ما ذكره لي الزميل الصحافي - يحيى كشة - عن المأساة العريضة التي تعيشها امرأة (لقيطة)، تقطن بأحد احياء العاصمة، هزني بعنف وأثار شهيتي الصحفية لمثل هذه القضايا (المغلقة) بغلاف سميك من السرية والكتمان.. اتصلت بها هاتفياً فارشدتني على عنوانها.. فانطلقت صباح الجمعة الماضية الى المنزل.. استقبلتني خارج المنزل مرحبة امرأة في نهاية الثلاثينيات، ولكن ملامح وجهها تنم عن انها أكبر من ذلك بكثير.. تعيش لوحدها مع طفلها وطفلتها الصغيرين.. داخل جزء صغير من منزل مؤجر يحتوي على غرفة واحدة وحوش صغير لا يتسع سوى لسريرين.. همت بالقيام بواجب الضيافة فطلبت منها الجلوس.. ومن ثم أمطرتها بوابل من الاسئلة والاستفسارات.. ومن خلال اجاباتها الصريحة والشجاعة تكونت قصة تصلح ان تكون سيناريو لمسلسل اجتماعي كشفت لي عن مأساتها ومأساة مئات (اللقيطات) اللائي يعانين لوحدهن في صمت خاصة عندما يكبرن فيتفاجأن انهن (مقطوعات من شجرة) لا أب ولا أم، ولا أهل ولا أزواج.. اللقيطة الشجاعة ترسل من خلال سردها لتفاصيل حياتها اشارات واضحة للمجتمع وتكشف حجم المعاناة والمأساة التي تحيط باللقطاء من الجنسين وما يتعرضون له من ويلات، واهانة، وذل من البعض الذين يقومون بتبنيهم.. فلندعها تحكي وتسرد التفاصيل الموجعة والمؤلمة بنفسها.. وبعد القراءة سوف تصابون بالدهشة والاستغراب والالم لفداحة الأحداث، ومأساوية التفاصيل.. ...... عندما تتزوج اللقيطة فكرة الزواج لم تخطر على بالي إطلاقاً، لكنني فعلتها غصبا عني، إذ كنت ارفض الزواج جملة وتفصيلا.. قد تتساءلون: كيف تزوجت؟ ومن ذاك الرجل الذي يقبل الزواج من «لقيطة» عثر عليها بأحد الأزقة، وتم إيداعها ملجأ اللقطاء، أو كما يسمونه الآن «دار مجهولي الأبوين»، أو «فاقدي السند».. فالتسمية لا تفرق معنا، ولا تعني لنا شيئاً نحن اللقطاء.. سمونا كما تشاءون: لقطاء، مجهولو أبوين، مجهولو نسب، فاقدو سند.. هذا لا يهم، المهم مصير هؤلاء الاطفال عند الكبر، ومحاولتنا الزواج وتكوين أسرة، وما يكتنف هذه الخطوة من مشاكل وتعقيدات لا يمكنكم تخيلها، خاصة إذا كان الزوج ليس لقيطاً، ومقطوعاً من شجرة مثلي، لا حسب، ولا نسب.. بل من عائلة معروفة لا غبار عليها.. هذا بالضبط ما حدث لي.. فدعوني أحكي لكم تفاصيل زواجي، او بعبارة أصح مأساة زواجي التي قلبت حياتي رأسا على عقب، رغم انها مقلوبة أصلا: «كان لدي صديقة مخلصة وعزيزة، وهي ليست لقيطة مثلي، بل تعيش مع أسرتها، وتعلم سري وحقيقتي وهي الإنسانة الوحيدة التي وقفت معي في مصيبتي، تعلقت بي واصبحت صديقتي وأهلي، وأختي، وأمي.. كانت تقطن مع عائلتها بأحد أحياء الخرطومالجنوبية تدعى «ن».. ذات مرة وأنا معها بمنزلهم، شاهدني شقيقها، فأعجب بي، وصارح شقيقته «صديقتي «ن» برغبته في الإقتران بي، فأخبرتني.. هنا إنتفضت وكأن تياراً كهربائياً صقعني، وقلت لها: * ألا تعرفين حقيقتي؟ وهل هناك رجل يقبل الزواج من فتاة «لقيطة»، مجهولة الاب والام، لا أهل لها ولا أقارب ولا تعرف حتى قبيلتها.. لا .. لا لن أقبل الزواج إطلاقا، سواء من شقيقك أو غيره، فهذا قدرنا نحن اللقيطات. *قالت لي صديقتي «ن»: أخبرته بحقيقتك ولا يزال مصمما على الزواج بك. * وعندما قابلته قلت له: نحن اللقيطات محرم علينا الزواج بأمر المجتمع.. أرجوك دعني لحالي وهمومي، فأنت تنحدر من أسرة معروفة، وبالطبع أهلك لن يباركوا مثل هذا الزواج، زواجك من لقيطة. إلا أنه كان عازماً على الإقتران بي على سنة الله ورسوله، لكنني كنت أرفض مجرد الحديث عن الموضوع.. (هنا إنسالت الدموع غزيرة من عينيها وأخذت تبكي وتنتحب، فتوقفت عن ملاحقتها بالاسئلة حتى هدأت، وجفت دموعها، ثم واصلت سرد مأساتها مع الزواج: بعد ذلك أخذت أتساءل بيني وبين نفسي: لماذا أرفض الزواج؟ هل كتب علينا نحن اللقيطات عدم الزواج، وإنجاب أبناء، وتكوين عائلاتنا الخاصة؟ أليس هذا حقنا كسائر الفتيات؟ ما ذنبنا إذا خرجنا لهذه الدنيا بخطيئة لم نرتكبها نحن ولا ذنب لنا فيها بل آبائنا وأمهاتنا «مجهولو الهوية» الذين لا نعرف عنهم شيئاً، بل أنهم تسببوا في هذه الثمرة الحرام، ثم قذفوا بنا في بحر متلاطم، عميق، من المحن والمآسي والويلات، والمحن!!! رفض وإصرار ولكن تحت إلحاح وإصرار شقيق صديقتي «ن» الذي قال لي ذات مرة أثناء محاولاته العديدة لإثنائي عن فكرة رفض الزواج، قال: «أعلم انك لقيطة، ولكن لا ذنب لك، أما أهلي فأنا كفيل بهم ولا تهمني معارضتهم الزواج، فأنا مصر على الزواج بك.. - قلت له: تكفيني المشاكل والمحن التي تحيط بي حالياً، ولا أرغب في المزيد، فدعوني من هذا الزواج.. أرجوكم.. وتحت إصراره وإلحاحه وافقت أخيراً على الزواج منه، رغم معارضة أهله الذين علموا بحقيقتي عن طريق بنات شقيقة أمي الثانية بالتبني، الذين قالوا لأهله: أنها لقيطة، عثر عليها في الشارع، وتعمل معنا خادمة بالمنزل».. ورغما عن تهديد أهله بمقاطعته إذا أصر على الزواج بي، إلا انه لم يأبه لذلك، واتخذ قراره الحاسم.. الزواج بي. أولى المشاكل والعقبات التي وقفت في طريق زواجنا، مشكلة «ولي الأمر» فتوجهنا للمحكمة الشرعية وقلت للقاضي: «أنا لقيطة» مقطوعة من شجرة.. لا أب، ولا ام، ولا أهل، ولا ولي أمر لا أعرف حتى قبيلتي التي انحدر منها.. وكان معي شقيق زوجي، بينما قاطع أهله عقد القران، وبما أنني بلا ولي أمر، كان وكيلي في عقد الزواج خالي «شقيق أمي الثانية بالتبني»، وتم العقد بالمحكمة الشرعية، وكان وكيل زوجي شقيقه، بجانب شاهد ثالث، وتم العقد داخل المحكمة أمام القاضي الشرعي بدون اي مراسيم للزواج. وفاة أمي بالتبني وفي اليوم التالي مباشرة لعقد الزواج توفيت أمي الثانية بالتبني بسكتة قلبية، وكانت تعاني من ضيق في الشرايين، وضغط الدم، ومكثت في منزلها قرابة الخمسة شهور بعد عقد القران، لم أذهب أو اختلى بزوجي طيلة تلك الشهور، رغم اننا متزوجان على سنة الله ورسوله بعدها حضر خالي «شقيق أمي الثانية بالتبني» والذي كان وكيلي في عقد الزواج فأخبرني قائلاً: سوف نقيم لك مأدبة غداء صغيرة لتكملة وإشهار الزواج.. وكانت المأدبة مختصرة، لم يحضرها أهل زوجي بالطبع.. بعدها إنتقلت مع زوجي في منزل إيجار باحد احياء جنوبالخرطوم.. وقامت بعض صديقات أمي الثانية بالتبني - رحمة الله عليها - بتأسيس المنزل، فاشتروا لي دولاباً، وثلاجة، وأواني منزلية للمطبخ ، وبوتجاز، وأنبوبة غاز، بينما أحضرت لي امرأة أخرى كراسي جلوس وتربيزة، وابنة اختها احضرت عدداً من الاسرة والمراتب.. واخيرا أصبحنا لوحدنا أنا وزوجي داخل عش الزوجية. وأنا أدخل المنزل لأول مرة مع زوجي إعتقدت ان كل المشاكل والمحن التي تعرضت لها منذ ولادتي، قد تلاشت تماماً.. إعتقدت إنني مقبلة على حياة وردية، وان زوجي سيكون لي زوجاً، وأباً وأهلاً.. لكن هيهات، فقد كنت متوهمة.. حاولت التواصل مع أهل زوجي، وقمت بزيارتهم بمنزلهم بعد الزواج، رغم مقاطعتهم لي ولشقيقهم، إلا انهم قابلوني بفظاظة كشخص غير مرغوب فيه، فتوقفت عن زيارتهم نهائيا، وأصبحت لا أعرف عنهم شيئاً. ملاحقة أهل الزوج بعد إنتقالي للعيش مع زوجي لوحدنا بمنزل إيجار بأحد الاحياء الجنوبية، لاحقني أهل زوجي ولم يتركونني لحالي، إذ أخذوا يحرضون زوجي: (أنت من أسرة كريمة، وود قبائل فكيف تتزوج وتعيش مع (لقيطة) لا أصل لها ولا فصل؟!!). كان زوجي ينقل إلى ما يقوله أهله عني، ورغما عن ذلك ظل متمسكاً بي.. وعندما حملت بطفلتي «...» لم يقف معي أحد طيلة فترة الحمل.. كنت وحيدة يا أستاذ «أخذت تبكي هنا».. وولدت بعملية قيصرية باحدي مستشفيات الخرطوم الحكومية، كان يرافقني زوجي وصديقتي الوفية التي حدثتكم عنها من قبل، وهي من أسرة كبيرة، وقفت معي وساندتني في كل محني.. ثم عدت للمنزل أحمل طفلة حلوة «شرعية» وليست «لقيطة».. سبحان الله.. كانت الدنيا لا تكاد تسعني من الفرح.. وأثناء فترة «النفاس» كنت وحدي أيضا، وأقوم بخدمة نفسي بنفسي بجانب خدمة طفلتي، وزوجي رغم انني مازلت في مرحلة ما بعد الولادة: ضعيفة، منهكة القوى ولكن ماذا أفعل ، فهذا قدري ان أخرج للحياة بدون أب ولا ام ولا أهل!!! كنت أعتقد أن ولادة طفلتي سوف تجعل زوجي أكثر قرباً وتمسكاً بي، ولكنني فوجئت بتغير معاملته لي بعد الولادة مباشرة، فأصبح يعاملني بقسوة، ولا يترك لي مصاريف رغم انني «نفساء» أحتاج باستمرار الى غذاء خاص، حتى هزل جسمي.. واشفقت علىَّ بعض النسوة من جاراتي، وكن لا يعرفن حقيقتي، حيث انني قلت لهم انني من الولايات ولا أهل لي بالخرطوم، وأسأل الله ان يغفر لي بسبب هذه «الكذبة البيضاء».. فأصبحن يقدمن لي اللبن، ومديدة البلح، والأطعمة. عاصفة قادمة وبعد ان أصبح عمر طفلتي «55» يوماً، طلب أهل زوجي ان يطلقني وإستلام الطفلة مني ليقوموا بتربيتها.. تصوروا مدى هذه القسوة، يريدون أخذ طفلتي مني.. وذات يوم قال لي زوجي: (أنا عايز ابنتي لتقوم بتربيتها والدتي، لأن ذلك أفضل لها من تربيتك، لأنك سوف تربيها تربية شوارع!!!).. حقيقة صدمني ما أفصح به زوجي وتيقنت وقتها انها أول خطوة في إنفصالي عن زوجي، لكوني أعلم ان أهله يملأون رأسه بهذه الأفكار.. وتأكد لي أنني مقدمة على عاصفة عاتية يمكن أن تطيح بحياتي وحياة طفلتي.. فقلت له: (لن أسلمك طفلتي.. فالقانون لا يعطيك لها). ومنذ تلك اللحظة إنقطع عن زيارتي ورؤية طفلته، وتوقف عن سداد إيجار المنزل «150» جنيهاً شهريا، فقامت صديقتي (الوفية) شقيقة زوجي بإخبار صديقه بما حدث بيننا، فذهب له ووبخه على تصرفاته معي، قائلاً: له أمام صديقتي: عندما وافقت على الزواج بها كنت تعلم انها «لقيطة» وليس لها أهل غيرك.. فلماذا تعاملها مثل هذه المعاملة دون سبب سوى أنها (لقيطة)؟.. فقال له زوجي: (سوف تعود حياتنا كما كانت، بشرط أن تذهب للسكن معي بمنزل الأسرة مع شقيقاتي). ورغم علمي ان موافقتي على هذا الشرط سوف يجعل من حياتي جحيما لا يطاق ، إلاّ انني وافقت، لم يكن أمامي حل آخر، إذا كان لدي أهل أو أقارب كنت سألجأ لهم، ولكن أنا وحيدة في هذه الدنيا، ليس لدي سوى الله سبحانه وتعالى.. فاستجبت مكرهة، وغادرنا منزل الإيجار، للسكن مع أهل زوجي بمنزلهم بأحد أحياء الخرطومالجنوبية، وليتني لم استجب لشرط زوجي وانتقل معه للعيش بمنزل أسرته. *ويتبع حوار وتصوير: التاج عثمان