«إنت مجنون؟» كان هذا السؤال الاستنكاري هو ما رد به المستر كري مدير المعارف البيرطاني في السودان، حينما فاتحه الشيخ بابكر بدري في 1904م حول نيته بفتح مدرسة لتعليم البنات برفاعة. ولم ييأس الشيخ من هذا الجواب السالب، وقد انتهز فرصة زيارة المستر كروفوت نائب مدير المعارف لرفاعة في 1906م، وكرر ذات الطلب قائلاً «إن في بيتي وحده إحدى عشرة بنتاً تستحق التعليم، وأنا ابن مصلحة المعارف، فإذا كانت المصلحة لا تساعدني في هذا أراني مظلوماً منها.. أعطوني عشرة جنيهات أبني بها غرفة وأفتح فيها مدرسة للبنات، فإذا صحت تستمر وإن لم تصح نجعلها غرفة للفراشين». ويبدو أن مثابرة الشيخ الجليل قد أفلحت هذه المرة، إذ وصله أخيراً خطاب من السير كري يقول فيه إنه لا يوافق على فتح مدرسة للبنات برفاعة، ولكن لإلحاح الشيخ فهو لا يمانع بشرط أن يفتحها في بيته الخاص.. باسمه الخاص.. على حسابه الخاص..!! وكان الشيخ بجلده هذا ومثابرته يدرك تماماً وعورة الطريق الذي اختاره، فراح ينشر الفكرة ويبشر بها في مجتمع رفاعة، مغرياً الناس بحقيقة أن البنت المتعلمة أصلح للزوج من الجاهلة، ولكنه كان لا يجد سوى الصد وحتى الاحتقار. وفي هذا يقول «كان مستمعيَّ ينكرون عليَّ قولي كل الإنكار، بل ما كانوا يقولونه لي قد يدعو غيري لليأس، ولكني كنت أدرك أيضاً أن من أخلاق العامة قصر النظر أولاً ثم التقليد بعد ظهور النتيجة ثانياً. لذلك شرعت أبحث عن امرأة تكون حاصلة على خبرة في التطريز والتفصيل والخياطة، بشرط أن تكون أيضاً من سكان رفاعة. والشرط الأخير كنت أحبذه لفائدتين: الأولى أن مثلها سيكون رخيصاً في مرتبه، والثاني هو أنها ستكون داعية للمدرسة في حيها وبين جيرانها وأقاربها. وأفضل من هذا وذاك، أن الناس لمعرفتهم بها ومعرفتهم عفافها لا يطعنون فيها بسوء. وواليت دعوتي لتعليم البنات في كل مجتمع كنت أغشاه لعلني استهوي بعض السامعين، وكثيراً ما كان يبلغني عن بعض السفلة إنني أريد أن أتقرب للإنجليز ببناتي وبناتهم، ولكن كل هذا لم يثبط من عزمي ولم يقلل من إرادتي، لتحققي من شرف مطلوبى». لله درُّك يا شيخنا، فقد جاهدت كما الأنبياء لتنشر النور وتبدد العتمة، فإن كانت بعض مناطق الريف السوداني حتى يومنا هذا تنكر على البنات طلب العلم، فما بالك وأنت تجهر بهذه الدعوة وتنذر نفسك لها في 1907م، أي قبل أكثر من قرن! وتتجلى أمانة الشيخ حين يورد في مذكراته أنه رائد تعليم البنات تعليماً «أكاديمياً» أو مدنياً كما سمَّاه، ولكن التعليم الديني للمرأة في السودان يرجع إلى ما قبل هذا بثلاثة قرون، حيث يقول: «تسع أسر مارست التعليم الديني للمرأة في السودان، كنت استخدم أسماءهم لحث الناس على الاقتداء بهم، وأولهم والد أولاد جابر الأربعة وأختهم فاطمة، ثم الشيخ ود أب صفية، والشيخ الجعلي الولي «كدباس»، والقاضي عربي بكردفان، والسيد محمد عثمان الميرغني الكبير، والحاج عطوة، والفقيه محمد المبارك «جد الشيخ أبو القاسم هاشم لأمه» والفقيه الأمين الضرير، والمهدي عليه السلام»، كل هؤلاء علموا بناتهم أو أمروا بتعليم البنات، وأخصهم بذلك كان السيد محمد عثمان الميرغني الأكبر الذي أمر بفتح الكتاتيب لتتعلم فيها البنات القرآن بسواكن، وقد رأيت هذا بنفسي سنة 1892م». «غداً نواصل».