المشهد السياسي السوداني يزداد كل يوم ارتباكا، وكل حدث يقع لديه القابلية لكي يتطور إلى أزمة وأطراف الصراع أصبحت متعددة، وكل يوم تزداد طرفا جديدا بسبب انقسامات داخلية، وهذا الواقع يطال الحكومة والمعارضة على حد سواء، ثم يتجاوزهما إلى القبائل والعشائر، فكلها في مواجهات حادة وصراعات سلمية أو دامية. هذه الصورة الملتبسة كانت نتيجة طبيعية (لتوازن الضعف) الذي يسود الساحة السودانية، وليس هناك من فصيل قادر على إثبات قدرته على مواجهة التحديات، وكل يسعى للاستقواء بطرف آخر دون أن يتخلى عن مواقعه؛ ولذلك يعمد إلى المناورات والإجراءات (التكتيكية) قصيرة العمر. الحكومة تريد أن تعتمد على أجهزة القمع الرسمية إضافة لاستقطاب القبائل وشراء ولائها بالمناصب وتجييش شبابها من ناحية، وإلى شق الأحزاب والتنظيمات واستيعاب المنشقين كركاب في قطارها، دون أن تتخلى عن كامل الهيمنة على السلطة والثروة، تلك المحاولات على المستوى السياسي سوى تحالفات غير مجدية مع جماعات لا تملك أي قاعدة ولا تشكل إضافة لقوتها، ولكنها تؤدي دورها في العملية (التجميلية) وتظل تعتمد على أجهزة القمع في إنجاز مشروعها لكن أجهزة القمع تدرك مدى اعتماد النظام عليها فتطمع في كامل (الكيكة) بدلا من أن تكون مجرد حامية لأهل السلطة، والمحاولة الانقلابية الأخيرة ترسم أبعاد هذا الصراع الداخلي. أحزاب المعارضة تستشعر ضعف صلتها بقواعدها وعدم قدرتها على تفعيل هياكلها بسبب الحصار المفروض عليها، وتفشل في تجييش قواعدها بسبب غيابها عن الساحة 40 عاما طوال حكم مايو والإنقاذ، وتدرك مدى المتغيرات التي حدثت في هذه الفترة والتغييرات في الولاءات الموروثة التي تجعلها بعيدة كل البعد عن الأجيال الحديثة صاحبة الاهتمامات المختلفة والرؤى المختلفة والمواقف المختلفة، وتسعى المعارضة لتجاوز هذا الضعف بالدخول في تحالفات على المستوى السياسي، كما تسعى للاستقواء بحملة السلاح دون أن تدرك أن هذه شراكة غير سوية؛ لأن حملة السلاح هم الطرف الأقوى في الشراكة؛ لأنهم الأقدر على (الفعل) مهما كانت محدودية نشاطهم، وليس لدى المعارضة السياسية الرصيد الفاعل الذي تساهم به في رأسمال الشراكة، ولذلك فإن الأقوى هو الأقدر على فرض أجندته، كما حدث في اجتماع كمبالا الذي تنصلت كل أحزاب المعارضة من كل مخرجاته وهي أصلا في أغلب الحالات لم تشارك فيه بكوادر الصف الحزبي الأول. الحركات المسلحة تحاول أن تحافظ على خياراتها مفتوحة، فهي تفاوض الحكومة من ناحية، وتفاوض القوى السياسية من الناحية الأخرى، وهي قد التقت من قبل بالحكومة في أبوجا وفي الدوحة ممثلة في حركات دارفور ومستعدة للحوار غدا مع الحكومة في أديس أبابا بوساطة إفريقية وعلى أساس قرار من مجلس الأمن وكلها مفاوضات تدور حول القضايا الجزئية التي تهم تلك الحركات وليس حول القضايا العامة التي تطرحها في مائدة اللقاءات التي تعقدها مع القوى السياسية المعارضة، وهذا سيناريو جربته المعارضة السياسية على أيام نيفاشا حيث كانت الحركة الشعبية نتحالف مع المعارضة السياسية الشمالية في أسمرا وتتفاوض مع الحكومة في نيفاشا ليس حول أزمة السودان بل حول أزمة الجنوب بحدود يناير 1956م ولم يتعلم أحد من ذلك الدرس. والحكومة التي تعتمد على أجهزة القمع اكتشفت قدرة بعض منسوبي تلك الأجهزة على التمرد عليها مثلما حدث في (المحاولة الانقلابية) الأخيرة التي اختفت أخبارها الآن تماما من أعمدة الصحف لأن الاستمرار في التعاطي معها عبر المحاكمات المفتوحة يشكل حرجا بالغا للحكومة، ويعتبر مخاطرة غير محسوبة النتائج وبنفس القدر فإن الحركة الإسلامية التي خططت لهذا الانقلاب لم تنقسم فقط عبر مذكرة العشرة، بل هي توالي مسلسل الانقسامات الآن مثل ما اتضح في مؤتمر الحركة الإسلامية الأخير والحكومة؛ لذلك تستشعر أزمة شرعيتها (العسكرية) مثلما تستشعر أزمة شرعيتها السياسية؛ ولذلك فهي ليست أحسن حالا من الأحزاب المعارضة. والحركات المسلحة ما زالت تنشط من آن لآخر، ولكن ثمة قوى أكثر منها نشاطا في الميدان العسكري كما يتضح من الصراعات القبلية والعسكرية الأخيرة التي دارت بأسلحة حديثة وبإمكانات عسكرية متطورة وبتدريبات عسكرية امتلكتها بمساعدة الحكومة، وفي الوقت نفسه فإن الحصار الذي تواجهه الحركات المسلحة قد أقنعها بأنها قد تستطيع أن تصد هجوما أو تكسب معركة، ولكن الحرب المنهكة ستظل سجالا، وليس لها من القدرة ما يمكنها من تحقيق الانتصار الكاسح، ولذلك فهي تحارب لكي تضغط من أجل حل تفاوضي يحقق على الأقل بعض مطالبها ذات الطبيعة الجهوية وليست السياسية الشاملة لمعالجة أزمة السودان. هذا هو الواقع المرتبك الذي يجعل السودان يدور في حلقة مفرغة، والذي يصيب الناس بالإحباط لأنهم لا يرون ضوءا في نهاية النفق ويفتقدون المشروع الوطني الذي يستوعب تطلعات الأغلبية الصامتة في نظام ديمقراطي حقيقي قائم على العدل والإنصاف والحكم الراشد والحرية الكاملة والتبادل السلمي السلطة، هذه الأغلبية الصامتة التي تدفع الثمن غاليا ما زالت غائبة عن المشهد ولن تعتدل المعادلة إلا يوم أن تنظم هذه الأغلبية صفوفها لأن (توازن الضعف) الحالي لن يحقق للوطن وحدة ولا استقرارا ولا حكما راشدا بل يهدده بالتشظي والزوال. كاتب سوداني [email protected] العرب