كان الاتفاق الذي تم التوقيع عليه في العاصمة الاثيوبية اديس أبابا الأسبوع الماضي بين دولتي السودان وجنوب السودان لحسم ما بقي من الخلافات بينهما مفاجأة حتى للمتابعين عن قرب لهذه الملفات. فقد كانت كل الدلائل تشير في الأيام القليلة السابقة للاتفاق إلى عدم إحراز تقدم في نقاط رئيسية، أهمها ضمانات وقف دعم الجنوب للحركات المتمردة في الشمال، وانسحاب قوات جنوب السودان من منطقة سماحة التي احتلتها بعد انفصال الجنوب، وترسيم الحدود بين البلدين ووضعية منطقة أبيي. ورغم الضغوط المكثفة على الطرفين لإبداء المرونة، ومواصلة لجنة الوساطة بقيادة رئيس جنوب افريقيا السابق تابو امبيكي ليلها بنهارها في محاولة لابتكار صيغ تجيب على تحفظات الطرفين، إلا أن كل طرف تمسك بموقفه بعناد. بل إن فرق التفاوض دأبت في كل مرة على إثارة قضايا جديدة لم تكن مطروحة في السابق (حدث ذلك مجدداً في لقاء أمس الأول في أديس أبابا). هذا بالرغم من كون الطرفين تضررا كثيراً من تعثر الوصول إلى اتفاق، حيث كان اقتصاد الجنوب على شفا الانهيار، ولم تكن الأمور أفضل كثيراً في الشمال. ولكن التشدد مع ذلك ظل سيد الموقف، مع إصرار كل طرف على أنه قدم ما يكفي من تنازلات، وأن المرونة مطلوبة فقط من الطرف الآخر. وكانت الأطراف السودانية قد توصلت خلال العام الماضي، وبعد مفاوضات متعسرة، إلى سلسلة اتفاقات العام الماضي حول اتفاق النفط والإجراءات الأمنية، كان آخرها في سبتمبر من العام الماضي. ولكن خلافات حادة دارت حول آليات وتسلسل تطبيق هذه الاتفاقيات، تمثل في إصرار الحكومة السودانية على حسم ملفات الحدود والأمن أولاً، في مقابل تأكيد حكومة جنوب السودان أن الأولوية لفتح الحدود والتجارة والنفط. وكانت النتيجة أن الاتفاقات المهمة لم تتحول إلى واقع، ولم تترجم إلى إجراءات تخفف معاناة المواطنين. وقد وضع هذا الوسطاء في موقف لا يحسدون عليه، لأن كل مقترح يأتون به كان يواجه رفضاً قاطعاً من أحد الطرفين، بل واتهامات للوسطاء بالتحيز. وقد كان الرئيس امبيكي يتهم لفترة طويلة بأنه يمالىء النظام السوداني، ولكن مقترحه حول أبيي في العام الماضي وقرار اللجنة حول منطقة سماحة (الميل 14) أدى إلى هجمات عنيفة ضده في الإعلام الرسمي السوداني واتهامات بالانحياز للجنوب. وقد أدى هذا الوضع بالرئيس امبيكي إلى أن يفكر جدياً في إنهاء مهمته، ويعلن رغبته تلك لأطراف الصراع. ومن المفيد هنا التذكير بأن لجنة الحكماء تم إنشاؤها في عام 2008 من قبل الاتحاد الافريقي لكي تضطلع بالجانب السياسي من المساهمة الافريقية في حل قضية دارفور، استكمالاً للدور الذي اضطلع به الاتحاد الافريقي في مهام حفظ السلام هناك. وقد أعدت اللجنة تقريراً حول دارفور قوبل بالإشادة من كل الأطراف، وذلك بعد أن استمعت لكل قطاعات الرأي في دارفور وكل القوى السياسية والمدنية في السودان، وسجلت زيارات متكررة لكل مناطق دارفور ولمعسكرات النازحين لم تسبقها إلى مثلها جهة أخرى ولم تلحقها كذلك. وبعد أن أنهت اللجنة مهمتها كلفت بالإشراف على إجراءات عملية لتطبيق توصيات التقرير، ثم أضيف إلى أعبائها ملف علاقات شمال السودان وجنوبه خلال الفترة الانتقالية، التي كانت وقتها الهاجس الافريقي الأكبر. وبعد ان تحول ملف دارفور إلى الدوحة رأت اللجنة التركيز على ملف علاقات الشمال والجنوب، وبذلت جهوداً جبارة من أجل التوفيق بين الطرفين تمهيداً للاستفتاء. وقد لاحظت من خلال تعاملي مع الرئيس امبيكي وفريقه أن المجموعة (وهي تشمل أيضاً الرئيس عبدالسلام أبوبكر من نيجيريا والرئيس بول بويويا من بوروندي، وكلاهما رئيس سابق سلم السلطة طائعاً لحكومة منتخبة، وتمتع لهذا باحترام شعبه والعالم) لم تكن تنظر إلى القضية السودانية كمجرد قضية فض نزاع. فقد كان الشعور الطاغي لدى الفريق بأن قضية السودان هي قضيتهم، وقضية افريقيا كلها، وكانوا يرون أن الحفاظ على وحدة السودان والوئام بين مكوناته هو تحدي افريقيا الأول إذا كان لها أن تنهض وتحتل مكانها اللائق على خارطة العالم. من هذا المنطلق أيضاً، كان هناك حرص على إنجاح الحل الافريقي لإظهار مقدرة افريقيا على حل مشاكلها بنفسها، وإنهاء عقدة الاعتماد على الأجنبي. ذلك أن أعضاء الفريق، وخاصة امبيكي، ينطلقون من قيم وتراث مناهضة للاستعمار والامبريالية، ويرفضون منطق التبعية للخارج، ناذرين أنفسهم لمهمة تحرير افريقيا وتخليصها من الاستعمار وتوابعه. ولهذا لم يكن التحدي فقط هو التوصل إلى حل يحفظ وحدة السودان والاستقرار والسلام في قلب القارة، بل كذلك أن يكون الحل سودانياً أولاً وافريقياً ثانياً. وفوق ذلك فإن الرئيس امبيكي كان يكن للسودان مشاعر مودة خاصة تعود لذكريات أيام الكفاح الأولى ضد نظام التفرقة العنصرية. وقد تحدث معي في أحد لقاءاته بكثير من الحنين والسعادة عن إحدى زياراته المبكرة للسودان في مطلع الستينات، حيث دعي من قبل بعض الطلاب لحضور إفطار رمضاني في مدينة أم درمان كان ما يزال يذكره بإعجاب ومودة. وفي خطابه الذي ألقاه في جامعة الخرطوم في يناير 2011 قبيل الاستفتاء على انفصال الجنوب، ركز على نقطة أن هوية السودان الافريقية يجب أن تكون عامل توحيد، لا عامل تفرقة. وقد أكد أن السودان ليس طارئاً على افريقيا، بل هو لاعب مهم في افريقيا، مجسداً للهوية الافريقية بتنوعها وتعدديتها. وأضاف أنه حتى لو وقع الانفصال فإن شمال السودان لن يكون أقل افريقية من جنوبه، لا من ناحية الموقع ولا من ناحية المكونات، ولا من ناحية التراث. خلاصة الأمر هو أن فريق لجنة الحكماء لم يكن ينظر إلى الشأن السوداني بمعزل عن قضايا القارة الكبرى ومستقبلها، وكان يقبل على مهمته إقبال أصحاب الرسالات، لا إقبال الوسيط المحايد. ولكن الفريق كان بالمقابل يطالب الأطراف السودانية بأن تتحمل مسؤولياتها، لأنه إذا كان يجب أن يكون الحل سودانياً، فهذا يتطلب أن تتولى الأطراف السودانية زمام المبادرة، لا أن تضع كل العبء على الوساطة. وعليه فقد كانت إحدى وسائل الضغط على الفرقاء التهديد بإنهاء مهمة لجنة الحكماء وإعلان فشلها، مما كان سيفتح الباب لتدويل القضية وجعل السودان مسرحاً للصراعات الدولية والإقليمية بعد أن اجتهدت اللجنة خلال السنوات الأربع الماضية في كف أيدي هذه القوى عن التدخل في الشأن السوداني. وقد ساهمت عدة عوامل أخرى في الاختراق الذي تم، أبرزها نجاح الوساطة في عزل أبرز ثلاث نقاط خلافية، وهي أبيي والحدود ودعم الحركات المسلحة من مسار التفاوض الرئيس. فقد تم التوافق على ترتيبات خاصة بأبيي سلفاً، وحولت قضايا الحدود للجان مشتركة وتم استحداث لجنة للشكاوى للنظر في أي اتهامات مستجدة حول دعم الحركات المسلحة، وذلك إضافة إلى اللجان العسكرية المشتركة المكلفة مراقبة الحدود. فوق ذلك يبدو أن رئيس جنوب السودان قد حسم أمره أخيراً وقرر اختصار الطريق وإزالة أي عقبات تعوق تنفيذ الاتفاق الذي تم التوصل إليه بين رئيسي البلدين في سبتمبر الماضي. مما تكن الأسباب فإن هذا التطور يمثل اختراقاً كبيراً ومهماً في طريق تحقيق السلام بين البلدين، وإنجاز كبير للجنة الحكماء التي بذلت جهوداً جبارة لتحقيق هذا الاختراق. ولا شك أن اللجنة تستحق الإشادة والتكريم على هذه الخدمة الجلى التي أسدتها لشعبي البلدين في وجه صعوبات لا حصر لها. وبالمقابل فإن القيادات السياسية في البلدين تستحق اللوم لإضاعتها الوقت الثمين بتأخرها في الوصول إلى هذا التوافق، وتماديها في خلق العراقيل في وجه جهود الوساطة، في حين كان من الواجب على المسؤولين الجلوس إلى بعضهم البعض والتوصل بسرعة إلى القرارات التي تخدم مصالح الشعبين، وهي قرارات واضحة ومعلومة لا تحتاج إلى كثير اجتهاد، وتتمثل في فتح الحدود، وإتاحة حرية الحركة والتجارة، وإتاحة تدفق النفط وضمان الأمن على الحدود، والكف عن التدخلات في الشؤون الداخلية وزعزعة الاستقرار. ولكن كما لا يخفى فإن مجرد إنهاء خلافات البلدين لا تعني نهاية المطاف، لأن لكليهما مشاكله الداخلية المتمثلة في عدم التوافق بين القوى السياسية واستمرار العنف. ولعله من نافلة القول أن استمرار الوئام بين البلدين لن يكون سهلاً في ظل استمرار الصراعات الداخلية، بل إن بعض هذه الصراعات هي انعكاس لخلافات البلدين، وحرب بالوكالة بينهما في واقع الأمر. وعليه ينبغي أن تتخذ كل حكومة مبادرات عاجلة في اتجاه تحقيق الوفاق الوطني. ولعله قد يكون من المناسب الطلب إلى لجنة الحكماء تقديم مبادرات في هذا الخصوص من واقع حرصها على إكمال مهمتها قبل أن ينتهي تفويضها المقرر له أن ينتهي في يوليو القادم بعد آخر تمديد تم في مطلع هذا العام. فاللجنة تحوز ثقة كل الأطراف، بسبب تجردها وحرصها على مصالح البلدين والشعبين، ولأنها حرصت دائماً على الاستماع بصبر لكل الأطراف، دون الانحياز إلى طرف دون آخر. وأهم من كل ذلك وقبله، فإن لأعضائها خبرة متراكمة ومتنوعة في تسليم السلطة للشعب، واستيلاد الديمقراطية من رحم الاستبداد، والوفاق من براثن الشقاق. ' كاتب وباحث سوداني مقيم في لندن القدس العربي