لا يكاد الشيخ الدكتور (كما يحب مريدوه ان ينادوه) حسن الترابي, ان يختفي, هو لا يختفي بالمناسبة, لأنه يخشى على نفسه من الظُلمة, حتى وهو قابع في السجن فإنه يواصل مناكفاته وتصريحاته التي تنسب اليه حتى لو كان انصاره هم مَنْ يدبجّها. نقول: لا يكاد يختفي حتى يظهر وفي كل اطلالة اعلامية له, سواء جاءت عبر الصحف المكتوبة أم الالكترونية أم التلفزيونية, فإن الرجل حريص على أن يأتي بجديده السياسي الذي يندرج على الدوام في خانة «الفانتازيا», المطعّمة بآراء تخلط السياسي بالاجتماعي والشخصي بالديني والفلسفي بالعقائدي, الى درجة تدفع بالمرء الى التساؤل عمّا اذا كان هذا الرجل, الذي يكاد أن يتحول الى «ديناصور» السياسة السودانية, مجرد درويش يقرأ السياسة من منظور ارباب الحلقات الدينية متعددة التسميات والمرجعيات والفتاوى والاجتهادات التي تحفل بها بلاد السودان؟ أم أنه داهية يخفي وراء ابتسامته الدائمة – مصطنعة كانت أم عفوية – مكراً وشخصية قوية قادرة على المراوغة (واللعب على عامل الوقت وفي نسج التحالفات – وتفكيكها بالطبع – والتنقل من مربع الى آخر, وكل شيء خاضع لديه للتبرير والانتقائية والفتاوى الجاهزة, فقط ليبقى لاعباً في المشهد السياسي السوداني؟ من السذاجة الاعتقاد أن رجلاً كهذا يقترب من العقد الثامن ولم يغب للحظة عن دائرة الضوء منذ أكثر من ربع قرن, وقبل أن ينجح في استمالة أو استثمار طموحات جنرال اسمه عمر حسن البشير في الثلاثين من حزيران 1989 ليقود انقلاباً على حكومة منتخبة (يرأسها الصادق المهدي وهو شقيق زوجته بالمناسبة) ويخلع عليها لقب «ثورة الانقاذ», ثم يبدأ «الفتك» بكل القوى السياسية والحزبية والشخصيات المستقلة وفي قمع الحريات وخصوصاً الاعلامية, ثم يرفع راية «الاسلام» عبر اختراع وتركيب جبهات ويافطات كالجبهة القومية الاسلامية وغيرها واضعا نفسه على الدوام موضع المُنظّر والداعية، بل ويتقدم الصفوف ك(ثائر) اسلامي يريد اقامة دولة الخلافة وحتى عندما افترق الحليفان او قل الجنرال والشيخ، حيث أحكم الاول قبضته على السلطة نهاية العام 1999، وارسل الترابي الى السجن مرات عديدة، لم ييأس الترابي وواظب المناكفة والتصويب على البشير ونظامه بل وانشأ حزبا جديدا بعد ان طرده البشير من الحزب الحاكم واسماه المؤتمر الشعبي, واضعا كلمة الشعبي بدل الوطني خاصة البشير، ولم يتردد في الذهاب بعيدا حد التحالف مع ألد اعداء البشير (رغم ان اصدقاء الجنرال قلة تكاد لا تذكر)، ونقصد هنا الحركة الشعبية لتحرير السودان (قبل انفصال الجنوب بالطبع). مناسبة الحديث عن الترابي اليوم, هي التصريحات التي ادلى بها «الشيخ» لصحيفة الحياة اللندنية يوم اول من امس, والتي دعا فيها الجنرال البشير الى الرحيل وان يستغفر الله ويخرج الى بلد لم يسمّه, حيث يمكن – يواصل الترابي- بعد ذلك لمجلس الامن ان يؤجل المطالبة بتسليمه الى المحكمة الجنائية الدولية سنة بعد سنة.. هنا تكمن الابعاد الخطيرة التي انطوت عليها دعوة الترابي, فالرجل أساساً هو شريك البشير لمدة عشر سنوات واكثر، وبالتالي لا تجد ارتكابات النظام الذي «أقاماه» او استوليا عليه بالقوة, سوى استغفار رب العباد والخروج، وليس صدفة (او دروشة) ان يسعى الترابي الى استبعاد او عدم إيلاء أي اهمية الى ثقافة «عدم الافلات من العقاب» التي تسعى المنظمات الحقوقية الدولية الى تكريسها في المشهد الدولي الراهن, بعد ان ولغت انظمة عديدة في دماء شعوبها او شعوب اخرى والشواهد على ذلك عديدة ودامغة، ويعرف الترابي انه في ظل نظام سوداني جديد لن يفلت من العقاب والمساءلة على الارتكابات الموثقة التي كان شريكا فيها بهذه الدرجة او تلك، ناهيك عما تستبطنه الاستهانة البالغة بالمحكمة الجنائية الدولية (المسيسة اصلا وهو امر لا نتجاهله) عندما «يضمن» للبشير موافقة مجلس الامن على تأجيل المطالبة، وفي ذلك استخفاف بعقول الناس وفي الان ذاته وقوع مريع في مربع السذاجة السياسية التي تدفعه للانخراط في لعبة كهذه, يعلم في قرارة نفسه انه اصغر واقل شأنا من ان يملك عليها أي تأثير او نفوذ. فهل الرجل درويش ام داهية؟ [email protected] الرأي