومن أهم قواعد الحوار أن لا يحاول طرف فرض رأيه على الآخرين ، والتعامل بحسن الظن ، وافتراض أن الآراء كلها باحثة عن مصلحة الوطن والمواطن والخروج بالبلاد إلى بر الأمان . اجتمعوا وتشاوروا وتناقشوا لتحقيق أهداف الثورة دون تجريم أو تخوين أو تجريح أو سخرية أو استصغار أو تحقير للآخر أو مساس بالجانب الشخصي أو الخاص لدى الآخرين ، فالحرية مهما كانت يجب أن تكون حرية ملتزمة ومنضبطة لا تتجاوز حدود المسموح أو تسيء للآخرين مهما كانوا . وقديماً قال الإمام الشافعي (رأي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب). آن الأوان لتجتمعوا وتتحاوروا وتتناقشوا وتتفقوا ، إنه الوقت الذي عناه الشاعر بقوله : إِذا بلغ الرأيُ المشورة فاسْتَعِن …………. بِرأي نصِيحٍ أونصِيحَة ِ حَازِمِ . واعلموا أن هذه البلاد لن يحكمها العسكر مرة أخرى والمراهنون على ذلك هم الخاسرون ، وأن التحول المدني سيبلغ غاياته رغم المحاولات اليائسة البائسة لاجهاضه من قبل أعداء الثورة. فإن بقيتم منقسمين ومتناحرين فاعلموا أن الشعب السوداني الواعي متوحد على حلمه في الحرية والسلام والعدالة ولن يخون دماء الشهداء. هذا الشعب ليس قطيعاً من الأغنام يساق بالخلا ، وإنما شعب واعي وذو همة وذو بصر وبصيرة ، إنه ليس الشعب الذي كان من السهل خداعه والتغرير به بالخطب الرنانة والمال والأكاذيب والافتراءات والأزمات المفتعلة والمسرحيات المفبركة كما كان في العهد البائد ، لن يلدغوا من نفس الجحر مرتين ، فلا تحاولوا عض الحجر الصلد. هم أدرى منكم بالحال والمآل ، وأدرى منكم بواقع الحياة اليومية المعاشة ورقة الحال وشظف العيش والأزمات. تنظرون إليه من قمة الجبل العالي وترونه صغيراً وهو ينظر إليكم من بطن الوادي ويراكم أقزاماً ، لقد اكتسب هذا الشعب مناعة قوية ضد كل حيل وأساليب العهد البائد . فانتبهوا واستقيموا واصلحوا اعوجاجكم قبل أن يقومكم الشعب . وأخشى عليكم أن يأتيكم يوم كيوم أبي عبد الله الصغير آخر ملوك غرناطة ، الذي أُرغم على الخروج من الأندلس ، وطيّ ملف حضارة عربية أموية دامت ثمانية قرون ، فوقف على ربوةٍ ، والتفت إلى الوراء ، وأُجهِشَ بالبكاء ، فجآءته كلمات أمه سهاماً مسمومة : ابكِ مثل النساء مُلكاً مُضاعاً … لم تحافظ عليه مثل الرجالِ . [email protected]