يخبرنا أطفالنا أحياناً قصصاً عن أصدقاء غير موجودين أو عن سيناريوهات غير معقولة. فهل يجب أن تقلقي حيال هذا الموضوع أم أن تستمتعي به؟ يعود الخبراء إلى المخيلة والمعنى الذي يخفيه نسجها للقصص. أمل فتاة في الخامسة من عمرها، تحب أخاها الأكبر منير الذي يصطحبها من المدرسة بعد خروجه من المدرسة الثانوية، ويساعدها في لعبة تركيب الصور ويدافع عنها إذا أزعجها الصبيان. فعلاً، منير مثال الأخ الأكبر. لكن المشكلة تكمن في أن أمل تمضي وقتها في إخباره حكايات لا تنتهي عن أصدقاء افتراضيين يأكلون السكاكر في الخفاء أو عن دمى تتكلم أو عن ألعاب تتحرك، فعالم الصغار مليء بحكايات يصدقونها فعلاً. فهل نعتبرهم كاذبين أم شعراء طموحين؟ تفيد الإحصائيات أن حوالى ثلثي الأطفال حول العالم بين عمر السنتين والسبع سنوات يمرون بنوبات من “التلفيق". إنها ظاهرة تفسرها تركيبة الشخص ذاته. ففي خلال الأشهر السبعة إلى التسعة الأولى من حياة الطفل، لا يدرك مفهوم الأنا. يختلط لديه الواقعي بالخيالي من دون أن يتمكن من التمييز بينهما. ثم يبدأ تدريجًا بالانفصال عن أمه والانفتاح على العالم، لكن سيتوجب عليه الانتظار سبع سنوات تقريبًا ليبلغ “سن الحكمة" قبل أن يبدأ بمشاركة أمور تتراوح بين الحقيقة وغير الحقيقة. ويصبح التعلم أكثر تعقيدًا كلما زاد المحيط غموضًا والتباسًا. يقول أحد المعالجين النفسانيين: “أتفاجأ دائمًا بالأهل الذين يتساءلون ويقلقون بمبالغة عندما يظهر طفلهم مخيلة واسعة". ولدك لا “يهذي" سرد الحكايات والقصص ليس بالأمر المجنون وإلا ماذا نقول عن حال الكتّاب؟ يجب التوقف بتاتًا عن النظر إلى التعبير عن الخيال لدى الطفل على أنه مرض. فضلاً عن ذلك، علينا عدم استعمال مصطلحات الأمراض النفسية بطريقة عشوائية. فليس من العادي تصنيف طفل على أنه “مهووس بالكذب" وعن أنه “يهذي". من المفضل ترك استخدام هذه العبارات للخبراء بالصحة العقلية. الحديث عن الصديق الوهمي ليس علامة مقلقة على اضطراب نفسي ولا هو إثبات عن مرض دفين. على العكس، غالبًا ما يشكل هذا الأمر مصدر راحة وإشارة إلى انفتاح الطفل. عندما يخترع الطفل حكاياته الخاصة التي لا تصدق، يتواجه بشكل متناقض مع الحقيقة. فمن خلال تجسيد هذا العالم الخيالي يضع مسافة بين نفسه وبينه، بالطريقة نفسها التي ندرك فيها إمكان حدوث أحلامنا أو كوابيسنا من خلال سردها. ماذا لو بدأ الصديق الوهمي باحتلال مكانة أكبر من اللازم؟ لا ينصح بأن توافقي على أن يعطي طفلك مكانة حقيقية لشخصية غير موجودة. لذلك، عليك التدخل من دون الاستهزاء. قولي لطفلك إن من اللطيف أن يلعب متظاهرًا بأنه يحضر الطعام للهر، لكنه من غير المقبول أن يسكب له يوميًا كوبًا من الحليب. اكتشاف معنى الكذب أحياناً، يستعين الطفل بالصديق الوهمي للكذب، كأن يؤكد أنه لم يكسر مزهرية أمه المفضلة بل صديقه الذي أوقعها وهو يتسلق إلى الطاولة. يجب أن يميّز الوالدان بين الكذب والأفكار الخيالية، فالطفل يكذب لتجنب العقاب وإذا فهم أنه لن يفيده بشيء سيتوقف عنه. إذًا، لا حاجة في كل مرة إلى اتهامه بأنه كاذب ومن الأفضل أن نفسر له أننا نفهم تمسكه بحكايته المؤلفة، لكننا لا نصدقها. إذا استمرت هذه الانفعالات بالظهور لدى الطفل بعد الثامنة من عمره، أو أصبحت مرفقة بصعوبة للانفتاح على الآخر، من الضروري في هذه الحال استشارة طبيب نفسي أو على الأقل التساؤل حول الأسباب التي تدفع الطفل إلى الهروب من الحقيقة. فضلاً عن ذلك، يجب أن نبدأ بالقلق عندما تطاول الحكايات المنسوجة أشخاصاً حقيقيين، علمًا بأن اتهام الطفل شخص بالغ بالتسبب له بالأذى يعني أنه يحاول قول أمر ما. فالكذبة غالباً ما تحمل معنى. يتحدث أحد الأطباء النفسانيين عن حالة طفلة كانت برعايته بسبب سفر والديها. في إحدى الليالي استيقظت ليلى (3 سنوات) عند الساعة الثالثة صباحًا بعدما بللت الفراش. عندما سألها الطبيب ماذا حدث قالت: “لست أنا من فعل ذلك، بل ساعي البريد". هل كانت تلك كذبة؟ لا، بل على العكس. بهذه الطريقة، عبرت الطفلة عن حقيقة مهمة، وهي حزنها لانفصالها عن والديها وعدم قدرتها على الاتصال بهم؛ فكانت تنتظر ساعي البريد بفارغ الصبر. القلق الذي يرد عليه الطفل عبر اختراع الحكايات قد لا يعنيه هو إنما والديه. بحسب الطب النفسي، الصديق الوهمي لا يطمئن الطفل فحسب، فالطفل الذي ينسج في خياله في أول يوم مدرسي له رفيقًا يلعب معه، ربما يفعل ذلك لطمأنة والدته القلقة. ومع مرور الوقت يختفي الصديق الوهمي ليحل مكانه الزميل “الواقعي" في الصف. شهادة فادي (10 سنوات): تلامذة من صنع خيالي “يرافقني دائمًا تلامذة خياليون. لا أعلم متى بدأ هذا الأمر، لكن أتذكر أنني عندما غيرت مدرستي، لم يكن لدي الكثير من الرفاق في البداية، فظهر في مخيلتي التلامذة الخياليون. كلهم صبيان وأعجز عن وصفهم. لديهم طابع ملائكي، ويلمعون قليلاً. إنهم في غاية الهدوء ولا يسألونني شيئًا أبدًا. أعلمهم آداب السلوك والدراية: كيف يتسللون في الليل خارج فراشهم من دون أن يثيروا انتباه أهلهم، كيف يصنعون هذه اللعبة أو تلك، كيف يزعجون أخيهم الأكبر، وغيرها من أمور. ليسوا أصدقاء ولا إخوة، إنهم تلامذة. أنا في نظرهم أستاذ المدرسة الذي يعرف كل شيء. لا أعتقد أنهم سيختفون مع الوقت بل على العكس، فكلما كبرت في السن، سيكون لدي المزيد من التعاليم لأنقلها إليهم.