بالأمس خرجت جماهير كبيرة من الشعب السوداني بقيادة جزء من المكون الحكومي يقدر بأكثر من 25% يمثلون حركات الكفاح المسلح، بالإضافة إلى قيادات مسارات أضيفت إلى هذه الحركات مثل مسار الشرق، صاحب المشكلة التي أصبحت تؤرق الجزء المدني من السلطة وتعمل في خدمة المكون العسكري من نفس السلطة، التي كان يدعى إلى وقت قريب أنها تمثل نموذجًا يحتذى من الانسجام والشراكة المؤدية إلى تحقيق متطلبات الفترة الانتقالية! وهي حكاية لا يمكن أن تحدث في أي مكان غير السودان، الذي أنجز ثورة أثارت أعجاب العالم، ثم تنازل عنها طواعية لجزء من نظام سابق لديه من الإمكانات العسكرية والاقتصادية ما يمكنه من إعادة العجلة إلى الوراء، تساعده في ذلك حكومة مدنية تخلت عن كل إمكاناتها التي تستحقها دستوريًا: من مجلس للوزراء له حق التنفيذ ومجلس تشريعي يستطيع سن القوانين اللازمة لتفكيك النظام القديم وكذلك عدد من المؤسسات القومية التي تمكنه من تنفيذ القوانين التي يصدرها المجلس التشريعي. ولكنها بدلًا عن ذلك تركت الأمور التنفيذية في أهم القضايا التي أرادتها الثورة، من مثل اتفاقية السلام والاقتصاد والسياسة في يد العسكر من مجلس للسيادة، لا يملك سلطات تنفيذية باعتراف عسكرييه، الغالبية فيه للمدنيين! وامتدادًا لغرابة ما حدث ويحدث في سودان ما بعد الثورة أن من بيده التنفيذ يشتكي لجماهير الثورة مما حدث نتيجة تفريطه هو في حقوق اتته من خلال الوثيقة الدستورية التي كانت نتاجًا لثورة نفس تلك الجماهير التي يشتكي لها وقد جاءته بالملايين المرة تلو الأخرى تدعوه لأن يأتي معها لتنفيذ أهداف الثورة، ولكنه المرة تلو الأخرى كان يتأبى عن مجرد مخاطبة مليونياتها ناهيك عن الاستجابة لطلباتها التي عاد اليوم يطالب بها في مبادرته ثم في خطابه الأخير بعد تمثيلية الانقلاب وما حدث قبلها من تحضير وما قيل بعدها من ما دل على مشاركة الشركاء العسكريين ولو بالتقاضي عن مجرد الشجب لها! وكل هذا بالطبع لا ينفي، وإنما يؤكد، ما جاء في مقدمة خطاب السيد رئيس الوزراء من خطورة الوضع على الثورة وبل على السودان بأكمله، ولتفادي هذه الخطورة لا يجدي أسلوب الجودية وطلب اتحاد كل السودانيين، حتى مع استثناء الحزب الوطني، حيث أن مجرد ذكر استثنائه من المضحكات المبكيات. بل لا بد من عدة إصلاحات أساسية ومن وضع النقاط على الحروف بشكل قاطع وواضح بدون "دغمسة" وعموميات لم تعد تغني ولا تسمن: أولًا: لا بد من اعتراف بأن القوى السياسية الفاعلة اليوم والتي وقفت ضد النظام الانقاذي لم تعد جميعها على قلب الرجل الواحد الذي اتحد في سبيل انهاء النظام الانقاذي فحسب، وهو أمر لم يعد يحتاج إلى تحليل نظري، وإنما أصبح يرى بالعين المجردة. وأخر ما يدل على ذلك اجتماع قاعة الصداقة الذي جمع بشكل واضح وفاضح جماعة الانقاذ القدامى والجدد ليوقعوا ميثاقًا مشتركًا، بل وليدعو بعض قادتهم جهرًا وبعضهم سرًا أو على الأقل بعدم الاحتجاج على دعوة المجاهرين بطلب البيان الأول! يضاف إلى هؤلاء من سال لعابهم على وراثة مصالح الانقاذيين الذين أنهت صلاحياتهم لجنة التفكيك وأولئك الذين حصلوا على مواقع أصبح من الصعب التخلي عنها وأصبحوا يحللون وجودهم في السلطة أما أنه وجود ضروري لكف يد الآخرين في نفس السلطة عن فعل ما هو أدهى ومر، وكأن هناك ما لم يفعل من سياسات اقتصادية وتعطيل لتأسيس كل المؤسسات التي طالبت بها الثورة وضمنت بالوثيقة الدستورية. إذن لا بد من اعتراف بأن الوحدة المبتغاة لتنفيذ مطالب الثورة يجب ألا تشمل هؤلاء أيضًا. ولحسن الحظ فإن ما حدث بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة قد أسرع بالفرز الذي ظللنا ندعو إليه كشرط ضروري لإنجاز مهام الثورة. ثانيًا: لم يعد الأمر يسمح بالمواقف الضبابية وبالتالي فلا بد للكل وعلى رأسهم السيد رئيس الوزراء وبعض المؤسسات وحركات الكفاح المسلح وبعض الشخصيات التي تعبر عن متطلبات الثورة وشعاراتها، لكنها تتردد لسبب أو آخر عن الانضمام إلى ركب الثورة. فكما ظللت أكرر فإن الانتصار للثورة ومبادئها لن يتم إلا إذا أصبح ميزان القوى في مصلحتها. ولكى أضع النقاط فوق الحروف، راجيًا أن يفعل الآخرون بالمثل، فإنني سأسمح لنفسي بمخاطبة من أعني بالاسم: – حركة تحرير السودان/ شمال بجزئيها ، فالتي تحت قيادة السيد عقار والسيد عرمان قد دللت إلى حد كبير بمواقفها من قضية الدمج وغيره، أزها تسعى حقيقة إلى إنجاز متطلبات الفترة الانتقالية. هذا بالإضافة إلى التغيرات الواضحة في مواقف رئيس الوزراء بعد تعيينه السيد عرمان مستشارًا سياسيًا له. أما التي تحت قيادة الحلو، فإنني أدعوها لموقف أكثر قربًا من طابور الثورة الذي انتظم أخيرًا في مواجهة الفلول وتوابعهم. وكذلك ادعو الرفيق عبدالواحد.. وادعو كليهما لمراجعة موقف للزعيم قرنق من انتفاضة أبريل والتي ارجع فشلها، في تقديري، لذلك الموقف الذى اعتبر الانتفاضة امتدادًا لمايو ورفض الانضمام إلى اتحاد كل القوى السياسية وقتها ضد ممارسات الجبهة الإسلامية، وبالتالي فتح ذلك الموقف الباب واسعًا لنجاح انقلاب الجبهة. – كذلك اوجه خطابًا خاصًا بالدكتور رئيس الثورية الذى اجد في خطاباته ما يختلف إلى حد كبير عن مواقف من اشتركوا في مواكب السادس عشر ويطالبون بالبيان الأول وهم في نفس الثورية واجد مواقفه اقرب إلى عامة الجماعات التي لا زالت تقبع في معسكرات اللجوء بالداخل والخارج ولا تجد سبيلًا لأراض انتزعت منها بواسطة من هم في نفس الجبهة الثورية، بل ويدعون حماية المدنيين في دارفور ومنهم من ينطبق عليه قول "حاميها حراميها" – وأنا اتابع مواقف الدكتور إبراهيم الأمين منذ أيام التجمع الوطني في مصر وحتى مواقفه الأخيرة التي كشف فيها التلاعب الذب حدث في صياغة الوثيقة الدستورية والخروقات التي حدثت لها عند اتفاقية جوبا وبعدها، وارجاعه بشكل واضح وصحيح المشاكل التي تجابه الانتقال الآن إلى تلك الأخطاء، ولكني لا أجد في نفسي قبولًا لسكوته على هذه المسائل الكبرى والخطيرة بمبرر المحافظة على الشراكة، وهي نفس مبررات الدكتور رئيس الوزراء التي انتقدها الدكتور إبراهيم ضمن مراجعاته الأخيرة. ولكل هذا فإني أرى أن مكانه هو ضمن قيادات الطابور الثوري بدون شك. هذه نماذج غير شاملة للكثيرين الذين بانحيازهم إلى مكانهم الصحيح سيجعلون الكفة تميل لصالح قوى الثورة فإن لم يكن في الحادي والعشرين من أكتوبر الحالي فبعد حين منظور. – وهناك أيضًا، إن لم يكن قبل ذلك كله، الذين أشركوا فى موكب السادس عشر، وبعضهم حسب ما أجرى معهم من مقابلات، لم يكونوا يعلمون حتى لماذا يشاركون. وبعض آخر شارك لحاجته لما أغرب به من مال وأكل مع الترحيل إلى مكان "اللمة" هؤلاء من البسطاء الذين يجب أن يتوجه إليهم فعل الحكومة القادمة وقبلها المؤسسات المدنية الثورية لتوعيتهم بمكانهم الحقيقي من أجل إكمال شعارات الثورة وعلى رأسها العدالة بكل معانيها، والتي إن تحققت فلن يكون لمن حملوهم إلى الموكب الكاذب سببًا أو منطقًا لإقناعهم بالمشاركة في موكب هو في واقع الأمر ضد مصالحهم! ولعل صمود ثورة ديسمبر لثلاث سنوات، برغم ما حيك ويحاك ضدها من مؤامرات داخلية وخارجية، خير دليل على أنها ثورة وعي لم يتسنى لانتفاضتي أكتوبر وأبريل، لعله خير دليل على انتشار الوعي وضرورته لجر هؤلاء البسطاء إلى مكانهم الصحيح! نصل من ما سبق إلى أن المطلوب ليس وحدة لا يكون هدفها تحقيق ما لم ينجز حتى بعد مرور ما يقرب من ثلاث سنوات من أهداف الثورة. فإذا كان الهدف من الوحدة هو تحقيق أهدافها يصبح لا بد أن تكون للجماعة المؤمنة بتلك الأهداف. فإن صح ذلك يصبح لا بد لكل طرف يعتبر ضمن تلك الوحدة مراجعة مواقفه ليكون جزء فاعلًا من تلك الوحدة: فعلى رئيس الوزراء أن يستعيد ما فقده وأفقده لمجلسه من حقوق دستورية تنفيذية للقيام بما هو واجب وحق للمجلس لا أن يطلب من وضعوه في هذا الموقع ليقوموا بتلك الواجبات نيابة عنه ومجلسه. وبرغم ما يعتقد البعض من أن مواقفه تمليها عليه رؤية صائبة لضرورة المحافظة على الشراكة مع العسكر، إلا أن هذه الرؤية نفسها تحتاج إلى تصحيح، إذ أن واقع الأمر يقول بأن الشراكة هي مع القيادة الحالية للقوات المسلحة وليس للقوات، وقد عبر عن هذا الخطأ أحد الشعارات الشعبية الذي ظل يردد في كل المواكب "الجيش جيش السودان ما جيش البرهان". وربما يقول البعض بأن الدكتور حمدوك حافظ على هذه الشراكة لأنها كانت خيار القوى السياسية قبل قبوله رئاسة الوزراء، وأن محافظته عليها قد أنجت البلاد من شر مواجهات عسكرية. وربما يكون هذا صحيح إلى حد ما، ولكنه من ناحية أخرى هو أحد مؤشرات عدم الثقة في جماهير الثورة التي طالبت وتطالب بفض الشراكة مع القادة الذين برهنوا بما لا يدع مجالًا للشك أنهم يريدون جر العجلة إلى الوراء من غير الوصول إلى المرحلة الانقاذية لحسن الحظ! ثم ألم يكن الوضع قد يصبح غير ما هو عليه لو أن رئيس الوزراء ضغط في اتجاه ارجاع المفصولين بالألاف من شرفاء الجيش والشرطة. كذلك تكون المراجعة ضرورية لكثير من القضايا في مجالات الاقتصاد والسياسة والقانون التي أوصلت الحال إلى ما هو عليه من تبادل للاتهامات بين المكونين المدني والعسكري والشعب واحتياجاته في واد آخر… الخ كذلك لا بد للمحسوبين من قوى الثورة في مواقفهم التى كانت في معارضة النظام خلال الثلاثين عامًا الانقاذية وحتى قيام الثورة، لا بد لهم من مراجعة مواقفهم القائمة من بعد على أساس المشاركة في السلطة للحد من غلواء المشاركين الآخرين، غير أن ما حدث طوال فترة مشاركتهم قد أوضح أنهم لم يستطيعوا ايقاف أي من الأحداث الجسام بما في ذلك العلاقة مع إسرائيل التي كاد الأمر معها أن يصل إلى إعلان التطبيع الكامل! أما بالنسبة للقوى الثورية التي أثبتت تمسكها بشعارات الثورة ووضح للآخرين صحة مواقفها من قضايا رئيسة في الاقتصاد والسلام والعلاقات الخارجية، فإنه لا بد لها من مراجعة ونقد المواقف الخاطئة التي ارتكبت عند تمرير الوثيقة الدستورية مع التواضع في مناقشة وجهات نظر الآخرين والأخذ بوصية الأستاذ نقد، حيث يقول "الحقيقة قد تضيع على أمة ويصل إليها فرد!" وكذلك أن يكون من أولويات واجباتها التوعية ابتداءً بفروع الحزب ولجان المقاومة والخدمات ومن ثم الجماعات الكادحة بتقديم الخدمات التي تغطى احتياجاتهم الضرورية التي تبعدهم عن شرور مشتري البشر والذمم وتنظيمهم في شتى الأشكال من نقابات وجمعيات تعاونية تساعدهم في تنظيم أحوالهم المعيشية إلى جانب المطالبة بحقوقهم من الجهات الرسمية. وأخيرًا، فإن الحال في سوداننا الحبيب قد وصل حد الغرابة باتفاق الجميع على ضرورة حل الحكومة وعلى رأسهم من يملكون أغلب القيادات الحكومية والعسكرية والاقتصادية، ولكن لكل أسبابه. ولعل ما تم من فرز يمثل عودة حقيقية وصحيحة إلى منصة التأسيس، بداية بمواكب أكتوبر التي بدأت في بعض مدن السودان منذ الأمس وانتهاء بتصحيح المواقف وتكوين حكومة تأتمر بأمر الثورة، ليصبح أكتوبر بإذن الشعب وأمره استكمالًا لتنفيذ شعارات الثورة في الحرية والسلام والعدالة بحق وحقيق! الميدان