أثناء السفر شمالاً عبر الحدود من جنوب السودان إلى ولاية جنوب كردفان السودانية التي تعاني من ويلات الحرب، يتغير المشهد فجأة من المستنقعات والمراعي الموسمية إلى السفوح الخصبة لجبال النوبة، التي ترتفع بشكل متناسق فوق السهول. وفوق كل تل تجلس قرية مكونة من مجموعات من الأكواخ المقامة على الهضبات الصخرية. وفي قرية دار الغلابة، إحدى هذه التجمعات القروية، تتجمع النساء في أثوابهن زاهية الألوان حول مضخة المياه المشتركة، تتجاذبن أطراف الحديث والقيل والقال في مشهد نمطي متكرر في المناطق الريفية في جميع أنحاء أفريقيا. ولكن عند إلقاء نظرة ثاقبة، نجد أن كل منزل من هذه المنازل يفتقر لسقف يغطيه بعد أن تم حرق معظم مناطق القرية، كما نلاحظ بقايا فوارغ الرصاص والذخائر غير المنفجرة وعدة دبابات مدمرة تتناثر هنا وهناك في تلك المنطقة. ومن الجدير بالذكر أن 400,000 شخص قد نزحوا منذ اندلاع القتال بين القوات المسلحة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان - قطاع الشمال في يونيو 2011، قبل أن يمتد في وقت لاحق إلى ولاية النيل الأزرق المجاورة. وتقول نساء دار أنهن استفدن من فترة الهدوء التي أعقبت استيلاء الحركة الشعبية لتحرير السودان - قطاع الشمال على قريتهن في الآونة الأخيرة لينزلن من الكهوف التي كن قد لجأن إليها لجلب الماء ومحاولة إنقاذ بعض من ممتلكاتهن من بيوتهن المدمرة. وخلال زيارة شبكة الأنباء الإنسانية (إيرين) إلى قرية دار، تسبب الهدير المتزايد لطائرة انتونوف كانت تقترب من المكان بتصاعد الشعور بانعدام الأمن، مما دفع السكان إلى الفرار للاحتماء والنجاة بحياتهم. ولكن الطائرة مرت بسلام هذه المرة، وأسقطت قنابلها البدائية في مكان آخر، مخلفة ورائها سحباً كبيرة من الدخان المتصاعد في الأفق. وقد علق مبارك أحمد، من جمعية شباب النوبة، على الحادثة قائلاً أن "هذا هو السبب الذي جعل الناس يعانون من الجوع. فالكل يشعر بالرعب من جراء القصف ولا يستطيع أحد زرع أو رعاية محاصيله". ويعيش أكثر من مليون شخص الآن في المناطق التي يسيطر عليها المتمردون، وهم معزولون عن العالم الخارجي، كما كان الحال أثناء الحرب الأهلية التي استمرت خلال الفترة من 1983 إلى 2005، عندما ساند العديد من سكان ولاية جنوب كردفان المتمردين الجنوبيين. الوقت يوشك على النفاذ وحيث أن موسم الأمطار سيبدأ في غضون أسابيع قليلة، تحذر الوكالات الإنسانية من قرب نفاذ الوقت المتاح لجلب الإمدادات المنقذة للحياة. ويقول مسؤولون محليون أن النزاع قد ألحق أضراراً شديدة بالإنتاج الزراعي، ويقدرون ألا يتجاوز موسم الحصاد المقبل 20 بالمائة فقط من المعدل الاعتيادي للإنتاج، مما يعني أن معظم السكان سيعتمدون على المساعدات الخارجية. كما يحذرون من أن عدم جلب الإمدادات الضرورية في غضون الأسابيع القليلة المقبلة، سيجعل من المستحيل عملياً توزيع مواد الإغاثة بعد بداية موسم الأمطار، وهو الوقت الذي يبلغ فيه موسم الجوع السنوي الذي يسبق الحصاد ذروته. وقد تمكنت نسبة ضئيلة من السكان المتضررين من الحرب من عبور الحدود الجديدة إلى جنوب السودان، ولكن حتى هناك لا يجد اللاجئون سوى القليل من الأمان. لقد أصبح مخيم ييدا للاجئين الواقع على مقربة من الحدود موطناً لأكثر من 20,000 لاجئ نوبي، ولكنه مليئ بالخنادق التي حفرها المدنيون المذعورون في التراب الأحمر أملاً في توفير الحماية من الغارات الجوية التي تُشن عبر الحدود. وكانت طفلة في التاسعة من عمرها قد تعرضت لكسر أثناء قفزها في أحد الملاجئ بحثاً عن ملاذ من إحدى الغارات الجوية المتعددة، وهي خنادق تم حفرها في أماكن غير مناسبة حول مخيمات اللاجئين التي يفترض أنها آمنة. كما روت إمرأة مسنة ضعيفة، تكافح لرعاية خمسة أحفاد مصابين بصدمات نفسية واضحة، كيف أنهم اضطروا إلى الفرار من قريتهم في جبال النوبة، بعد مقتل والديهم في إحدى الغارات. وأفادت إمرأة مسنة أخرى مصابة بكسر في الضلوع أنها تعرضت للضرب من قبل الجنود بعد القبض عليها للاشتباه في محاولتها الفرار إلى مناطق يسيطر عليها المتمردون. وتحاول وكالات المعونة الدولية نقل اللاجئين من ييدا، التي تعرضت للقصف في نوفمبر الماضي، إلى موقع جديد يقع على بعد حوالي 70 كيلومتراً في اتجاه الجنوب. وعلى الرغم من عودة اندلاع الحرب من جديد في جبال النوبة في يونيو 2011، أنهت بعثة الأممالمتحدة في السودان (UNMIS) عملياتها عندما حصل جنوب السودان على استقلاله في الشهر التالي، وأصبح عملها يقتصر على الدولة الجديدة فقط، ولا يشمل السودان. هل تخلت عنهم الأممالمتحدة؟ يشكو الناس في كل مكان من تخلي الأممالمتحدة عنهم أثناء تعرضهم لهجوم من قبل حكومتهم، و يتساءلون لماذا يتركهم المجتمع الدولي تحت سيطرة أشخاص متهمين بارتكاب جرائم حرب. من الجدير بالذكر أن أحمد محمد هارون، الذي أعلن فوزه في انتخابات حاكم الولاية المطعون في صحتها في مايو 2011، مطلوب من قبل المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب يُزعم أنه ارتكبها في دارفور. وفي شهر فبراير الماضي، أعدت الأممالمتحدة والاتحاد الأفريقي وجامعة الدول العربية خطة لتقديم المساعدات الانسانية إلى المنطقة، ولكن الخرطوم لم تصادق عليها بعد. ومن المتوقع أن يقوم الرئيس عمر البشير بزيارة إلى جنوب السودان خلال الأسابيع المقبلة لوضع اللمسات الأخيرة في هذه القضية وغيرها من المسائل المعلقة، بما في ذلك مسألة عائدات النفط والتوصل إلى اتفاق إطار جديد حول قضايا المواطنة والحدود. ومن جانبه، قام موكيش كابيلا، الذي ترأس عمليات الأممالمتحدة في السودان في عامي 2003 و 2004 ويعمل حالياً في ايجيس تراست (Aegis Trust)، وهي مجموعة تنظم حملات ضد الإبادة الجماعية وجرائم الحرب، بزيارة إلى جنوب كردفان في الآونة الأخيرة. وصرح خلالها بقوله، أنه أثناء عمله مع الأممالمتحدة في السودان، "رأيت ما كان يفعله عنف الإبادة الجماعية في دارفور. وعندما قمت بتحذير العالم تم تجاهل تحذيراتي حتى فات الأوان...وحسب ما شاهدته في جبال النوبة، أخشى أن يتكرر نفس السيناريو تقريباً هناك، ولكن هل سيستمع العالم هذه المرة؟"