جدل كثيف أثارته تصريحات وزير المالية علي محمود محمد بواشنطن لصحيفة «الشرق الأوسط» التي دعا فيها للتقشف والعودة لأكل (الكسرة). فرغم ما يزيد عن العشرة أيام عليها، إلا أنها مازالت تشكل مادة دسمة في مجالس المدينة ونقاشات المهتمين الخاصة، ومازال العديد من الكُتّاب الصحافيين يقتاتون على تلك (الكسرة)، فالبعض عدّها غير موفقة وباعثة على الخوف من غدٍ بلا بترول، وبلا رغيف. بل هي برأيهم، لا تقف بعيداً عن حديث ملكة فرنسا في زمانٍ جائع ماري إنطوانيت عن (الجاتوه).. فكليهما غالٍ. في المقابل، عدّ آخرون تصريحاته تلك، ضرباً من الحديث المسؤول لوزير يعى تماماً أن البلاد ستفقد جزءاً من نقدها الأجنبي بسبب فقدها المحتمل لكميات غير قليلة من البترول إذا اختار الجنوبيون الإنفصال، وهو أمرٌ يتطلب مصارحة مع المواطنين، وتبصيرهم بضرورة التقشف وزيادة الإنتاج بعيداً عن التطمين الكذوب بأن لا تأثير للإنفصال.. أعترف أني لم أزد كثيراً على تساؤلات أولئك الكُتّاب والصحافيين، فقد وضعتها - بلا فلترة - على طاولة صالون وزير المالية، فيما وضع هو أسفلها، ما تتطلبه من إجابات دونما تلجلجٍ: ...... * هل تعتقد انك وزير غير محظوظ كونك جئت في فترة اوضاع اقتصادية استثنائية وبالغة التعقيد؟ - أنا لا أريد أن أعلق على مسألة الحظ هذه. فنحن فقهنا في العمل انه ابتلاءات تجئ في وقت معين ولا بد أن نجتهد لنقوم بواجباتنا، ولا أفتكر ان هناك زمناً سمحاً ممكن الزول يجئ فيه وأنا لا أعرف من كان وزير المالية في عهد سيدنا عمر، ولكن قطعاً لست أفضل منه. ومع ذلك، فإن عام الرمادة جاء في عهد سيدنا عمر. وقطعاً انت ما عندك رأي في تقوى وصلاح وورع وعدل سيدنا عمر، فالحكاية لا تقوم على الحظوظ «يا أيها الإنسان إنك كادح الى ربك كدحاً فملاقيه» وأنا افتكر أن هذا نوع من الكدح. وأنا لا أبالي بأية ظروف تجيئني، فما يهمني هو أن «أمشي عديل».. لذلك نحن نعمل لوزن الاقتصاد حتى لا يكون هناك خلل في الميزانية ، فالخلل في الميزانية يقود مباشرة الى التضخم، والى مزيد من الاستدانة من النظام المصرفي، ومزيد من الديون الداخلية وهو الأمر الذي يتسبب في اشكالات. * قلت من لا يقول بتأثير الإنفصال لا يقول الحقيقة، ما هي حقيقة قدرتكم على مواجهة تأثيراته؟ - أنا بفتكر ان السودان الشمالي عنده القدرة على تجاوز هذه الاشكالات، والاشكال سيكون فقط في النفط. وهنالك انتاج من النفط في الشمال وأبشرك أنه لدينا انتاج من الذهب ستصل عائداته في هذه السنة الى مليار ونصف المليار دولار، وعندنا حد أدنى من النفط في الشمال ومؤشرات بأن هذا النفط سيزيد. والآن هنالك فائض من الاسمنت، فكل استهلاكنا اثنين مليون طن وانتاجنا اربعة ملايين طن وقابل للزيادة فقط محتاج لقليل من الشغل في التكلفة وسيصبح صادراً يأتي بعملات صعبة، والذرة اذا صدرناها تأتي بعملات صعبة واللحوم الحية والمذبوحة كذلك، فصادرنا للسعودية وصل لاثنين مليون رأس من الضأن فقط دعك من الابقار والجمال، فنحن لدينا القدرة على انتاج غذائنا كما عندنا بنيات تحتية في الطرق والكباري والمطارات وقنوات ري ومشروعات زراعية ضخمة جداً في الجزيرة والسوكي والرهد، وسد مروي. * في حال إنفصل الجنوب.. الى أي مدى يمكن أن يكفي بترول الشمال إستهلاكه المحلي؟ - الافادة ممكن يأتي بها ناس وزارة الطاقة، لكن حسب تقديري لن تكون هناك مشكلة في الانتاج المحلي ونحن ما زلنا نستورد جاز أويل حتى في الظروف الحالية، لكن البنزين فيه اكتفاء ذاتي، وأنا بفتكر لن تكون هناك اشكالية بالتطوير الذي يحدث في بعض الحقول بالشمال حتى ديسمبر لأن هنالك حقولاً يتوقع أن يزيد انتاجها. * دائماً ما تربط بين تغيّر عادات الناس الغذائية وزيادة الإستهلاك وتحسن دخل الفرد لكن في الواقع هنالك فقر وتراجع واضح للدخل الذي تتحدث عنه؟ - تغير عادات الناس سببه تحسن دخل الفرد، نعم الشعب السوداني فيه فقر لكن بالمقارنة مع سنة 1989م نجد الاوضاع قد تحسنت وأنت انظر الى العمران فهل كان كذلك قبل 1989م.. = مقاطعة= * أنت تتحدث عن ثراء طبقة صغيرة جداً في وقت اختفت فيه طبقة كاملة وهي الطبقة الوسطى كما ان الاغلبية من المواطنين تعبانين؟ - لا ، ليس طبقة صغيرة. فاليوم مثلاً مشتركو الموبايل في البلاد (15) مليوناً فهل الموبايل إلزامي حتى «يشيله» الشخص اذا لم يكن يملك حق الاسكراتشات، انظر للامتدادات التي دخلتها الكهرباء فهذه حقائق يجب ان لا تُنكر، ولكن تظل هناك مجموعات فقيرة، ويظل هناك فقر مدقع، ووارد أن يكون هناك سوء في توزيع الدخل الكبير في البلد ولكن هذه عملية مستمرة، ففي كل يوم تعمل من القوانين والتشريعات والاجراءات والسياسات ما يجعل توزيع الدخل يذهب لكل الناس. * من الواضح، السيد الوزير انكم لم تتحوطوا للانفصال طوال السنوات الخمس الماضية، ولم تعدوا البدائل اللازمة فقد تفاجأتم به كما يتفاجأ اغلب السودانيين بالعيد؟ - لا.. أبداً، غير صحيح. فالآن على الأقل في مجال البترول يجري الاستكشاف في مناطق كثيرة جداً من السودان. ثم ان الروح التي كان يعمل بها الناس لم تكن روح انفصال، واذا بدأوا الناس الحديث عن أنه سيكون هناك انفصال منذ العام 2005م كان البلد دي انفصلت زمان وأنا اعتقد ان سلوك الدولة كان ماضياً في اتجاه الوحدة الجاذبة لأن هذه روح الاتفاقية لذلك جاءت برامج الوحدة في الطرق والكهرباء والسدود في العديد من مناطق السودان المختلفة فهذه البنيات التحتية تمت في هذه الفترة ولذلك أقول لك إن البنيات التحتية التي تجعل الاقتصاد ينطلق موجودة في البلد. لكن طبعاً أي انفصال مهما كانت آثاره قليلة لكنها تكون موجودة، فالخوف ينبغي ان لا يكون على بترول او ثروة يمكن أن تنتهي في يوم من الأيام ، الخوف ينبغي ان يكون على انقسام وطن الى نصفين وعمل فواصل بينهما، الخوف من الضرر الاجتماعي والسياسي وغيرهما من الاضرار. * كأنك تريد أن تقول إن الإنفصال لن يكون قاصمة الظهر للشمال رغم أنه سيفقد بعض الموارد الى جانب التأثيرات الأخرى التي أشرت إليها؟ - الموارد ليست بالضرورة أن تكون بترولاً فالميناء مورد، وخط الانابيب كله في الشمال واخواننا الجنوبيون اذا ارادوا تصدير نفطهم فسيصدرونه بهذا الخط، واذا ارادوا ان يستوردوا فأقرب ميناء بالنسبة لهم هو ميناء بورتسودان. وهل تعلم ان بترول تشاد يصدر عبر الكاميرون وان الكاميرون تحقق فؤائد أعلى من تشاد نفسها، واثيوبيا عندما انفصلت منها اريتريا تبعت كل الموانئ لاريتريا واصبحت بلا ساحل بحري، فهل ماتت اثيوبيا؟ فهي ما زالت موجودة وقوية وحتى اجتماعاتنا تعقد في أديس أبابا ، فأنا لا أرى ان هناك شيئاً يخوف الناس بأنه اذا حدث انفصال ستقوم القيامة بل.. على العكس ستشهد انطلاقة. * ألا تزعج الزيادات المضطردة في الأسعار السيد وزير المالية؟ - طبعاً تزعج وزير المالية، ولذلك وزير المالية لابد أن يتحرك وينظر في الاسباب. فارتفاع الاسعار مرده ان انتاجنا ضعيف، ونحتاج لسلع لاستيرادها من الخارج بالدولار، فأنا مثلاً انتاجي من الزيت ضعيف واستورده من الخارج بالدولار، والطلب على الدولار عال وسعره ارتفع فهذا يعني انني عندما استورد بالدولار هو بثلاثة جنيهات ليس كما استورد به وهو بجنيهين ونصف الجنيه. فعندما استورد بثلاثة جنيهات سأبيع جركانة الزيت ب (70) جنيهاً، لكن اذا استوردت بجنيهين ونصف الجنيه فسأبيع الجركانة ب (55) جنيهاً مثلاً، ولذلك العلاج بزيادة الانتاج وعمل احلال للواردات ونحاول أن ننتج اية سلعة مستوردة بالداخل أو على الأقل جزءاً كبيراً منها حتى لا يصبح هنالك ضغط وطلب زائد على عملتي الصعبة الموجودة. * ما هو أكثر ما يتخوف منه وزير المالية هذه الأيام؟ - في مجال الاقتصاد اتخوف من أن يتصاعد التضخم وتزيد اسعار السلع الاقتصادية بالنسبة للمواطنين نتيجة للجو السياسي المشحون . فما أخشاه ولا أريده أن يؤثر هذا الجو على الاقتصاد لأسباب غير حقيقية، مثل التصريحات المختلفة من الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني والاعلام بصورة عامة في قضايا الشمال والجنوب والاستفتاء وهذه أسباب مفتعلة ، فلو طلع تصريح مثلاً بأن هنالك سلعة ستختفي فان سعرها سيزداد مباشرةً، واذا طلعت اشاعة بأن الدولار سيختفي، فإن سعره والطلب عليه سيزيد.. وهذا ما أتخوف منه. فتح الرحمن شبارقة