المعذرة عزيزي القارئ فقد فرض عليَّ موقف تعرضت له أول أمس أن أقطع سلسلة الحلقات حول اجتماع السيد وزير الشباب والرياضة الاتحادي مع الاتحادات الرياضية.. فرض علي أن أتناولة وأنا في قمة الأسى والحزن للتردي الذي لحق بالمواطن العادي في أهم مثلث في حياته. فالصحة والتعليم والرياضة هذا الثلاثي هو الأهم في حياة المواطن حيث أن من المفترض أن تصب كل الجهود الرسمية في الارتقاء بهذا المثلث الذي يشكل الأساس في التنمية البشرية إذا اعتبرنا أن (التارجت) في حياة الإنسان هو أن يتمتع بصحة جيدة وأن يتوفر له التعليم وممارسة الرياضة في جو معافى. حيث أن التكامل بين هذا المثلث هو الذي يعني رفاهية حياة المواطن وكلما يحتاجه من خدمات لا يخرج عن هذا المثلث، إما مرتبطاً مباشرة به أو بطريق غير مباشر. هذا الموقف الذي عايشته ليلة أول أمس أنعش ذاكرتي وأن أسترجع نشأتي في الأربعينات مروراً بالخمسينات، ثم ما بعد الاستقلال والحكم الوطني والذي تعدى الآن نصف قرن ووجدت نفسي أتحسر على عهد الإنجليز الذين احتفينا قبل بضعة أشهر بتحررنا من حكمهم. وجدت نفسي أسترجع كيف كان حال المواطن مع هذا المثلث في عهد الإنجليز وما آل اليه في عهد الحكم الوطني والذي شاء قدري بحكم عمري الذي شارف منتصف السبعين أن أكون شاهداً على هذا المثلث بين مرحلتي الاستعمار والحكم الوطني.. ويا لها من مقارنة تدفع بمن عايشها أن يتحسر على حكم الإنجليز بسبب ما شهده حال هذا المثلث رغم أهميته من تدنٍ في عهد الحكم الوطني إلى أن بلغ ذروته اليوم. شتان بين هذا المثلث في عهد الإنجليز وعهد الحكم الوطني، فالمقارنة معدومة تماماً رغم التفاوت النسبي في التدني، فالثابت أنه وبداية الحكم الوطني بدأت خدمات هذا المثلث تنحدر من أسوأ لأسوأ مع كل تغيير. فالصحة في فترة الإنجليز بمكوناتها المباشرة وغير المباشرة تمثلت في وفرة العلاح المجاني ووفرة الدواء الصالح لاستخدام الإنسان وسلامة الغذاء لتوفر الأطعمة مع توفر المياه النقية الصالحة للإنسان حيث لم يكن قاموس الحياة يومها يشهد ما يتردد كل لحظة الآن من التعرض للسرطان والفشل الكلوي وغيرها بسبب سوء التغذية فالأغذية رغم تواضعها الا أنها كانت متاحة وصالحة للإنسان حتى للمستويات المتدنية.. كذلك كان التعليم في عهدهم لن أقول عنه إنه كان مجاناً فقط، بل كانت الدولة تتحمل سكن الطلاب وإعاشتهم في مرحلة الثانوي والجامعة والمعاهد الفنية وليت الأمر كان يقف عند هذا الحد، بل كانت الدولة تدفع ما يسمى بالإعانة المادية للطلاب بالمعهد الفني وللمحتاجين من طلاب الجامعة ولم يكن هناك أي رسوم للدراسة وللكتب. أما الرياضة والتي تكمل هذا المثلث باعتبارها تربية أخلاقية لإرساء القيم ترجمة للصحة السليمة وللتعليم فكانت الرياضة تمارس على أعلى المستويات ضمن المنهج التعليمي رسمياً كما تمارس كنشاط أهلي ليس فيه استنزاف مادي كما هو الحال الآن لم تسوده السلوكيات الانحرافية وإنما كان عرساً للقيم والإخاء. الآن وفي عهد الحكم الوطني ودع السودان كلما خلفه الإنجليز من اهتمام بهذا المثلث وتسابق الحكم الوطني منذ انطلاقته على المساس بأساسيات هذا المثلث حتى بلغ هذه الدرجة التي جاء ما شهدته أو تعرضت له من موقف تعبير صادق عن هذه الحال: الحديث عن الصحة ومقوماتها بلغت العدم لما يعانيه المواطن من تدني مستوى الغذاء الذي راجت تجارة مواده الفاسدة التي تفتك بالمواطن دون حياء ولعل الأخطر من هذا التدني في مستوى العلاج والوقاية الذي أصبح تجارة بلا قيم والذي بلغ بها الحال وفي ظاهرة غريبة أن العلاج لم يعد متوفراً لمن يملك المال وللفقير المعدم، فالعلاج استغلال بشع بحياة المواطن على كل المستويات. أما التعليم فقد بلغت تكلفته عشرات الملايين ولن أتحدث عن التعليم بالدولارات يقابل ذلك تدنياً في المستوى التعليمى حتى أصبحت المدارس فنادق سبعة نجوم بلا فاعلية. أما الرياضة فحدث ولا حرج فقد سادت الرياضة لغة المليارات والدولارات مع التدني في المستوى فنياً وأخلاقياً على كل المستويات وهكذا أصبح هذا المثلث آلية لتدمير المواطن وهو الذي كان في عهد الإنجليز مصدراً لكل ما هو خير للإنسان وليس استغلال فاحشاً له. عفواً إن أفضت في هذا الأمر، ففي تلك الليلة تعرضت واحدة من حفيداتي وعمرها سنتين لارتفاع حاد في درجة الحرارة وتشنجات غريبة الأطوار رغم ما يبدو عليها من غيبوبة فأسرعنا بها لواحدة من المستشفيات الخاصة ولحظتها أبلغنا أنها بحاجة لجلكوز معين لإنقاذ حياتها وعلى وجه السرعة تجنباً لخطورة حالتها وما تعانيه من تشنج تدافعنا نحو الصيدليات لأن الجلكوز لم يكن متوفراً في المستشفى وفي الحال انطلقت خمس عربات من الأهل والأصدقاء لم يتركوا صيدلية في العاصمة وكانت النتيجة خيبة أمل الى أن بلغنا أخيراً أنه لا يوجد إلا في حوادث بحري وبعد جهد تحصلنا عليه والحمد الله والشكر لله الذي لطف بحفيدتي فانظروا كيف أصبح العلاج متعسراً بالمال وبدون المال وها هي الصحف تفيض بضحايا العلاج والصحة التي أصبحت تجارة ولو على حساب حياة المواطن فالمال الحرام أصبح لغة سوق العلاج. أما التعليم فقد حدث في ذات اللحظة التي كنا نحمل حفيدتي على عجل للمستشفى أن طرق باب منزلي امرأة وبصحبتها بناتها الثلاث وكانت تظن أنني على علاقة بالأخ صلاح إدريس وجمال الوالي لأكتب لها مذكرة لهما ليوفرا لها مبلغاً من المال تدفعه للجامعات حتى تتسلم شهادات التخريج ليبحثوا عن عمل، فلم أصدق أن تحجز الجامعات شهادات التخريج ما لم يدفع الخريج مبلغاً من المال وعادت أدراجها لما تأكدت أنه ليس لدي ما أقدمه لها.. فهل بلغ الحال بالتعليم هذا الدرك السحيق أن يحرم الطالب من شهادة التخرج بسبب المال. وفي ذات الوقت أجد أن المليارات في صفحات الرياضة فيما لا قيمة له تدفع بعد أن تدنى مستواها وأخلاقياتها. ليس لدي ما أقوله غير جملة واحدة: يا حليل الإنجليز..