الشعرهو القوة التي لا ترتهن إلى ثبوت الأشياء، وهو السعي الحثيث إلى تجاوز المألوف، شكله يتأتى من جموح اللغة لتبديدها نسقها القار، ولهذا فإن الشاعر أداة من ألم تنتج شكل الحياة؛ و لو على مضض، الشاعر يرهقه كلا الأمرين: الشعر والحياة، فالشاعر يسقط بعد أن يبدد حياته بالشعر، أو بعد أن يبدد الشعر حياته . محمد الماغوط من الذين أرهقهم الشعر وحلم التغيير فطال انتظاره إلى أن مضى إلى العالم الآخر... مخلفا شعرا يتنازع الحياة وسكونها الرتيب.... انتظر الماغوط ثورة ضلت طريقها لتصل إليه، ومع ذلك لمس بعضا من أثرها؛ كمن يرى ضوءاً في نهاية الأفق،هكذا تخبرنا قصيدته التي تحمل عنوان ' كل العيون نحو الأفق' ضمن مجموعة ' الفرح ليس مهنتي'. قصيدة الماغوط تحتفي بالتنبؤ والترقب المتعلق بالأفق، والذي يحيل بدوره إلى المستقبل، وهو منفتح الدلالة والمدى من حيث التقدير الزمني، إذ ربما يبتعد الأفق ليستغرق سنوات، وربما عقودا أو قرونا، ولهذا فإن مفردة 'الأفق' تعني الاتساع في الزمن المجهول، غير أن خلف الانتظار وبمحاذاته شيئا من الأمل، مع كل ما ترتهنه اللحظة الحاضرة من جمود وخيبة. يبدأ محمد الماغوط قصيدته بحشد أفعال تهيؤ وترقب واحتفال، كلها تشي بحالة إنسان ينتظر معشوقته التي ربما لا تأتي، ولكنه مع ذلك يحمل أملا عصيا على التفسير بأن هذه المعشوقة قادمة لهذا اللقاء مهما طال الزمن والانتظار، هذه المعشوقة هي الثورة التي ينتظرها الماغوط ضمن بناء مشهدي يقارب الحالة الكاريكاتورية لفعل الانتظار الممزوج بحالة كوميدية سوداء، تحمل شيئا من سخرية الانتظار أو التعلق بحلم القدوم المتوقع والمنتظر للثورة ( المعشوقة ( يقول الماغوط في المقطع الأول من قصيدته : مذ كانت رائحة الخبز شهية كالورد كرائحة الوطن على ثياب المسافرين وأنا أسرح شعري كل صباح وأرتدي أجمل ثيابي وأهرع كالعاشق في موعده الأول لانتظارها لانتظار الثورة التي يبست قدماي في انتظارها ( ص 193( تتخذ الصورة مكوناتها من الفعل الحركي المشهدي القائم على توظيف الأفعال التي تسبق بدلالة زمنية تتسم بتعميق الفعل الانتظاري الموشى بنزعة حميمية لطبيعة التكوين البشري، والمتعالق بالرغبة في الحياة ضمن فناء الوطن، فالخبز هو الرمز الحياتي للإنسان، والسفر هو الفعل الذي يتم من خلاله سلخ الإنسان عن وطنه بحثا عن لقمة الخبز، ومع ذلك يبقى الوطن رائحة تعلق بثياب المسافرين. تتبدى الثورة في القصيدة فعلا مرغوبا مشتهى، ينتظرها الماغوط كل يوم بعد أن يستعد للقائها، غير أنها لا تأتي أو تتأخر، ويطول انتظار الماغوط حتى تتيبس القدمان، إلا أن هنالك شيئا ما يقبع وراء اللغة، إذ تحمل القصيدة كلاما غير مرقوم أو منطوق، ويتمثل ذلك بالأمل الدفين في ما وراء الوعي بأن الثورة قادمة، وهنا يبدو سعي الإنسان في مصيره الأرضي المؤلم بأن الخلاص يتجسد بشكل من الأمل يعلل لبقاء الحياة تطابقا مع مقولة الشاعر الطغرائي: أعلل النفس بالآمال أرقبها ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل غير أن هذا الانتظار ترك الحالمين وقد تيبست أقدامهم في انتظار ثورة .... مع أن تيبس القدمين ربما يحمل شكلا من أشكال اليأس، إلا أنه من الناحية الأخرى يحملا دلالة الإصرار والعناد على البقاء و الانتظار تأسيا بالشجر الذي ييبس غير أنه يبقى واقفا. في المقطع الثاني يقدم الماغوط صورة لفرحه المبالغ بقدوم الثورة- إذا ما أتت- ولهذا فإنه حريص على المحافظة على أسنانه كي يطلق زغاريد الفرح، ومن ثم يرتمي بحضنها ( أي الثورة) شاكيا لها ما عاناه من الجوع والإرهاب، ولعل هذا التكوين لصورة الثورة، وفرح الشاعر بها عند انطلاق أول رصاصة من رصاصتها يأتي تتويجا للفرح والاستبشار بما تحمله الثورة من تغيير، يقول الماغوط : من أجلها أحصي أسناني كالصيرفي أداعبها كالعازف قبل فتح الستار بمجرد أن أراها وألمح سوطا من سياطها أو رصاصة من رصاصاتها سأضع يدي حول فمي وأزغرد كالنساء المحترفات سأرتمي على صدرها كالطفل المذعور وأشكو لها كم عذبني الجوع وأذلني الإرهاب ( ص 194( وتتخذ فرحة الشاعر بالثورة المنتظرة شكلا متطرفا، فهو يرغب في أخذها للحواري الضيقة، كي يروي لها كل شيء حتى تنعس وتنام مثل الجدة...إن الرغبة في الحديث وسرد كل شيء، يحمل نوعا من الرغبة في البوح والتنفيس نتيجة للقمع والألم الساكن والمختزن في الكائن العربي منذ زمن بعيد، هذا التكون للنص الذي يتسم بحالة مشهدية حركية تتواتر فيما بعد على عجل، كما يتبين لنا، فالقصيدة بنيت على ثلاثة مقاطع تبتدئ من الانتظار أولا، ومن ثم إلى تخيل لحظة اللقاء ثانيا، و أخيرا لحظة مخالفة المتوقع من خلال استخدام كلمة 'لكن' التي تمثل نقطة تحول لغوية، أو مفصلا ثنائيا يجمع بين التصاعد و التهاوي في حال غياب الثورة، أو عدم قدومها. يقول الشاعر: وفي المساء سآخذها إلى الحواري الضيقة والريف المصدور سأجلس وإياها تحت مصابيح الشارع وأروي لها كل شيء بفمي وأصابعي وعيني ّ حتى يدب النعاس في أجفانها / وتغفو رويدا رويدا / كالجدة أمام الموقدة ولكن إذا لم تأتِ سأعضّ على شراييني كالمراهق سأمد عنقي على مداه كشحرور في ذروة صداحه وأطلب من الله أن يبيد هذه الأمة ( ص 194( في السطور الأخيرة نشهد تصادم كونين يمتثلان لفكرة الأمل وفقدان الأمل، ولهذا فإن الشاعر يرى أن عدم تحقق الثورة يستدعي دعاء إلى الله - سبحانه وتعالى - بأن يبيد هذه الأمة، وهو مما يدخل في فقدان الأمل، ومن هذا المنطلق نعثر على دعوة مضمرة تقوم على الأمل بالإنسان والأمة التي يجب عليها أن تضطلع بمهمة الثورة، فالشاعر هنا يمتلك شكلا من التنبؤ بثورة تقودها الشعوب، وإن لم تكن الثورة، فإن هذه الأمة جديرة بالفناء والتلاشي كونها غير قادرة على أن تقود مصيرها بيدها. وبذلك تمتلك هذه القصيدة ناحية من التأمل بقدرة الشاعر على أن يحلم وأن يأمل وأن يثور وأن يغضب في سعيه نحو التغيير، ولعل تعبير الماغوط عن مشهدية انتظار الثورة يتطلب منا لحظة من التخيل لاستحضار الشاعر من غيابه كي يشهد الثورة الني انتظرها، وقد عمت أرجاء الوطن العربي وهذا من شأنه أن يكمل هنا أن الأفق الذي تطلع له الماغوط (الغائب) بشيء من اليأس والقنوط المشوب بأمل مرجأ قد انتصر بالأمل على ضآلته على اليأس، فالناموس الكوني قائم على التغيير لاسيما حين يكون الواقع مأزوما حيث أن فسح الأمل تبقى واقعة ومبررة وقائمة . مما لا شك فيه أن الماغوط كان حالما إلى درجة المرض، وكانت اللغة أداته الوحيدة التي يقرأ فيها وبها الحياة بغية تغيير ما فيها، ولعل الحياة قد هزمت الماغوط حين جعلته يرحل دون أن يرى ثورات التغيير، وهكذا فالحياة هزمت الشاعر وبددت كيانا فيزيائيا إلا أن الشاعر قد غير الحياة بالشعر المتنبئ بثورة، فالشاعر قادر على أن يصنع للحياة شكلها الجديد، وبين هذين التجاذبين بين الشعر والحياة، وإرادة التغيير يمضي الشعراء حائرين مهمشين بين الثنايا، مدحورين بالحلم والأمل إلى حد الانتصار، فهناك دوما من يأتي أحيانا ويستل من الحياة لغة الأمل المنتظر ... لو كان الماغوط موجودا في زمن الثورات العربية فهل تتخذ لغته وقصيدته شكلا وتعبيرا آخر عن الحياة حيث تتخلص من نبرة القنوط من هذه الأمة بالتغيير... إلى الدعاء لها لا الدعاء عليها ... ؟! القدس العربي