مساء اليوم الأربعاء تنظم مجموعة (مبدعون بلا حدود) بالتضامن مع (قلوبنا معكم) وتحت رعاية معتمد محلية أمدرمان تنظم لمسة وفاء لواحد من أعظم شعرائنا المبدعين الذي رحل عن دنيانا جسداً وبقى خالداً مع المبدعين عن عمر قارب الستين عاماً. مبدعنا لن تفيه الكلمات مهما بلغت لهذا أكتفي بأن أقول أنه الشاعر إدريس جماع مجنون الجمال الذي أجمع عليه النقاد وأشاد به العقاد فهل بعد هذا من حديث عنه. وإذا كان التأريخ سجل لليلى مجنونها ولجوليت روميوها فإن التأريخ سجل لجماع أنه عاشق الجمال أينما وجد ولم يكن متيماً بليلى أو جوليت وإنما بالجمال حيث ما وجد ولا شيء غيره. كثرت الروايات والحكايات عنه وتناقلها النقاد والمعجبون بمختلف الحكاوي إلا أنها وأن أصابت الحقيقة أو حادت عنها إنما تعبرعن عظمة هذا المبدع وعن عشقه للجمال كقيمة إنسانية بعيداً عن الدوافع الذاتية. ومن أكثر الروايات اللافتة عنه أنه عندما كان في مطار لندن في رحلة علاجية صادف وجود عريس وعروسته في المطار فبهره جمال العروسة فوقف ينظر إليها نظرات المجنون كعادته مبهوراً بجمالها وليس لغرض آخر مما أثار غيرة العريس الذي عمل على أن يحجبها عن نظره ويجول بينه وبينها بجسده فما كان منه إلا أن نظم قصيدته (غيرة) رائعته التي يتغنى بها الراحل المبدع سيد خليفة رفيق دربه وأكثر من تغنى بأشعاره والتي قال فيها وكأنه يخاطب عريسها محتجاً: أعلى الجمال تغار منا ماذا علينا إذا نظرنا هى نظرة تنسى الوقار وتسعد الروح المعنى أنت السماء بدت لنا واستعصمت بالبعد عنا ورغم تعدد الروايات يقال إن عملاق الأدب العربي الراحل رحمة الله عليه العقاد سمع هذه الأبيات فأدهشته وراح يسأل عن قائلها ولما قيل له إنها لشاعر سوداني مجنون بالجمال إسمه إدريس جماع قال العقاد ما معناه إنه (حقاً مجنون بالجمال فهذا الكلام لا يقوله عاقل). وفي رواية ثانية عنه في لندن أنه أبهرته عيون الممرضة التي تشرف على علاجه فراح يحملق في عيونها ولا يسمح لعيونها أن تفلت من نظراته حتى خافت فاشتكت لمدير المستشفى الذي أمرها أن تحجب عيونها عنه بأن ترتدي نظارة سوداء ولكنها فوجئت به يقول فيها: السيف في غمده لا تخشى بواتره وسيف عينيك في الحالين بتار يعنى النظارة السوداء لن تحجب جمال عيونها ولم تغير من عشقه لعيونها وكأنه يملك قوة اختراق لا تحجبها النظارة كما توهم المدير ولما عرفت الممرضة ما رمى إليه بقصيدته في عيونها أجهشت بالبكاء لأنها أدركت وقتها قيمة إحساسه بالجمال. ولقد صنف النقاد بيته هذا من أفضل وأبدع مما قيل في الشعر العربى. حقيقة المجال لا يسع الحديث عن حكاياه وأشعاره التي دائماً ما تعبر عن مواقف وحالات عاشها في الواقع ومن وحي اللحظات وليست من صنع الخيال. ولعل الفنان الراحل سيد خليفة شكل معه ثنائية تجلى فيها إبداع هذا الثنائي حيث تغنى بالكثير من أغانيه العاطفية والوطنية فلقد تغنى له بجانب أغنية غيرة وولى المساء وشاء الهوى ووحشة الليل وربيع الخب وغيرها ما لا يسع المحال لذكره. ولكن لنتوقف عند مشاعره الفياضة في أغنتيه (ربيع الحب) و(شاء الهوى) لنرى عظمة إحساسه بالجمال حيث قال في ربيع الحب: في ربيع الحب كنا نتساقى ونغنى نتناجى ونناجي الطير من غصن لغصن ثم ضاع الأمس منا وانطوت في القلب حسرة أما في أغنية (شاء الهوى) انظروا ماذا قال: شاء الهوى أم شئت أنت فمضيت في صمت ومضيت أم هز غصن طائر غيري فطرت إليه طرت وتركتنى شبحا امد اليك حبي أين رحت يعنى كان طرت أو بقيت مكانك فحبى يلاحقك أين كنت ولوطرت لأن عشق الجمال لا يعرف الحواجز طالما أنه بلا مطامع. أما ديوانه الوحيد الذي أصدره فلقد تضمن الكثير من القصائد والأغانى منها –رحلة النيل- لقاء القاهرة- الصدى الخالد- ولحن الفداء. وأما أهم ما أجمع عليه النقاد أنه من أعظم ما نظم قصيدته التي يقول فيها: إن حظى كدقيق فوق شوك نثروه ثم قالو لحفاة يوم ريح أجمعوه صعب الأمر عليهم ثم قالوا أتركوه إن من أشقاه ربه كيف أنتم تسعدوه أبيات تجسد عمق إيمانه بقدرة الله سبحانه تعالى التي لا تدانيها قوة بشر. هذا قليل من ملامح رحمة الله عليه الشاعر الأسطورة إدريس جماع. التحية لحلفاية الملوك التي أنجبت من استحق أن نتوجه ملكاً على الشعر بين ملوك الشعر الذين أنجبهم السودان وغير السودان فملوك الشعر لايرحلون حتى لو وارينا أجسادهم الثرى فمملكة أشعارهم خالدة ما بقيت الحياة. لندعو له بالرحمة والغفران لأننا مهما قدمنا له من لمسات الوفاء لن نوفيه حقه لهذا فلنكثر له من الدعاء فهذا أقل ما نقدمه لمن أجزل لنا العطاء. إنها إرادة الله أن يرحل المبدعون وتبقى إبداعاتهم تتوارثها الأجيال ولا تندثر.