هذا هو يومي الثالث بمدينة النهود أحد محليات ولاية شمال كردفان ، فى مهمة صحفية لمتابعة مجريات سير الحملات الانتخابية برفقة وفد حزب المؤتمر السوداني الذي يقوده رئيس الحزب ومرشح الدائرة القومية 13 النهود وأريافها ابراهيم الشيخ عبدالرحمن، هتافات وأكتوبريات ترددها مكبرات الصوت فى كل أرجاء المدينة والقرى التى تتبع للدائرة ، ملصقات ولافتات تغطي جدران الشوارع ، حشود من كل الاتجاهات تنتظر منذ الصباح وحتى ساعات الليل الاولى للدخول فى اجتماعات مطولة مما يجعلك تتخيل ان صناديق الاقتراع قد وضعت وتم قفلها بالشمع الاحمر، بالجانب الآخر اختفت أية مظاهر للمنافسين الثلاثة سلمان الصافي مرشح المؤتمر الوطني ومستور بليلة ودكتور أحمد حامد على الرغم من وجود ملصقات وجداريات لمرشحي تلك الاحزاب بالمستويات الولائية تتوزع بارجاء المدينة بجواره رموز المرشحين المستقلين لنفس المستوى ، هذا هو المشهد السياسي. «الصحافة» خرجت لتستطلع آراء الناخبين فى محاولة لقراءة الرأي العام بالمدينة قبل حضور قادة اعلان جوبا مساء السبت لعقد ليلة سياسية بالمنطقة ضمن تدشين حملة حزب المؤتمر السوداني غير ان الامر اختلف تماما وتبدلت الفكرة من تقرير سياسي عن مجريات الانتخابات الى قضية اصبحت هي الشغل الشاغل فى منطقة اغلب مواطنيها يشكون من ضيق ذات اليد . لا تذهبوا بعيدا لن احكي عن جنون التقاوي و مرض هستريا الضحك الذي اصاب عدداً من المواطنين هنا فى الاسابيع الماضية وهرب منه الكثيرون بعيدا ، ما سنكشف عنه هو شئ آخر يسيل له لعاب الجميع ويذهبون بحثا عنه ولا يفزعهم بل كشفت بعض التقارير الصحفية فى الفترة الماضية ان عدداً ليس بالقليل فضل لقاء الموت فى سبيله شمالا بولاية نهر النيل ،انه جنون الذهب الذي تحدثت عنه العديد من وسائل الاعلام واصبح الشغل الشاغل للجميع يسيطر على جلسات السمر بين مكذب ومصدق ، فى كل اصقاع البلاد المختلفة ، هاهو يتجه غربا فى ادارية «فوجه» وقراها المحيطة (ام قصة ، كاملونة ،خمجت ، وام دريساية) التى تبعد مسافة 200 كيلو متر عبر طريق ترابي فى اتجاه الريح من محلية النهود بلغة اهل المنطقة والتى تعني «شمالها» ، ( ياراجل الناس تبحث عن الذهب ) هكذا اخبرني عبدالعزيز الدباغ احد اصحاب ورش الحدادة بمدينة النهود عندما سألته عن احد الصاغة بالمنطقة ، وردد اسماء المناطق التى ذهب اليها لاسأله مرة ثانية مستفسرا عن مايقصده فانا اعرف ان الذهب بنهر النيل وليس بكردفان لم يتردد وطلب من الحاجة مدينة احمد فضل بائعة شاي كنا نتناول عندها القهوة صباح الامس ان تريني احد الحجار التى بها الذهب، لم اصدق ما تردد فى الوهلة الاولى لكن اصرار عدد كبير من المواطنين كانوا بجوارنا دفعني لتقصي الامر والبحث عن تفاصيل وخبايا ذهب فوجه بشمال كردفان ، «عبدالقادر للي» احد الصاغة بالمنطقة تحدثت معه عبر الهاتف اكد لى الرواية وزاد قائلا « ليس لنا اى شئ نعمله هذه الايام سوى الكشف عن ما يأتي به المواطنون من حجار يريدون ان يعرفوا هل بها ذهب ام لا ليبيعوها او يغفلوا راجعين بحثا عن رزق آخر وتجريب حظوظهم مرة ثانية او ثالثة « من هناك تحركت صوب سوق الذهب بالمدينة بحثا عن معلومات اكثر تأكيدا ودقة ولازالت عبارات حاجة مدينة بائعة الشاي تدور فى اذني - انا سارحل الى فوجة فكوب الشاي السادة بجنيه كامل ، مردفه ليس بمقدورى حفر الارض لكن كل عشرة رجال من الباحثين يعنون الكثير - الآن انا داخل سوق الصاغة اتحدث الى عابدين محمد عباس واجلس فى ذات المقعد الذي شكل جزءً من ذاكرة طفولتي بنفس المكان الذي ذقت اشكالاً من العقاب والتوبيخ بجانب التحفيز والاطراء قبل رحيل مؤسسة الشيخ عباس الفكي على منتصف التسعينيات ، ليؤكد عابدين ما قاله لى السابقون اذن يوجد ذهب بل ارشدني الى احد الصاغة الذين يقومون بشراء ما يأتي من هناك قبل ان اغادره طلبت منه ان يخبرني عن مصدر معلوماته التى قالها لى الا انه اخبرني بانه ذهب الى هناك من اجل الشراء وتقصي الامر واضاف الآن فوجه بها كل ابناء السودان من الشمال والوسط والغرب كلهم يبحثون عن الذهب عند سفوح الجبال المترامية حول المنطقة وقراها المحيطة ، واضاف انهم يستخرجون الصخور والحجارة ويعبونها بالجوالات لطحنها واستخلاص الذهب ، لم اجلس كثيرا رغم شوقي الى جدران المكان وبحثي عن وجوه اخذها الموت ، لاخرج متوجها الى الصائغ طارق آدم حمودة اخبرني عنه عابدين فهو يعلم عن الامر بل در منه اموالا من قبل ، وصلت الى متجر حمودة بعد ان اخذني الى هناك احد الشباب من ابناء المنطقة المتجر مزدحم بالشباب على غير العادة فمرتادو محلات الذهب جلهم من النسوة او ما ظل متعارفاً عليه في هذه المدينة ، الا ان الامر الآن اختلف فهم شباب يبحثون عن المعلومات ليس لنشرها كما نعمل نحن الصحفيين لكن لتحقيق احلامهم وطموحاتهم ، ولجت الى المحل وعرفته بنفسي ليرد سريعا اذن هاهي الصحافة تريد ان تتحقق من ذهب فوجة اجبته بنعم ، وطلب مني الجلوس وبدأ فى سرد القصة الكاملة عن الذهب ليؤكد حمودة ان ما اكتشف بالمنطقة هو ذهب خالص لا خلاف حوله ، واخرج كرة صغيرة مصقولة من احد الادراج ليعضض افاداته قال انها تزن جراماً ونصفاً قبل ان يزيد فى الفترة الماضية قمت بشراء كيلو ونصف وارسلتها الى الخرطوم ، وفى رده عن طريقة الاستخلاص والبحث اخبرني حمودة ان البحث عن طريق الحفرة واخذ الحجار هو الاكثر نجاحا مشيرا الى ان جهاز الكشف لا يوصل الى نتيجه سريعه لان مداه 70 سنتمتر فقط والذهب بالمنطقة فى عمق مترين لكنه عاد وقال مع ذلك يعطي اشارة ، قبل ان اغادر متجر حمودة اخبرني احد الشباب بان الذهب هناك انعش السوق بالمنطقة وحرك سوق المدينة واضاف طلب الفول سعره الآن 5 جنيه بفوجه وزاد هناك صاغة قاموا بفتح مطاعم بالمنطقة نسبة للاعداد الوافدة، فشيخ الصاغة بالنهود عبدالله محمد محمود لم ينفِ ما جاء على لسان المواطنين وتجار الذهب الذين تحدثوا الى «الصحافة» لكنه اخبرنا ان الاوزان ليست كبيرة كما يتخيلها البعض وتتراوح مابين 50 الى 60 جرام بعد عمليات بحث شاقة ومضنية، مضيفا ان المنطقة هناك اصبحت تعج بالوافدين من كل انحاء السودان بحثا عن الذهب وقدر المتواجدين بحوالى ستة الف مواطن يحفرون الارض ويطحنون حجارته ويغسلونها ، واعتبر ان الامر حرك السوق بشكل مدهش للغاية ووفر فرص عمالة لعدد من الشباب، وقال الآن سوق المدينة خالي مقارنة بالايام الماضية فجل الشباب ذهبوا الى هناك كل واحد حمل فأسه وطوريته وقصد فوجه ، لافتا الى ان المنطقة كانت تعاني من الجفاف وقلة الامطار ولايوجد بها محصول الآن انتعشت بسبب الذهب والباحثين عنه . من جانبه قال ابراهيم عبدالسلام وهو طبيب بيطري ان ذهب فوجه انعش السوق فالذين يجدونه يقومون بتحويل السيولة الى شراء الماشية والادوية البيطرية لها واضاف ساخرا على صناديق الاقتراع ان تذهب الى هناك فى اشارة منه انهم لن يعودوا الى المدينة او مراكز الاقتراع عند الانتخابات . الصادق الناير وهو ميكانيكي سيارات بسوق النهود كان هناك قبل يومين وجدته يحمل حجرا ابيض به الوان تميل الى الاخضر قال انه حجر الذهب احضره معه من هناك بعد ان ذهب بحثا عن اموال تخصه من احد زبائنه مؤكدا ان السودان كله موجود هناك يعمل فى تناقم وجهد من أجل الذهب . حملنا كل هذه الافادات وتوجهنا بها صوب مكتب معتمد المحلية الشريف الفاضل ، طرحنا عليه ما عندنا من معلومات عن تواجد ذهب بمنطقة فوجه احدى الاداريات التى تتبع لمحليته تحدث الينا بشكل سريع بعد ان تلقى خبر مصرع ابن اخيه فى حادث مرورى بالابيض مؤكدا صحة المعلومات التى يتحدث عنها المواطنون واضاف الذهب الموجود بالمنطقة هو على سطح الارض وخارج قانون التنقيب لذا قمنا بتنظيم الامر مع الادارات الاهلية بالمناطق وتركنا المواطنين يبحثون عن رزقهم هناك بعد ان جفت السماء هذا العام . لن ننتهي بعد فهاهي المدينة تتحدث عن الذهب وتهتف باسم مرشحيها بتناغم عالي تنشد التغيير عبر الاقتراع فى الانتخابات القادمة وحفر الارض بحثا عن الذهب ، ونحن بدورنا نقوم الآن بربط الاحزمة قاصدين منطقة فوجه ليس من أجل الذهب لكن من أجل هموم صاحبة الجلالة ومهنة المتاعب .