٭ تفتح الصحف أحياناً صفحاتها وأعمدتها لمن يجعلها تنتهك أخلاق المهنة وآدابها، بل ما يدخلها في انها تطعم القارئ مادة غير مقبولة من حيث المواصفات، لا سيما عندما يكون ذلك ذا صلة بحقوق الغير وبالحقائق والتاريخ والرجم بالغيب ويجعل المراقب والقارئ يقولان بأن حارس البوابة في الصحيفة المعينة ربما كان على سنة من النوم أو غفلة جعلت ما حدث يحدث. ٭ أثار هذا كله مقال تحت عنوان «الانتحار السياسي والاقتصادي» للكاتب عبد الحليم أنور محمد أحمد محجوب نشر الجزء الاول منه بصحيفة «الصحافة» يوم الثلاثاء الماضي. ورغم ان الصحيفة معروفة بسلوكها المهني، إلا أن المقال المذكور كان فيه تعدٍ على التاريخ والحقائق والوقائع، وهذا مما يمكن تصويبه وتصحيحه، ولكن حقوق الغير والمسؤولية الاخلاقية والقانونية والادبية مما يلي الصحيفة كان يرتب عليها أن تقرأ المادة لتتخذ القرار الصائب بشأنها، لا سيما وهناك ما يعرف بسلة المهملات الخاصة برئيس التحرير لتلافي ذلك كله..!! الكاتب تحدث عن خمسمائة مليون دولار حولت من بنك فيصل الاسلامي بالمملكة العربية السعودية الى بنك فيصل الاسلامي السوداني، ابان اعلان قوانين الشريعة الاسلامية باقتراح من الترابي، ولم يكن النميري يعلم ان ذلك المال كان قد جلب لحركة الاخوان المسلمين بغرض التخلص منه. فالسعودية- كما قال- هى البنك الذي يدفع نفقات البرامج الجيوسياسية الامريكية في الشرق الاوسط وافريقيا. وبنك فيصل السوداني يخص حركة الاخوان المسلمين..!! واذا علمنا ان المملكة العربية السعودية منذئذ «3891» والى اليوم ليست بها مؤسسة مصرفية تدعي بنك فيصل الاسلامي، تعرف كم أن المعلومة كانت خطأ ومن خيال الكاتب، وإدعاؤه أن المملكة «كذا.. وكذا» فيه تجنٍ على البلد الاسلامي الكبير، وما كان للصحيفة ان تجعل ذلك يفوت هكذا.. أما أن بنك فيصل السوداني يخص حركة الاخوان، فللبنك كما هو معروف مساهموه وهم كُثر ومن كل البلاد العربية والاسلامية، ومن السودان لا ريب، وله مجلس ادارته وأجهزته الاخرى، وذلك كله متاح لمن أراد معرفة التفاصيل التي بعضها تطالعنا به الصحف من وقت لآخر.. وفي هذا ايضاً تجنٍ على مؤسسة مالية ومصرفية وطنية لها دورها الرائد في مجالها، وتخضع لمواثيق وإجراءات البنك المركزي السوداني. الاستاذ الكاتب والحال لا يقيم وزناً لحقوق الغير الادبية والقانونية. اما عن السياسة فحدث ولا حرج، حيث أن مقاله المشار اليه كان مليئاً- بالاخطاء والمشي على الالغام فهو يقول: - الصادق المهدي جاء للسلطة «في الانتفاضة طبعاً» بخطة سياسية محكمة التخطيط تم انجازها مع الترابي..! ثم يضيف- الصادق من الاخوان في الفكر والاعتقاد ولا علاقة له بالمعتقد الانصاري..!! وهذا جهل كامل بالحقائق والوقائع المعلومة للجميع، ذلك ان الترابي وجماعته وقوانين الشريعة من آثار مايو التي برأيه لا بد من محموها، ومن أقواله عندئذٍ «مايو انتهت.. فلنتبع رأسها الذنب..!!» ويقصد بذلك الترابي وجماعته. أما كون الصادق المهدي من الاخوان في الفكر، فذلك ما ينفيه الترابي الذي يقول ان الصادق في اكسفورد كان اقرب للفكر اليساري. ويكفي هنا أنه بعد دخوله السياسة دعا الى العزل بين السياسة والقداسة- أي أمامة الانصار وزعامة الحزب.. ولاول عهد حكومته بعد الانتفاضة كان قد دعا الى ما يعرف بالعائد التعويضي، وهو ما كان يعتبر ولا يزال عودة للربا. وفي هذا كلمة اشارة ودليل على ان الكاتب «حاطب ليل»، لا يعرف «ألف باء السياسة» كما يقولون، فهو يرجم بالغيب.. فضلاً عن جهله بالوقائع التاريخية. إذ يقول في مقاله: ٭ بعد وفاة الإمام عبد الرحمن المهدي كان من المفترض أن يخلفه إماماً ابنه يحيى ولكنه توفى، وبعد وفاته كان من المفترض ان يكون الإمام احمد المهدي. وهنا أيضاً يوجد جهل كامل بالحقائق والوقائع في تاريخ الاسرة المهدوية، فالامام عبد الرحمن المهدي- عليه رحمة الله- توفي في عام 9591م وخلفه ابنه الصديق المهدي، وكان لجد الكاتب «محمد أحمد محجوب» في رحيل الاول وخلافة الثاني مرثية طويلة ومعروفة. ومن خلف الإمام الصديق المهدي كان شقيقه الاكبر الامام الهادي المهدي الذي بعد رحيله في 0791 ابان احداث الجزيرة أبا، دخلت الإمامة جراء الخلافات بين آل البيت في غيبة ونومة طويلة كان عندها يحيى المهدي- رحمه الله- قد توفى. وبقى الصراع والخلاف عليها الى أن وضع السيد الصادق المهدي يده عليها في مؤتمر هيئة الأنصار في مزرعته بالسقاى في عام 3002م. وقد حفل مقال الكاتب بهذه الاخطاء والاغلاط الكثيرة البادية للعيان، كان ينبغي لقلم التحرير أن يكفي القراء شرها، خاصة الاجيال الجديدة التي ليس لديها الكثير عن التاريخ، إذ ربما لا ينتبه أحد الى ضرورة التصويب والتصحيح المعلوماتي والمهني والاخلاقي والقانوني والادبي. فحق الرد مكفول- تلك حقيقة وممارسة مهنية صائبة غير أنه- كما تقول الحكمة- درهم وقاية الآن.. يكلف قنطاراً من العلاج في المستقبل..!! تأسيساً عليه، اتصور ان إدارة «الصحافة» وربما غيرها من مجتمع المهنة والصناعة، سيضعهما مثل هذا التعقيب والتنبيه الذي هو بمثابة «صفارة إنذار» أمام المسؤولية في النأى بالقراء والمجتمع من تناول أطعمة ووجبات لا تخضع لمعايير الجودة والخلو من الآثار الجانبية الضارة بالصحة. ولي في مثل هذا التنبيه ونقطة النظام تاريخ طويل في بلاط صاحبة الجلالة، لأن السير في شارع الصحافة، وهو حق، يحتاج الى شرطة مرور، وربما في عصر التطور والادارة التقانية والالكترونية أجهزة رقمية ترعى السلامة وتحفظ لكل ذي حق حقه. والكاتب وضعته الظروف أمام نقطة النظام هذه التي لم تخلُ من العنف في التعبير، ولكن المقصود هو مصلحة القارئ والمهنة، فالسير في شارع الصحافة والرأى- كما الشارع العام- لا يعني «البرطعة» والخروج عن الجادة، ولصاحب مائدة الرأى أن يختار لمائدته ما يرى، ولكن ذلك ليس بمعزل عن إعمال ما يلزم عمله، لتبقى المائدة شهية وجاذبة وخالية مما يضر بالصحة العامة. وأحسب أن صحيفة «الصحافة» في ميلادها الاول والثاني والثالث والحالي ليست بعيدة عن ذلك كله، غير أن «اللوم بالغفلات..!» كما نكرر في ثقافتنا الشعبية.