** ما وعد به الرئيس لأهل السودان قبل نصف عام تقريبا هو تأسيس مفوضية لمكافحة الفساد، بحيث تكون جهازا مركزيا يتبع لرئاسة الجمهورية ،ولها من السلطات والقوانين ما ماهي قادرة على ردع المفسدين..ثم - فجأة كدة - تراجع الرئيس عن تلك الفكرة بقول فحواه: ليس هناك من داع لهذه المفوضية، فالأجهزة الشرطية والعدلية الموجودة تكفي لمكافحة الفساد..أي لم تعد مفوضية مركزية ذات سلطة وسطوة وقانون، وهكذا انتهى حدث مفوضية مكافحة الفساد والحديث عنها.. ولذلك حدث اليوم الذي يشير الي إنشاء ألية - برئاسة الدكتور الطيب أبوقناية - لمكافحة الفساد بحاجة الي توضيح أكثر وتفسير أعمق، قبل أن تحتفي بها الصحف وقبل أن تعلق الناس فيها آمالها.. أي بصراحة كدة يا ناس : (هذه الألية الوليدة ليست هي تلك المفوضية المنشودة )..فلاتفرحوا بها - وتصبحوا على ما فرحتم نادمين - مالم تتبينوا الخيط الأبيض لهذه الألية من خيطها الأسود، وهنا أعني سلطاتها وصلاحياتها ثم قانونها الذي يكسبها تلك السلطات والصلاحيات ..!! ** للمفوضية التي وعد الرئيس مسودة قانون أعدتها وصاغتها جامعة الخرطوم ولجنة خبراء.. وتلك المسودة بطرف السادة الذين تم ترشيحهم لقيادة المفوضية - ومنهم الطيب أبوقناية - منذ ثلاثة أشهر ونيف، ولم تتبق لها غير مرحلتي البرلمان والتوقيع الرئاسي بحيث تصبح قانونا..من أهم نصوص تلك المسودة، ما يلي نصا : ( هذا القانون يسمى بقانون المفوضية القومية لمكافحة الفساد، لسنة 2011، ويعمل به تاريخ التوقيع عليه)، هكذا يعرف مشروع قانون المفوضية - وليس الألية- قانون مكافحة الفساد..ثم يعرف الفساد بالنص التالي : ( يعرف الفساد بأنه هو استعمال الوظيفة الحكومية أو المنصب أو السلطة للمنفعة الخاصة، بمخالفة القانون أو بإستغلاله، أوبالرشوة أوبالإبتزاز أوبالنفوذ أو بالمحسوبية أو بالغش أو بتقديم إكراميات للتعجيل بالخدمات أو بالإختلاس أو بإساءة استعمال المال أو النفوذ في في عدم اتباع النظم والقواعد والأساليب مقابل مال أو خدمات، أوالإخلال بالمصلحة العامة لإكتساب امتيازات شخصية)، هكذا تعريف الفساد في مشروع قانون تلك المفوضية الملغية..!! ** وعليه، نسأل الألية الجديدة بكل شك وريبة وحسرة وأسف : أين مشروع قانونها الذي يكسبها مشروعية وجودها ونشاطها في هياكل الدولة ؟، ثم ما تعريفها للفساد؟..الألية الوليدة لاتملك أية إجابة، ولن تملك، لأنها ليست جهازا مؤسسيا كما تلك المفوضية ذات القانون، بل هي مجرد ( مكتب متابعة وتنسيق)..أي بالمصطلح الإعلامي ( مكتب علاقات عامة رئاسية)..وهذا التعريف ليس بحاجة الي تأكيد، فالتوجيه الرئاسي يؤكد ذلك : ( وجه الرئيس الألية بمتابعة كل ما ينشر ويبث عن الفساد في وسائل الإعلام والعمل على التنسيق بين الرئاسة ووزارة العدل والمجلس الوطني )، أي متابعة وتنسيق، وليس تشريع وتنفيذ، وهناك فرق..علما بأن مكافحة الفساد الحالي بحاجة الي تشريع قوي وتنفيذ أقوى، وليس الي (متابعة وتنسيق) وغيرها من التعريفات الهلامية المصاحبة لهذه الألية ..وتلك المفوضية الملغية - بوضعيتها القانونية الملغية تلك - كانت تحمل في ثنايا مهامها ( التشريع القوي والتنفيذ الأقوى)..!! ** على سبيل المثال، أي للمزيد من توضيح الفرق بين المفوضية الملغية والألية الوليدة، نقرأ من نصوص مسودة المفوضية الملغية، ما يلي نصا : (على الرغم من الأحكام المنظمة للحصانات الإجرائية في القوانين الأخرى، تخضع الفئات المذكورة أدناه لأحكام قانون المفوضية، وهم : رئيس الجمهورية ونوابه ومساعدوه ومستشاروه والعاملون بالمؤسسات التابعة لرئاسة الجمهورية، أعضاء البرلمان ومجالس الولايات، الوزراء الاتحاديون ووزراء الدولة والولاة والوزراء الولائيون، أعضاء السلطة القضائية والمستشارون بوزارة العدل، العاملون بالوحدات العسكرية بمختلف درجاتهم ورتبهم، رؤوساء واعضاء ومديرين الهيئات والمؤسسات والبنوك بلا إستثناء )، هكذا تحطم مسودة قانون المفوضية الملغية العائق المسمى بالحصانة، بحيث تخضعهم جميعا - بمنهم الرئيس ونوابه - لحق المساءلة والمحاسبة، أي كما الحال في كل الدول الديمقراطية التي أنظمتها تحترم شعوبها وتحافظ على المال العام ..هل هذه الألية الوليدة تستطيع فعل ذلك، بحيث تحاسب الرئيس ونوابه ثم الوزراء ؟.. طبعا (لا، ولا نأمل في ذلك )، لأنها لاتملك السلطة المحمية بالقانون ولاتملك الشرعية الراسخة بالقانون، هي مجرد ( مكتب متابعة وتنسيق)، أي مهامها - كما مهام كل مكاتب العلاقات العامة بكل مؤسسات الدولة - لاتتجاوز حد الإطلاع على الصحف ثم تلخيص ما فيها من قضايا الفساد وارسال الملخص للجهة الفاسدة ووزارة العدل، بلسان حال قائل ( كدى شوفوا الحاصل شنو فى الموضوع ده) ..هل ما يوثقها المراجع العام وتكتبها الصحف بحاجة الي متابعة وتنسيق أم بحاجة الي نيابة ومحكمة ؟، هذا إن كنتم صادقين.. فالمفوضية، حسب مسودتها قانونها، كانت بمثابة (نيابة ومحكمة)، وبسلطات شاملة لاتعترف حتى بما يسمونها بالحصانة، أي كما الجهاز المركزي بأثيوبيا (القريبة دي )..وعليه، الألية لغة يا ناس - وأنا زول رطاني ساكت - تعني وسيلة، والبلاد فعلا بحاجة إلى وسيلة ناجعة لمكافحة الفساد، ومكتب متابعة وتنسيق - ولو كان رئاسيا - ليس بوسيلة ناجعة، بل هي محض وظيفة للطيب أبو قناية ..وعليه، نسأل بكل شك وريبة : ما الذي يمنع بأن تكون تلك المفوضية الموعودة- بقانونها الصارم ذاك - هي الوسيلة الناجعة لمكافحة الفساد؟..والإجابة قد تكشف بأن الفساد لايكافح ذاته، وكذلك ( الماسك القلم ما بيكتب نفسو فاسد)، او هكذا لسان حال الإرادة السياسية ..!! الطاهر ساتى [email protected] نقلا عن السوداني