لليوم الأول من شهر يناير من كل عام معزة وافتخار لدى الشعب السوداني، فهو اليوم الذي انتهت فيه (عام 1956) مرحلة مظلمة من تاريخ السودان وبدأت مرحلة جديدة، ناضل وصارع وقاتل من أجلها السودانيون لأكثر من نصف قرن ضد سلطة الاحتلال الأجنبي، حتى نالوا استقلال بلادهم بقيادة جيل الرواد المناضلين الذين رفعوا العلم السوداني، وأعلنوا قيام جمهورية السودان المستقلة، وشرعوا في بناء الدولة السودانية الحديثة التي كان ينظر إليها العالم ويأمل منها أن تكون نموذجاً يحتذى في وقت كانت فيه معظم البلدان الأفريقية والعربية واقعة تحت نير الاحتلال الأجنبي. كان الأول من يناير عند السودانيين يوم استرداد الكرامة الوطنية وثمرة النضال والثورة منذ أن سقطت راية الدولة المهدية في كرري بعد معركة بطولية سجلها التاريخ، واجه فيها السودانيون المسلحون بالإيمان والسيوف والرماح، قوات الغزو الأجنبي حيث جرب الإنجليز مدفع المكسيم الجديد وحصدوا أرواح آلاف الشهداء وهم يهللون ويكبرون. معركة كرري يكفيها شهادةً ما سجله السياسي البريطاني السير تشرتشل -الذي كان من شهودها- في كتابه «حرب النهر»، إذ أنصف «الدراويش» أي أنصار الثورة المهدية. الآن وقد انقضى على اليوم الأول من يناير عام 1956 قرابة السبعين عاماً، كيف أصبح مآل الحلم الذي دفع من أجل تحقيقه الرواد أعمارهم وتحملوا شظف العيش وقسوة السجون ووقفوا في مقدمة صفوف شعبهم؟ قبل أن ننظر في حال السودان اليوم، يتوجب علينا، كلما جاء الأول من يناير، أن نذكر بالخير وبالشكر والاجلال، الرواد الكبار، مثل الرئيس إسماعيل الأزهري ورفاقه مبارك زروق والمحجوب ويحيى الفضلي وحسن الطاهر زروق والسيد الصديق المهدي وكثيرين من الرجال والنساء، الذين حملوا شعلة الحرية وقادوا سفينة الحركة الوطنية السودانية بجدارة وشجاعة وسلموها أمانة لجيلنا نحن أبناؤهم.. نذكرهم بالخير ونسجل لهم تضحياتهم ونضالهم ويتوجب علينا ذلك إحقاقاً وتسجيلاً للتاريخ. ونحن كثيراً ما نخطئ في حقهم وننسى فضلهم وتضحياتهم ونذكر فقط بعض هناتهم وهفواتهم، ولا نذكرهم في هذا اليوم الذي هو يومهم. لقد وضعوا أساس الدولة الديمقراطية المدنية، ووضعوا أول خطة خمسية للتنمية، وشرفوا بلادهم بمواقفهم القومية والعالمية، وخرجوا من دنيانا الفانية كما دخلوها، لم يخلفوا وراءهم أموالاً ولا عقارات، وكانت صحائفهم بيضاء لم يسوّدها الفساد فظلوا يعيشون في منازلهم المتواضعة، وظل بعضهم مديناً للبنوك حتى وفاته ومنزله مرهوناً للبنك الدائن! تذكرت فضائلهم وسجاياهم اليوم، وآلمني كثيراً أننا في الخلافات السياسية أثناء حياتهم قسونا عليهم أحياناً كثيرة بالباطل وكانوا أكبر منا وأكرم، فلم يحاسبوننا ولم ينتقموا منا، بل كانوا يلتمسون لنا الأعذار ويسامحون طيشنا وتهور شبابنا. واليوم وبعد قرابة السبعين عاماً ينظر المرء حال السودان والسودانيين فيملؤه الحزن على حال بلد كان يرتجى أن يكون نموذجاً للدولة الأفريقية العربية الحديثة، ينظر في حال السودانيين وهم منتشرون في أركان المعمورة ومن لم يستطع منهم خروجاً من أرض الوطن أصبح بين لاجئ في بلدان تستضيفه معسكرات اللاجئين ... فما الذي جرى للسودان الذي كان موعوداً بأن يكون سلة غذاء العالم؟! الاتحاد