تتبنى الحكومة العديد من المصطلحات ،غير أنها لا تتبنى مضمون هذه المصطلحات ، ربما كان السبب في ذلك أنها تحاول جاهدة أن تحقق انجازات سريعة عبر استخدام مصطلحات تضخ إعلاميا لبعث رسائل للجمهور، وربما جهلاً ، وربما لأن المناخ الاقتصادي والسياسي ككل غير محفز لتفعيل تبني مضامين المصطلحات التى ربما تؤدي إلى تدمير كل محاولات الحكومة (التي نشفق عليها كثيراً). ومن تلك المصطلحات ؛ ما تبنته الحكومة من سياسة التحرير الاقتصادي ، فما أن يواجه أي مسئول بسؤال ، حتى تراه ينبري قائلاً: لا نستطيع فعل كذا وكذا لأن التحرير الاقتصادي هو سياسة الدولة . فهل فعلاً هناك تحرير اقتصادي؟ إن الإجابة هي وبلا أدنى شك معقول :(لا) ، بل هناك تخبط في السياسة الاقتصادية . وهناك عدة أسباب لقولي ذلك من ضمنها : أولاً: الضرائب والرسوم والجبايات الباهظة : تحرير السوق يعني الانتقال إلى قانون السوق ، (العرض والطلب، والتنافس الحر) ، القضية الأساسية هي أن الدولة يجب أن ترفع يدها من التأثير على قانون السوق ، غير أن ما نراه هو تأثير مباشر على هذا القانون ،لقد جفت أصوات المطالبين بتخفيف العبء عن كاهل التكلفة للمنتج الوطني عبر تخفيض الضرائب ووقف الرسوم والجبايات غير المنطقية التي أصبحت تضاف إلى التكلفة . القضية الأساسية أن الحكومة في نفس الوقت تؤثر في قانون السوق ، فعندما ترفع الجبايات فهي تتحكم في السوق ، عندما ترفع الضرائب على المحروقات فهي تزيد من أسعار جميع السلع ، من الشاي والسكر واللحوم ، فكلها مرتبطة بالمحروقات ارتباطاً مباشراً أو غير مباشر، غير أن المشكلة الأساسية هي أن الحكومة وإن كان بإمكانها عبر زيادة الجبايات رفع الأسعار إلا أنها في نفس الوقت غير قادرة على تخفيض الأسعار عبر تخفيض الجبايات ، وهناك أسباب عديدة لذلك . هي جزء من الأٍسباب العامة مع سبب خاص سنبينه لاحقاً. ثانياً: الانهيار في القطاع الصناعي والزراعي : لقد شكا الصناعيين لطوب الأرض من المعوقات التي تعرقل تطور القطاع الصناعي ، أرسل بعضهم رسالة مباشرة إلى مسئولين تبين كل المعوقات والأسباب التي تعيق تطور الصناعة في السودان ، ومع ذلك لم يلتفت أحد لرسالتهم تلك ، إن هذا يعني ضعف المنافسة مع السوق العالمي ، ويعني أن السودان سيظل دولة مستوردة ، ويعني أن العملات الحرة تهرب إلى الخارج عبر الاستيراد وضعف التصدير . ويعني هذا أن التحرير الاقتصادي سيؤدي بالتأكيد إلى مزيد من التدمير للصناعة الوطنية التي لن تستطيع أن تنافس رصيفاتها من الدول الأخرى ، هذا مع انعدام وجود سلع ذات ميزة نسبية ، بعد خروج البترول بالانفصال . وتأثير الحروب في الغرب والتهريب على الصمغ العربي . النفرة الخضراء باءت بالفشل ، شاءت الحكومة أن تعترف بذلك أم أخفت رأسها تحت الرمال ، ذلك أن نجاح أي خطة يحتاج لمناخ معافى (سياسياً،واقتصادياً،وقانونياً، وإدارياً) ، وفي ظل التردي السياسي والترهل الإداري والتشوهات القانونية، وانتشار الفساد) لا يمكن أن تنجح أي خطة للحكومة حتى ولو كان بعض المسئولين أصحاب قلوب تنبض بالوطنية . فالنوايا الحسنة لا تكفي . عندما نتحرر اقتصادياً ، في ظل انهيار للقطاعين الصناعي والزراعي ، فهذا يعني انتحاراً اقتصادياً. قدمت الكثير من الشركات طلبات تلتمس منحها ميزات تفضيلية على الشركات الأجنبية ، إلا أن المسئولين يقولون دائماً تلك الجملة : سياسة الدولة هي التحرير الاقتصادي. ولا أعرف إن كانوا يعون مضمون هذه السياسة أم لا ؟! الحصار الاقتصادي: تتحدث الدولة عن تحرير اقتصادي في حين أنها محاصرة اقتصادياً، ونتائج الحصار الاقتصادي معروفة للجميع .اقتصاد الدولة يتقلص ، يضعف ، ينهار ، يصبح كسيحاً أمام التنافس مع القوى الاقتصادية العالمية ، في حين تفتح الدولة سوقها لاستهلاك السلع والخدمات من هذه القوى العالمية . والنتيجة معروفة . رابعاً: الاستثمار : من أكبر المشاكل التي تجابه أي دولة نامية هي تشجيع الاستثمار ، ولذلك تسعى الدول لتشجيع الاستثمار ، الواقع أن تشجيع الاستثمار لا يتم من خلال قانون كقانون 2005 المعدل ، بل يتم من خلال نظام إداري واضح وسهل ومفهوم أيضاً، أغلب المستثمرين الأجانب واجهتهم هذه المشاكل ، ويشكل الفساد أكبر معوقات الاستثمار ، لأن هناك جهات نافذة ترغب في أن تشارك في أي استثمار أجنبي .حتى لا يخرج الأمر عن سلطة(التمكين الاقتصادي) وهو الشعار الديني (المؤسلم) الذي ترفعه الدولة . لكن الخيبة والخذلان ليس في هذا ، بل في أن نتاج التشجيع كان بائسا ، فقد نتج نوعان من الاستثمار ، استثمار هامشي وهو عبارة عن مطاعم ومقاهي لأجانب بعمالة أجنبية، لا تؤثر اقتصادياً بشكل ملموس ، وهناك استثمار أجنبي ضخم جداً ولكنه استثمار (استنزافي) فهو لشركات المقاولات الضخمة التي تأتي لتنفيذ عمليات تشييد ، وهذه الشركات تسحب كل العملة الصعبة وتخرجها إلى الخارج ، فالشركات الماليزية والصينية والتركية ، تستنزف الدولارات من خزينة الدولة ، وتعمل (بكفاءة عالية) على تقليل أي إنفاق دولاري من جانبها، على سبيل المثال ، ما أن ينتهي مهندس تركي من مهمته الأساسية في جزء من جزئيات عمله حتى تقوم الشركة بإعادته فوراً إلى بلده حتى لا تنفق عليه في السودان بالعملة الصعبة.فهذه الشركات لديها حسابات دقيقة جداً تفوق كل حسابات الحكومة السودانية . الاستثمار الحقيقي (الإيجابي) هو ذلك الذي يؤدي إلى تحقيق أهم ثلاث فوائد : (أولاً) توفير فرص عمل عبر عمليتي التدريب والإحلال . (ثانياً) توفير إيراد للعملة الصعبة للدولة (ثالثاً) : توفير مشاريع إستراتيجية ضخمة يتم تمليكها للسودان إما على المدى القصير أو المتوسط أو الطويل. هذا بالإضافة إلى فوائد أخرى كثيرة . وهذا ما لا نراه إلا على مستوى شركات قليلة تعد على أصابع اليد الواحدة وقد تقلصت كثيراً بعد انفصال الجنوب. خامساً: الترهل الإداري والدستوري: هناك ترهلاً كبيرا يعلمه الجميع ، ويكفي معرفة عدد الوزارات وعدد المفوضيات ، وعدد الهيئات في الدولة ، الترهل مع الضعف القانوني ، إن عملية التحرير الاقتصادي تتطلب دائماً أن يكون هناك تحجيم لتدخل الدولة في الاقتصاد ، وأن يقتصر دور الدولة على إدارة المرافق التي لا يكون القطاع الخاص قادر أو راغب فيها ، مثل البوليس والجيش والقضاء ... ، هنا تنكمش الحكومة ومن ثم ينكمش دورها في التأثير على قانون السوق ،دعنا نسأل فقط : كم عدد الشركات التابعة لجهاز الأمن والمخابرات الوطني ؟ وهل هذه الشركات –إن وجدت- تؤثر على قانون السوق ؟ كم قيمة الإنفاق العام ، وهل يؤثر ذلك على الجبايات سواء كرسوم أو كضرائب أو خلافه ؟ هل هذا بدوره يؤثر على قانون السوق ؟ هل هذا يؤدي إلى ارتفاع الأسعار ؟ ...الخ ؟؟؟ سادساً: لماذا لا تنخفض الأسعار ؟ حتى لو قامت الحكومة الآن بجعل الجبايات صفر ؛ فإن الأسعار لن تنخفض ؟ فضعف القوى التنافسية يجعل من قوى السوق التي تجبر التاجر على تخفيض السلعة غير متوفرة . يمكن للتاجر أن يستغل معلومة صغيرة لزيادة الأسعار ، لكن ما الذي يجبر التاجر على تخفيض الأسعار؟ قانون السوق وحده هو من كان بإمكانه أن يفعل ذلك ، وقانون السوق منتهك من الحكومة نفسها ؟ فما الذي سيدفعه إلى ذلك ، اللهم إلا إن كان فعل الخير وطلب الأجر من الله تعالى.وفي ظل ضعف الرفاهية العامة ، فإن المستهلك مضطر غير باغ ولا عاد على تقبل أي سعر يطرح عليه بدون مفاصلة أو جدل. عشرون عام : هل تحسن الوضع الاقتصادي الآن ، بعد عشرين عام من عمر الإنقاذ : دعني أكون أكثر صدقاً، الإنقاذ حاولت محاولات مستميتة لتحسين الوضع الاقتصادي ، حتى ولو كان ذلك لحساب قلة قليلة من منتسبيها -ونحن نقبل بذلك، فالقاعدة في الاقتصاد (أن الخير يعم) - ورغم انشغالها أيضاً بالمكايدات السياسية ومحاربة طواحين الهواء داخليا وإقليمياً ودولياً- لكن الواضح الآن أن المؤشر يهبط إلى أدنى مستوياته ونكاد نعود إلى عهد الإنقاذ قبل عشرين عاماً ، أي أننا الآن في نقطة الصفر من جديد .فهناك ارتفاع جنوني في الأسعار ، هناك بطالة وعطالة ، هناك مرض وفقر شديدين ، هناك طبقية (لم تكن موجودة في السابق بمثل هذا الوضوح) . والشعب يعاني بشكل متزايد يومياً . نحن كليبراليين نثمن على التحرير الاقتصادي ، ولكننا لسنا كالشيوعيين نقدس النظرية ، فالتحرير الاقتصادي يجب أن يجد بنيته التحتية لكي ينهض محققاً غايته المرجوة ، فما الذي يجعل الحكومة تقدس مجرد المصطلح؟! [email protected] الاخبار