هذه دعوة لقراءه منطقية علمية لتاريخنا السياسى حتى لايتوه القراء كثيراً فى التخمين والتفكير لحل رموز عنوان هذا المقال والذى يبدو مثل "كلام الطير فى الباقير", وهى دعوة للدراسة والتحليل العلمى لأحداثه لإستخلاص نتائج موضوعية تفيدنا فى بناء مستقبل الوطن, والذى نتفق جميعاً على أن يكون ديموقراطياً تحكمه المؤسسات السياسية وليس حكومات "عمّه وجلابية أو بالمارشات العسكرية" . فالتاريخ هو أساس الحاضروالمستقبل, وماحيرتنا وإرتباكنا بشأن مستقبل الوطن ومصيره إلا لضعف التوثيق لدراسة تاريخنا السياسى, ومشكلة التوثيق عندنا تكمن فى التناقض الذى يحكم وضع الأولويات فى مفهومنا للمحافظة على التجارب فى ذاكرة التاريخ, فمثلاً عندما يكون الحديث عن التقاليد والعادات نبرر للحفاظ عليها بمقولة "من نسى قديمه تاه" ولكن عندما يكون الحديث عن تجاربنا السياسية نتحاشى المنطق والعلمية فى الحكم عليها بمقولة "الفات مات والمضى لايعاد", أما إذا تغيرت الحكومة على طريقة (حكومة ديموقراطية-حكومة عسكرية وبالعكس) فقد أثبتت تجاربنا عجز الحكومة الحاكمة عن محاكمة الحكومة السابقة على سياستها الخاطئة عملاً بمقولة "عفا الله عما سلف", بينما تعمل الحكومة الحاكمة فى عقلها الباطن بمقولة "التسوى كريت فى القرض تلقى فى جلدها" , ولو أمعنا النظر وأعملنا العقل نجد إن مايشجع الحكومات على هذا السلوك هو ضعف ذاكرتنا وإغفالنا لأهمية التوثيق, وفى هذا الصدد أبعث بالتحية والإجلال لمن تنبهوا لهذه المسألة وبدأوا بالتوثيق لممارسات هذا النظام, فقد كان من أسباب العجزفى الماضى عن محاكمة الأنظمة السابقة بطريقة تشفى القلوب من الغضب عدم التوثيق, فمن أين لهم بالدليل على من إدعى والبينة على من أنكر فى مجال القانون دون سند أو مستند. إن إهمال تجاربنا السياسية السابقة من ناحية التوثيق والدراسة والتحليل العلمى لها لايمكن وصفه إلا بأنه جريمة شنعاء فى حق الأجيال, والتهرب من التوثيق لها لايلغى حقيقة أنها جزء من تاريخنا وإن كان لايدعو للمفخرة أو حتى مخزياً, فالداعى لطرح هذه الدعوة هو الإبتعاد أولاً على الإعتماد على تلقى التجارب السياسية عبر التلقين الشفاهى على طريقة الأحاجى السودانية, والتى تقود المتلقى الى الوصول لأحكام حول تلك التجارب تتأثر برؤية القاص وفهمه لها وطريقة سرده لها, وهى طريقة قاصرة عن تمليك كل الحقائق للمتلقى لأنها تعتمد فى الأساس على ذاكرة المتحدث وتفاعله مع الأحداث وعلى درجة موضوعيته فى طرحها, ومن قصور هذه الممارسة على سبيل المثال لا الحصر أن تكرار نفس طريقة السرد من عدة أشخاص يكسبها مصداقية دون تحليل أو دراسة, بالرغم من أن السرد فى حد ذاته قد يفتقر الى الترابط فى الأحداث ناهيك عن البتر والإضافة, والتى تمارس إما لإثبات سوء ممارسات سياسى معين أو لتمجيده دون وجه حق فى ذلك, وهذه عملية إغتيال أو تصعيد سياسى للأحداث والسياسيين والتجارب السياسية عموماً ودون رقيب علمى, وهذا القصور يقود الى إطلاق أحكام جماعية تتصف بالعمومية والإطلاق على تجاربنا السياسية السابقة بأنها فاشلة تماماً ولا شئ فيها يمكن أن نستفيد منه, ونأتى تارة ولغياب العلمية فى الأحكام نتباكى على عهد مضى, فكم تباكينا على الحرية تحت ظل الديموقراطية على علاتها؟ وكم تنفسنا الصعداء لسماع المارشات العسكرية تبث من الإذاعة منذرة بقدوم الأحذية الثقيلة للسلطة لتنهى الفوضى السياسية للديموقراطية, وكم تباكينا على حكم عسكرى أسقطناه لنقارنه سماحةً وكرماً بأنه كان أفضل من الذى نكتوى بناره اللحظة؟ وما هكذا نطور النظم السياسية يا أيها الشعب الكريم, فمن أخطاء الماضى يكون الحاضر ويبنى المستقبل. أن نعيش الأحداث ونتأثر بها شئ وأن نوثق لها لحمايتها من قصور الذاكرة شئ آخر, وأن نعتمد على النقل الشفاهى ونحن أحفاد حضارة وثق لها أجدادنا قبل آلاف السنين بالعمارة والكتابة والرسم, بل وكانوا أول من إبتدع أبجدية وليس هيروغلوفية للكتابة والتوثيق, فالنقل الشفاهى فى عصرنا هذا لايؤدى الى شئ سوى الى النسيان والتخبط, وهذا يقود الى تكرار التجارب المجربة والوصول بها الى نتائج أكثر فداحة فى أخطائها من سابقتها, وسجل تاريخنا السياسى به دلائل واضحة على ثلاثة ديموقراطيات جامدة فى تفكيرها السياسى, عاجزة عن تطوير مؤسساتها, غافلة عن التغيير الإجتماعى والإقتصادى, فأنتجت الفوضى السياسية وخيبة الرجاء فى ساستها, وثلاثة نظم عسكرية تبارت فى دكتاتوريتها فأبدعت فى تطوير أجهزة قهرها وسلطانها, لا لشئ سوى للتعويض عن فاقد الشرعية والقبول من شعبها ولحل حسابات معادلة البقاء فى السلطة لوجود معامل الثورات لخلعها, وهو معامل ثابت فى حساب معادلة قلقلة إستقرار أى حكومة فاشلة. إن مصيبة ضعف بل وإهمال التوثيق فى سوداننا الحبيب هى كارثة الكوارث وأم كبائر أخطاءنا, وللتدليل على ذلك دعونا نلقى نظرة خاطفة على مقررات مادة التاريخ التى درست فى المراحل المدرسية المختلفة منذ أن نلنا إستقلالنا السياسى وحتى اليوم, ألم تتقهقر هذه المادة من حيث المضمون والمحتوى فى مسيرة الإهمال وعدم الأهمية؟؟ ويكفى فقط كمثال لاغير أنه فى ذات يوم وقع فيه بصرى على كتاب تاريخ مدرسى كان يدرس فى الماضى القريب جداً على الأذهان, يروى فيه عن تاريخ الملك بعانخى وتختصر سيرته وإنجازاته فى أقل من صفحة, وسيرة بعانخى وإنجازاته تملأ البصر والوجدان فخراً للإنسانية جمعاء فى متاحف عواصم العالم المتحضر, وقد بدأ الإهمال لمادة التاريخ ومع سبق الإصرار والترصد بها عندما قرر نظام مايو تقسيم المرحلة الثانوية العليا الى شقين علمى وأدبى, وتم إعفاء القسم العلمى من مادتى التاريخ والجغرافيا بحجة التركيز على المواد العلمية وإدخار زمن التلميذ لدرسها وتحصيلها, فهل تبرر هذه الحجة للجهل بتاريخ وجغرافية السودان من ناحية تربوية بحته؟ وهل نحن دولة صناعية رائدة حتى يتخصص تلاميذ المرحلة الثانوية فى علوم الفيزياء والأحياء والكيمياء؟ وهل نجح القسم العلمى وبكل إحترام لخريجيه فى أن يخرج لنا مدام كورى جديدة أو البرت أينشتاين سودانى؟؟ بل أولسنا أحفاد حضارة إنسانية عمرها آلاف السنين وتمتلئ متاحف العالم المتحضر بأثارها ومقتنياتها؟؟ فأنظر متى تأسست مصلحة الأثار, ومتى تم إنشاء قسم بكلية آداب جامعة الخرطوم لدراستها؟؟ بل أرجع البصر كرتين الى متحف السودان القومى!!!! ولست هنا بصدد التركيز فقط على مقررات مادة التاريخ فى المدارس وحدها, فعلى سبيل مثال آخر دعونا نركز على تاريخنا السياسى منذ قيام الحركات الوطنية ضد الإستعماروحتى قيام الحكومات الوطنية, فإن أول ما سيواجهنا لدراسة وتحليل هذه الحقبة من تاريخنا هو مشكلة التوثيق, بل سيكتشف الباحث أن السودانى الوحيد الذى نذر حياته لتوثيق تلك الحقبة فى العديد من المؤلفات هو طيب الذكر البروفسور محمد عمر بشير رحمة الله عليه بعدد الكلمات فى كتبه ومقالاته, فكتبه من أهم المراجع للباحثين فى الشأن السودانى, وأثبت بحق أنه أب التوثيق فى وطنى فليجعل الله قبره نوراً بما أضاء به عقولنا من نور المعرفة لتلك الحقبة, ولو إنتقلنا للحديث عن نظام مايو على علاته وأخطائه بإعتبار أنه ولايزال يمثل حقبة سياسية أدت الى قلب كيان السودان السياسى والإجتماعى والإقتصادى ونتائج ذلك نعيشها الى يومنا هذا فى وجود هذا النظام الحاكم, حيث أن هذا النظام يمثل إمتداداً طبيعياً لمايو مابعد المصالحة الوطنية, وهنا نأتى مرة أخرى لقضية التوثيق ونقف عند موثق سودانى آخر وهو الدكتور منصور خالد وهو المقصود فى عنوان هذا المقال, ورغم إختلاف أو إتفاق الأراء حول سيرته السياسية, علينا أن نتفق على حقيقة واحدة بشأنه وهى أنه من أقدر من وثق لنظام مايو فى مؤلفاته العديدة, ليس لأنه فقط كان من وزارئها فكم من وزير كان فى عهد مايو؟ بل كم من وزير إستوزر علينا ولم يترك صفحة واحدة توثق للنظام الذى خدمه وللتجربة التى كان هو جزءً منها للأجيال من بعده؟ فما أود قوله فى هذا الصدد هو لندع الأحكام التى أطلقت على سيرة د. منصور السياسية جانباً فلا أحد مطالب بأن يحبه أو يكرهه حتى يقرأ أو لا يقرأ مؤلفاته, ولكن لمعرفة حقائق ذلك النظام , والذى هو جزء هام من تاريخنا السياسى, نحن مطالبون بقرءاة مؤلفاته, وذلك لمعرفة بواطن نظام حَكَم السودان ستة عشرة عاماً, إنلقب على الديموقراطية إنتصاراً لمطالب ثوار أكتوبر كما إدعى, وليحقق للقوى الحديثة آمالها وتطلعاتها الى دولة المؤسسات الدستورية, ونجح فى إنهاء أطول حرب أهلية فى القارة الأفريقية, وناصبته القوى التقليدية العداء وحاربته حتى تصالح معها على حساب السلام فى الجنوب ودعم القوى الحديثة, فإنتهى به الحال والسودان معه الى النفق المظلم. فإذا كنا حقاً بصدد إسقاط النظام الحالى لأننا نتطلع الى وطن يسع الجميع, وبديل ديموقراطى يقود الوطن نحو التقدم, ودستور يعيد للمواطن آدميته ويحفظ له حقه فى العيش الكريم, علينا أن نعلم ونعى بأن التقدم لايأتى من فراغ ولا يبنى فى فراغ فهو يحتاج الى أساس, والأساس هو تجاربنا السابقة, وهذه ليست دعوة لتجريب المجرب ولكن لتطوير وتعديل مايمكن الإفادة منه, إذ لايجدى نفعاً تجاهل تجاربنا السابقة أو رفضها دون دراسة وتمحيص فهى تجارب باقية فى تاريخنا السياسى مهما كانت فاشلة أو خاطئة إن رضينا أم أبينا, فهل تاريخنا السياسى بأسوأ من تاريخ ألمانيا فى عهد النازية على سبيل المثال؟ وهل تخلت ألمانيا عن نظام حكمها الديموقراطى والذى جاء بهتلر عبر صناديق إقتراعه بعد سقوط هتلر النازى؟ لا بل أبقت ألمانيا على نظام حكمها الديموقراطى وغيرت قانون الإنتخابات بما لايسمح لحزب تحقيق أغلبية ساحقة لتفادى ديكتاتورية الحزب المنفرد بالسلطة والذى أتى يوماً بهتلر حتى لايظهر فى ألمانيا هتلر آخر, وهكذا تعقل أو تعقر الإبل يامؤمنين. فالدول التى تحكم بأنظمة ديموقراطية فى عالم اليوم لم تشتر الديموقراطية من متجر ولم تقم بتصنيعها فى مصنع حتى تصدرها كسلعة للعالم تساهم فى مدخلات ناتجها القومى, لأنها عملية سياسية تسيرها وتطورها متطلبات وتطلعات المجتمع بما يحقق رفاهيته ورخائه, وهى نشأت عبر تناقضاته وصراعاته, وعبر تجارب ونضال طويل من أجلها, إمتلأت به كتب التاريخ للأجيال لتقرأ وتدرس وليفكر فيه ذوى الألباب. وأخيراً فإن قراءة ودراسة تجاربنا وتجارب الأخرين السياسية تفتح عقولنا وتنورها بالعلم والمعرفه والوعى السياسى المبنى على العلم وليس التلقين, فإن لم نكن من محترفى السياسة فهى ثقافة لنا تعيننا عند الحديث عن السياسة أن ندلى برأينا من موقع علم ومعرفة بالحقائق وليس ترديداً أجوف وهذا أضعف الإيمان, وهى أى القراءة والدراسة للتجارب السابقة تساعدنا فى إختصار الوقت والجهد فى طريق المسيرة نحو الديموقراطية الذى سارته فى قرون مجتمعات قبلنا, فبالعلم والمعرفة تبدأ نقطة البداية السليمة لإيجاد البديل لنا, فعلينا بتجهيزه وإعداده بوعى وإدراك لما نحن فاعلون, قبل شراء سرج الثورة بالغالى ونفيس ليمتطى عليه جاهل فاسق فيقودنا الى الغبن وبئس المصيرفى أسفل سافلين, وآخر قولى مثلما قلت أولاً إقرأوا مؤلفات د. منصور فهى ليست قصص عاطفية مع نظام مايو ولكنها حقائق سياسية للتاريخ... [email protected]