مقتل مواطن بالجيلي أمام أسرته علي ايدي مليشيا الدعم السريع    تمبور يثمن دور جهاز المخابرات ويرحب بعودة صلاحياته    تقرير مسرب ل "تقدم" يوجه بتطوير العلاقات مع البرهان وكباشي    مصر لم تتراجع عن الدعوى ضد إسرائيل في العدل الدولية    حملة لحذف منشورات "تمجيد المال" في الصين    بعد الدولار والذهب والدواجن.. ضربة ل 8 من كبار الحيتان الجدد بمصر    أمجد فريد الطيب يكتب: سيناريوهات إنهاء الحرب في السودان    يس علي يس يكتب: الاستقالات.. خدمة ونس..!!    500 عربة قتالية بجنودها علي مشارف الفاشر لدحر عصابات التمرد.. أكثر من 100 من المكونات القبلية والعشائرية تواثقت    مبعوث أمريكا إلى السودان: سنستخدم العقوبات بنظام " أسلوب في صندوق كبير"    قيادي بالمؤتمر الشعبي يعلّق على"اتّفاق جوبا" ويحذّر    (ابناء باب سويقة في أختبار أهلي القرن)    عصار الكمر تبدع في تكريم عصام الدحيش    عبد الفضيل الماظ (1924) ومحمد أحمد الريح في يوليو 1971: دايراك يوم لقا بدميك اتوشح    الهلال يتعادل مع النصر بضربة جزاء في الوقت بدل الضائع    محمد الشناوي: علي معلول لم يعد تونسياً .. والأهلي لا يخشى جمهور الترجي    مطالبة بتشديد الرقابة على المكملات الغذائية    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تخطف قلوب المتابعين وهي تستعرض جمالها ب(الكاكي) الخاص بالجيش وتعلن دعمها للقوات المسلحة ومتابعون: (التحية لأخوات نسيبة)    شاهد بالصورة والفيديو.. "المعاناة تولد الإبداع" بعد انقطاع الماء والكهرباء.. سوداني ينجح في استخراج مياه الشرب مستخدماً "العجلة" كموتور كهرباء    بالفيديو.. شاهد رد سوداني يعمل "راعي" في السعودية على أهل قريته عندما أرسلوا له يطلبون منه شراء حافلة "روزا" لهم    برشلونة يسابق الزمن لحسم خليفة تشافي    البرازيل تستضيف مونديال السيدات 2027    مدير الإدارة العامة للمرور يشيد بنافذتي المتمة والقضارف لضبطهما إجراءات ترخيص عدد (2) مركبة مسروقة    منتخبنا فاقد للصلاحية؟؟    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أقوال في صحو مارد الهضبة وغفو مارد السهل
نشر في الصحافة يوم 26 - 08 - 2010

«يا بنتي لا تتهيبي أبدا من أحد، فكلنا أبناء تسعة»، نصيحة بذلها الإمام الصادق المهدي للسيدة نسرين سوركتي محاورته في برنامج «الوجه الأجمل» الذي تبثه قناة «الشروق» عندما أخبرته في نهاية اللقاء بأنها استمتعت بمحاورته لكنها تهيبتها في آن. وقد نشأنا على هدى تلك النصيحة، ومن بابها سأخوض غمار تجربة وعرة بكل مقياس ألا وهي التعليق على المقالات جيدة السبك وافرة المعلومات عنوانها «لماذا يصحو مارد الهضبة ويغفو مارد السهل؟» والتي تقدم كاتبا موسوعيا هو د. النور حمد، وقد نشرتها صحيفة «الأحداث» على مدى ما يقارب الخمسة أشهر بواقع مقال في الأسبوع، وقد بلغت حتى يوم كتابتي لعمودي هذا «18» مقالة.
صحيح لم تنقضِ المقالات المتسلسلة بعد، وقد وعد دكتور النور حمد بتوسيعها في كتاب، لكني اعتقد أن فكرتها الأساسية قد وضحت بالنسبة لما أردت متابعته بكيف؟ ولماذا؟
لبلوغ ما أرمي اليه سأقسم ما أكتبه الى أربعة أقسام: قسم يعلق على روح المقالات المتسلسلة عموما، وقسم لتلخيص أهم النقاط التي وردت في المقالات المتسلسلة حتى يتمكن القارئ الكريم من متابعة ما أقول، خاصة أن تلك المقالات أتت في «18» حلقة حتى اليوم ومدى زمني طويل نسبيا، مما يجعل الصابرين على متابعتها قلة، وأرجو أن أنجح في عرض أهم ما ورد فيها من أفكار دون ابتسار مخل، وإن كنت أنصح بورود منهلها من المصدر لأسلوبها الباذخ الشيق ومعلوماتها الثرة المتنوعة، وقسم يعلق على نقاط بعينها وردت في المقال، أما القسم الرابع فلمتابعة كل ما ورد من اتهامات بشأن المهدية في المقالات.
القسم الأول:
في البدء لا بد لكل ذي عقل من الترحيب غير المتردد بكل الجهود التي تبحث في أسباب ما اعترانا، وكيف نخرج وننطلق. ومن هذا الباب احتفي مبدأً بجهود د. النور، ولكني أرى أن تلك الجهود لا بد أن تلف بثياب الأمل، فجلد الذات وارجاع أزماتنا بالكلية الى الخلل في الإنسان السوداني بسبب تشبثه بهوية زائفة، فليسمح لي الكاتب بمغالطته، فهذا لن يجدي خاصة أن ذلك التعميم يتجاوز انجازات سبق أن حققناها، فالرأي عندي أن ما ينفعنا ويكفينا القراءة الصحيحة للتاريخ، وليس محاولة الالتفاف عليه ونكران بعضه! ثم أعيب على روح المقال كذلك طابع وسم بعض المهجريين من الذين أجبرتهم الظروف الطاردة في الوطن على مغادرته، ورغم أنهم لم يتركوا من تركوهم يطأون الجمر في الوطن ورائهم ظهريا، بمثل هذا التواصل الحميم مع قضايا الوطن عن طريق الصحف وغيرها، ولكن بعض النبرة بها تعال. ومن العيوب الأخرى التي استشففتها من روح المقال عدم التحبير بوضوح على أن أس أزماتنا هي الانقاذ وأخواتها، فقد أخرجت الانقاذ خاصة أسوأ ما في انسان السودان، اذ ردته بدائيا الى رحلة البحث عن الكلأ، وأذلته واستصغرت شأنه، ومزقته أشلاء حتى عاد بدويا يحتمي بالقبيلة. ثم من العيوب التي شابت روح المقال المتسلسل استبطان كراهة المهدية وعدم الاحتفاء بجهدها الأساس، وهو وضع لبنة الوحدة الوطنية بما جعل ام درمان الأولى، وكذلك أبا في طور المهدية الثاني بوتقتي انصهار لكل أبناء الوطن الذين حققوا الاستقلال الأول والثاني، وهذا مستغرب من كتابات تقول إن هدفها استكناه أسباب الركود ونكران التشرذم إحياءً للوحدة الوطنية في طريق النهوض، فذلك الذي ذكرت نموذجا سودانيا يشكل سابقة تحتذى ولا يجب تجاوزها.
القسم الثاني: أهم أفكار المقال
تحدث د. النور عن أهمية التعرف على عناصر التكوين الحضاري سبيلا للانطلاق في طريق النهضة، وأن حضارتي وادي النيل الأوسط المنطقة التي عناها بالسهل والهضبة الحبشية انطلقتا من ذات الأصول الكوشية الأفريقية ذات المدد الروحاني ثم افترقتا، مما استدل عليه بوجوه التشابه بيننا والأثيوبيين . ثم تعرض الى ان التميز والتماسك في الشخصية الأثيوبية كان بسبب أنها حضارة لم تتعرض للانقطاع عن جذورها الروحانية بالمقارنة مع شخصية انسان السودان أو السهل المنبت عن جذوره الأفريقية المهلهل الذات، التائه عن أصوله تمسكا بهوية زائفة ليست له. قاطعا بأن مشكلتنا الأساسية في السودان التي لن نبرأ أو نخرج من أوجاعنا الا ان عدنا لأصولنا الروحانية وأدرنا ظهورنا إلى الدين المؤسسي والفقه الشكلاني. ثم جزم د. النور بأن الروحانية في طريقها الى العودة، والحفر في هذه الروحانية هو الذي سيدفع بالمشترك بيننا وأهل الهضبة، وهو الذي سيضعنا في الطريق الصحيح. ثم تحدث عن التعلق المرضي «النوستالجيا» للعرب حنينا الى ماضي أمجاد العرب والتباكي على السيطرة على الأندلس، الشيء الذي طالنا نحن السودانيين بالرغم من أن انتمائنا العربي ذاته تم بعد ضياع الأندلس، وهو وهم لا يفعل بنا سوى التأخير، ذلك أن التصور السائد بأن العرب هم من أتى بالاسلام للسودان، هو صحيح، لكنه يحتاج لاستجلاء، لأن الإسلام جاء مع التجار والرعاة والبدو وليس العلماء، وقد وجدوا عندنا قيماً حضرية تفوق ما عندهم، فكان أن أبدلونا الذي هو خير بالذي هو أدنى ومجرد بطاقة اسلامية، لا تحمل معها قيم الاسلام الحضارية التي جوهرها العدالة والمساواة، وان لم يقدم الاسلام بهما فذلك تدثر بالاسلام لا يعني شيئا، ومنذ عهد الرسول «ص» والشيخين كانت الفتوحات الاسلامية أطماعا سلطوية لا تهدف لنشر الاسلام بل المنافع الدنيوية. وذكر غزو السودان بالرغم من اسلامه، وبنود اتفاقية البقط تدليلا على أن الطمع فقط هو دافع الغزو. ومنذ الحاق السودان بمراكز خارجية مهيمنة لا تملك طاقات ولا وعودا مستقبلية، مما أحكم حبسنا في هذا التيه الطويل في دوامة العجز وهزال الثقة بالنفس ومركبات النقص التي تطلب الاجازة والقبول من مراكز للعروبة والاسلام. وقد تمكن المهاجرون البدو عبر نظم الوراثة السائدة في بلاد النوبة، من فرض سيطرتهم على السهل، وزاد الطين بلة بالفقه المؤسسي الذي أتى به الحكم التركي مع غزو محمد علي للسودان في 1821م، فنحن بحاجة الى التخلص من صورة رسمناها في مخيلتنا الجمعية تعتمد الدين بوصفه مرتكزا حضاريا، وتهمل الارث الثقافي والحضاري المتراكم عبر الحقب، وقد أورد أمثلة لأمم نهضت بسبب تمسكها بإرثها الحضاري مثل الحالة الصينية التي لم تتأثر بمؤثرات خارجية، والفرس الذين اعتنقوا الاسلام ولكنهم ظلوا فرسا، وأهل الهضبة أنفسهم الذين اعتنقوا المسيحية والاسلام دون تنكر لارثهم، بل وطنوا تلك الديانات السماوية بحسب ظروفهم المحلية، مما جعل التعايش المتسامح سمة أثيوبية.
وخلص الكاتب الى أن ليس من أغراض مقاله اعلاء شأن الهضبة والحط من قدر السهل، لكنه يقول إن امكانية نهوضها أكبر، ذلك أنها بسبب التواصلية الحضارية هم أكثر استقرارا وأكبر قدرة على التحاور فيما بينهم وعلى اطفاء الحرائق ولبعدهم عن المخاطر التوسعية والمطامع الخارجية الصراح. بينما ابتلينا بسبب الانقطاع عن أصولنا الروحية والانبهار بالوافد دون تمحيص، بالشوفينية ومزاج البداوة المتمرد على السلطان- والسلطة المركزية ضرورية في البداية للنهوض، وابتلينا بالتهاون في قيم العمل واحتقار العمل اليدوي، واهمالنا منذ سقوط مروي للروح الصناعي والبناء الهندسي «بناء القش والطين بدل الحجر» وأن الاستعمار بمكره والشموليات المحلية أذكت الروح العشائرية والقبلية التي تثبط المنحى القومي.
ثم تعرض الكاتب للمهدية مرات عديدة بلغت «15» مرة خلال مقالاته ال «18» ومازال يذكرها بالشر بمناسبة وبدون مناسبة، بالنظر اليها باعتبارها قوة قامعة للتعدد.
ولقد راجعه د. عبد الله علي ابراهيم لكي لا يعجل بالحكم على الخليفة عبد الله بالطريقة التي ذكرها، وقد احتفى هو بمراجعات د. عبد الله عادا اياها من تناجي العلماء، ولكنه لم يتراجع عن أحكامه الجزافية حتى آخر لحظة.
وسأتناول مرورا مناقشة بعض أفكار المقال في القسم الثالث وصولا «لما قاد النار في حشاي ملالة» في القسم الرابع، ألا وهو ذلك الهجوم الكاسح على عهد اعترف الدكتورنفسه بأن فضله على السودان سابق، اذ وحد السودان وأقام أول حكم وطني، ولكنه يرميه مرة تلو المرة بما يجعل هذا الاعتراف الاضطراري حبرا على ورق.
القسم الثالث:
اذا سألتم الله فاسألوه الفردوس:
بالنسبة للمقارنة التي خلص بها الدكتور للفرص الكبرى التي ترجح تفوق أهل الهضبة علينا وما يراه من تمتع الشخصية الإثيوبية بصفات متصالحة مع شروط الحداثة، أقول إن مثل تلك المقارنات ربما لا تصلح للتعميم هكذا، فرغم معرفتي الشخصية وتعاملي اللصيق مع إثيوبيين، اذ ساهمت في تربيتي سيدة إثيوبية اعتز بنموذج تعاملها في الصدق والحنو والوفاء والاخلاص لعملها كراهبة، مما أشاد به والدي الإمام الصادق في منابر عديدة، شاكرا للدور الذي لعبته في حفظ فلذات أكباده حينما جارت الشموليات التي أبعدت الوالدين، وقد ظلت على مسيحيتها ردحا من الزمان ثم تحولت تدرجا الى الاسلام، دون أن يغير ذلك من فضائلها شيئا. ولكني لا أزعم أن تلك الصفات تصلح للتعميم، ولا أشهد بأن سيدات سودانيات خلون منها أو هي تفوقت عليهن فيها. فمثل تلك الأحكام يحتاج تعميمها كما هو معروف من شروط البحث العلمي لدراسات معتمدة.. كذلك يحتاج مثل ما ذكر من مقارنة الى النظر في المعايير التي تُقاس بها درجة النمو، لنستطيع الركون الى ان نموذج الهضبة للنهوض راجح. ولا تكفي الاشارات التي ذكرها بتفوق الخدمات الإثيوبية الجوية ومطارها على سودان «طيرنا» ولا النموذج الآخر بمقارنة عدد سكان الخرطوم المتدفق بأربعة ملايين فقط يسكنون أديس أبابا، بالرغم من أن عدد سكان أثيوبيا «80» مليون، فتدهور الخدمة المدنية عندنا بما لا يقارن، وواقع المدن التي تريفت بسبب الريف الطارد يعود فضلها حصريا للحكومة التي تحل بالسهل منذ أكثر من «20» عاما والأيام مقبلة! ولما كانت شهادة الدكتور غير مشفوعة بتلك الشروط التي يعمم بها الافتراض فلن نستطيع أخذها دون تساؤل. فإن كان الواقع ينبئك بأكثر مما يفعل أي شيء آخر كما قال الدكتور، فكثيرون يلحظون كم يحترم انسان شرق أفريقيا والأحباش منهم السودانيين، ويحبونهم كنموذج أعلى، وربما لم يكونوا على صواب، ولكن هذا هو الواقع. وأذكر أنني وزوجي قد التقينا بشخص من جيبوتي في ألمانيا في التسعينيات، وقد عرفنا عليه صديق مشترك، فأخذ يحكي لنا بانبهار ظاهر كيف أنه ما أن يلمح شخصا جالسا على رجليه على بلاط محطة القطار المرصوف في ألمانيا وهو يمسك بشيء كأنما يرسم به على الأرض ليصف لشخص آخر عنوان مكان، حتى يندفع نحوه محييا «أهلا يا زول»! وحكى لنا عن أشرطة الكاسيت التي يقتنيها لفنانين سودانيين وما يحفظه من غناء سوداني، كل ذلك وهو لم يرَ السودان ولا مرة! فتدل هذه الحكايا على أننا في التفكير الجمعي لشعوب شرق أفريقيا مثالا أعلى. فكيف نريد أن نقلب الآية الآن؟ثم ما هذا النموذج الذي ينصحنا الكاتب بالتطلع له، ألا نرى أعداد الإثيوبيين المتدفقة نحو السودان ؟ ألا يعني ذلك أنه في نظرهم وضع أفضل؟
ثم ذكر الدكتور في أطروحة أساسية أن التمسك بهوية زائفة هي العربية يمثل تنصلا وانقطاعا من روحانيتنا، وهذا الزيف هو الذي يعطل مسارنا اليوم، فالعروبة والاسلام التي نراها أصلنا ليست مبعث فخر ولا ينبغي لها أن تكون، ذلك أن الاسلام الذي أتانا قطع علينا وصلنا النوبي المسيحي، وقد جاء يحمله البدو والرعاة وليس العلماء. ولكن كثيرين ذكروا أنه خاصة الهجرات العربية من ناحية الشمال انما أتت بالعلماء والدعاة وأيضا الثوار الذين أخرجوا من ديارهم بعد أن حوربوا واضطهدوا في دينهم في زمان بدأت فيه قيم الاسلام الحقة في الأفول، فيمموا شطر السودان وأسهموا في تحوله نحو الاسلام. ولا أدري ان كان من المفيد لنا أن نقفز بالزانة فوق واقعنا، اذ يرى كثير منا أن انتماءه عربي، ولا يجب أن يكون ذلك مانعا لآخرين منا يرون أن هويتهم أفريقيا، فهذا التعدد متى ما وجد بيئة تحسن ادارته يصب ايجابا في النماء والعطاء، خاصة أن كلا من عرب السودان أو أفريقيا يتميزون بخصوصية جعلت الأمير الحسن بن طلال يشهد للامام الصادق بأن السودانيين يختلفون عن بقية العرب بما يسميه هو الانسانيات السودانية، وقد شهد الجنرال الكيني سيمبويا الذي شهد محادثات السلام السودانية في نيفاشا بذلك أيضا لملاحظته بأننا كذلك لا نشبه بقية الأفارقة، فهذه الخصوصية السودانية التي أسهمت فيها الحضارة النوبية والمسيحية والطريقة التي تسرب بها الاسلام تسربا والمهدية وفترة الحكم الثنائي والاستقلال والثورات التي اقتلعنا بها الدكتاتوريات، كلها صبت في بلورة شخصية سودانية، وما يميزها من خصوصية تجسدت في أخلاق السمتة، وهي الكرم والكرامة والمروءة الاقدام التسامح والستر كما قال الامام الصادق، فالاعتزاز بها وتحبيرها وتنميتها هي دربنا الصحيح. وليس انكار أحد مكوناتها كجلد نسلخه ساعة نشاء.
القسم الرابع:
هجوم كاسح على المهدية:
أولا أورد الكاتب حروب المهدية ضد الحبشة كمخالفة لأمر الرسول الكريم، ولا يصح أن نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض، لأن التوجيه النبوي كان «اتركوا الأحباش ما تركوكم»، فإن لم يتركونا يكون هذا غلاطا لا يصمد لحجة، ذلك أن عهد الرسول للنجاشي الذي أوى المسلمين حينها لا يمكن تمديده ليشمل ما أخذ به الحكام بعد منتصف القرن التاسع عشر من سياسة تنصير السكان بالإكراه، إذ أعلن ثيودور الثاني أن كلمتي إثيوبية والمسيحية ينبغي أن تصبحا مترادفتين، كما عقد خلفه يوحنا الرابع مجلساً كنسياً عام 1878 قرّر إعطاء المسلمين ثلاث سنوات والوثنيين خمساً ليظهروا تنصرهم علانية، وألزم المسلمين ببناء الكنائس في مناطق سكناهم. ويعدّ ميخائيل والد ليج إياسو الذي خلعه هيلاسلاسي ومناصروه عام 1916م، أحد الذين أُجبروا على الارتداد عن الإسلام، وكان اسمه قبل التنصر محمد علي.
ودمغ الكاتب المهدية بضيق الأفق مدللا على ذلك بشواهد منها رفض الخليفة عبد الله عروض التحالف التي عرضها عليه منليك، مع أن ذلك العرض كما تجده في الاقتباس التالي من مقالة لدكتور عبد الله علي ابراهيم هو مجرد مكر «حباله بلا بقر» قال د. عبد الله في معرض تعليقه على مقالات النور «لن تجد في حيثيات من أذاعوا «تعصب» الخليفة و«براغماتية» الحبوش أية إشارة لاتفاقية هيوت «1884» بين الملك يوحنا «1872 1889م» مع الإنجليز أو بتواثق الإنجليز مع الامبراطور منليك باتفاقية 14 مايو 1897م. ففي اتفاقية هيوت التزم يوحنا بفك عزلة الحاميات التركية المصرية بشرق السودان بكسلا وغيرها التي قطعتها المهدية. وتعهد أن يبلغ بها بر ميناء مصوع. وفي مقابل ذلك حصل يوحنا على تسهيلات تجارية شملت استيراد السلاح. وقال مؤرخ إن يوحنا نفذ ما يليه من الاتفاقية بإخلاص مقارنة بنكد بريطانيا في ما يليها. وأدى التزام يوحنا بنجدة حاميات الترك إلى صدامه العنيف مع المهدية الذي انتهى بمقتله في معركة المتمة في 1889م.
وكانت اتفاقية بريطانيا مع منليك في 1897م سبباً لينفر الخليفة من عهده للسلم والتحالف. ولكن يعيب كتابنا على الخليفة التأبي على محالفة منليك جزافاً، مع نهوض الشواهد أن الخليفة مال إلى عرض الحبش. بل أكرم وفادة مبعوثهم بالمكروه عمداً ليفك عقدة لسانه كما قال مؤلف «التكالب على أفريقيا» المشهور. ولكن أهم من ذلك اختلاف المؤرخين حول صدقية عرض منليك للخليفة. وشهدت «مجلة التاريخ الأفريقي» في الستينيات جدلاً بين المؤرخ الأمريكي ماركوس والإنجليزي ساندرسون «عميد كلية آداب الخرطوم في الستينيات» حول جدية منليك. وكان من رأي ساندرسون أنه جاد بينما شك ماركوس في ذلك. ويبدو أن كتابنا ورثوا ساندرسون المختص بتاريخ السودان وأهملوا ماركوس المختص بالتاريخ الاثيوبي» انتهى.
ثم ذكر الكاتب احتفاله بالإسلام الصوفي، بينما تناسى قول الإمام المهدي الحق الذي أشار إلى أن دعوته جمعت محاسن ما في الطرق الصوفية، وأضافت ما يلزم للعمل الإيجابي والجهاد. هذا وارد بيانه في خطابه للشيخ محمد الطيب: «الطريقة فيها: الذل، والانكسار، وقلة الطعام والشراب، والصبر، وزيارة السادات. فتلك ستة. والمهدية أيضا فيها ستة: الحرب والحزم والعزم والتوكل والاعتماد على الله واتفاق القول».
وأنكر على الامام المهدي اهماله للخرطوم مفضلا ام درمان «أم بناية طين» مدللا بذلك على استحالة التحضر والتدين في نظر «المهدويين» كما قال، وفي هذا اهمال لأهم عناصر الدعوة المهدية وهي الزهد بمعناه الايجابي الذي به استطاع الامام المهدي مناطحة القوى الاستعمارية وسلاحها الناري، وهي أيضا تجاهل لحقيقة أن الانتصارات والتوسع الاسلامي في عصر الفاروق عمر مثلا لم يقلل من روعته كون الراشد عمر ينام تحت الشجرة، ويستأذن المسلمين لكي يبدل كسوته المهترئة، ولكنها أيضا شهادة لا تقرأ صفحات التاريخ بحيدة، فمعلوم أن المهدي وخليفته صارا يستعينان بأدوات الزمن، فبعد محاولة فتح الأبيض بالصدور العارية والسلاح الأبيض، جمع الأنصار ما استطاعوه من سلاح ناري استعانوا به على فتح الأبيض بعد حصارها، ومعلوم أنه تمت الاستفادة من نظم الحفظ الادارية عند الأتراك بما سجله أبو سليم، وقد رصد أن الأنصار اهتموا بالتدوين والتوثيق حتى فاق ما كتبوه في عقد من الزمان ما كتبه السودانيون لاحقا في «30» سنة، ولو طال عمر المهدية لربما شهدنا مواكبة للزمن أظهر شاهدها أن المهدية في طورها الثاني اتخذت أسلوبا مغايرا لتحقيق الاستقلال استخدم أدوات الزمن المتاحة من دبلوماسية وأساليب الجهاد المدني، بل لدرجة توظيف مظهر الملبس والمسكن بصورة حفظت بها روح المهدية حية لم تزل. والمهدية في طورها الثالث تبنت أساليب تسنم المناصب انتخابا، فحتى الامام ينتخب، وكل مؤسسة شؤون الأنصار منتخبة، وقد تبنت هيئة شؤون الأنصار مسؤولية الاجتهاد في كل ما يطرأ الحاقا للأصل بالعصر، وصوتها هو الأعلى في الدفاع عن مشارع الحق، وفعلها هو الأمضى في كل أمر . ولا عجب فسر الدعوة كامن في مقولة الإمام المهدي «لكل وقت ومقام حال ولكل أوان وزمان رجال»، فكان هذا مفتاح تطوير الأحكام، أما مفتاح تطوير القيادة فسره: من تقلد بقلائد الدين ومالت إليه قلوب المسلمين.
وطفق الدكتور في تركيم النتائج التي لا تستند للواقع ولا للمنطق، بقوله إن المهدية قد غدت أثرا بعد عين! اذن ما ذا يفعل هذا الوجود الأنصاري الذي قدرت أعداده بما يفوق ال «8» ملايين بما يشكل خمس عدد سكان السودان. ثم قوله إن قناعة الناس بالمهدية قد تضعضعت، وطال ذلك حتى قائدها، ولا ندري ما هو المرجع الذي استند اليه في تلك الأقوال، ولكن قلوبنا التي تنبض حية تؤكد أن هذا كلام لا يسنده واقع، وقد أورد استشهادا على تراجع المهدية من مذكرات شيخ بابكر بدري الذي قال بأنهم كانوا يندفعون الى الموت بصدور عارية، وفي النهاية صار هو يتفرج على كسرة كرري مترقبا انتصار العدو لتستقر الأوضاع، وهذا الكلام رغم قيمة قائله الذي لم يتنصل من عقيدته الأنصارية، لا يعدو أن يكون لحظة ضعف انسانية اعترت فرد لا يمكن تعميمها واتخاذها دليلا على موات الدعوة، فهناك نماذج سجلها التاريخ تؤكد تمسكا لا يتراخى «كان السما اتكا وجلد النمل اتسلخ»!
والصورة الأخرى التي سجلها الأعداء أنفسهم «تشهد بها كرري يوم حيروا البريطاني»، صور للبطولة والشجاعة جعلت تشرشل يقول: «إن هؤلاء الأنصار لم نهزمهم، ولكنا قضينا عليهم بتفوق الآلة الحربية».
ان كان هذا التخاذل عاما لما سمعنا بأنصار أو مهدية الا في أضابير الكتب الصفراء، ولكن مشاهداتنا الحاضرة تؤكد أن أجيالا ثلاثة تفصلنا عن المهدية تحفظ الدعوة حية في النفوس، فنجد الجد والحبوبة والبنت والولد والحفيد والحفيدة يحلفون برب المهدي عليه السلام لا يتزحزحون.
أما قوله إن المهدي نفسه تراجع عن دعاويه، فلا نحجر عليه عدم الايمان بمهدية الامام المهدي تأكيدا لمواكبة الزمن، فلو كان الكفر بالمهدية حينها مساويا لخيانة الوطن إذ لم تسمح ظروف ذلك الزمان الا بتصنيفين: خائن هو مع العدو ومؤمن مع الوطن، لكننا لا نجد تفسيرا البتة يشرح لنا كيف فهم الكاتب أن الامام المهدي قد تراجع ؟! فذلك عجب ما بعده عجب، ولم نسمع به من عدو ولا صديق، وان كان يعني زهد الامام المهدي في العيش بعد فتح الخرطوم وتعلقه باللحوق بالرفيق الأعلى وغضبه من عدم فهم بعض أهله للمهدية باعتبارها ملكا مما أصدر فيه منشورا يتبرأ فيه من هذا الفعل ومنهم، ويوضح أن من يقعد به عمله لن ينهض به حسبه ونسبه، فهذا لا يمكن أبدا تحويره ليكون تراجعا أو تضعضعا، بل على العكس ذلك تمسكا أكبر بالفكرة نقية. وقد ضرب خليفة الصديق مثلا في الحكمة وبعد النظر بذلك الاستشهاد الرائع الذي ضحى بالدولة ليحيي الدعوة.
يقول الكاتب أنه يرحب بمراجعة التاريخ الذي يعمد الى تمجيد المهدية والامتناع عن نقدها كرديف للوطنية الحقة. والحق أن هذا هو عكس ما حدث، فقد بدأ الكتاب يكتبون عن المهدية مواصلة لما زرعته أقلام الاستخبارات وسياسات فرق تسد، وما صدقنا أن مراجع علمية يعتد بشهادتها دعت صراحة لقراءة أكثر صدقية للتاريخ لا تعتمد «أقوال خمارة حبوباتنا» كما ذكر د. عبد الله علي ابراهيم الذي استمر في الدعوة المبروكة لمراجعة دور خليفة الصديق بقوله «أما آن لهذا الفارس أن ينهض على قدم وساق، لنشهد وجهه النبيل في زحام التاريخ» وقوله: «لنقرأ الخليفة كخليفة للصديق لا كصحيفة سوابق للإنقاذيين».
وسلمتم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.