نحن أمام فئتين، النخبة والسلطة، لا تسلم أيهما من الاتهام بأنها ذاتُ غواية، وأغراض، ولا يتوقف الحديث - فكرياً - عن أبعاد العلاقة بينهما، والنتيجة هي حلول المواطن في متاهة دائمة، وتيه متواصل لقد طال انتظار الشعب السوداني لأمل تحقيق حلمه بأن تتحول منظمات المجتمع المدني ومواد الدساتير وقواعد الحريات، إلى حقيقة على أرض واقعنا السوداني، مع ملاحظة أن المجتمع السوداني انقسم إلى عدة طبقات صاحبة الصوت العالي فيه النخبة الاقتصادية التي تتهم السلطة السياسية، بأنها تعرقل طموحاتها، وتُحجِّم مشروعاتها، وتقتل مستقبل التنمية الذي تحلم به تلك النخب، بينما ترى السلطة السياسية في الصفوة الاقتصادية مسامير نعشها، وتتهمها بمحاولة تقويض السلطة، والانقضاض على العروش، لخلق سلطة موازية، أو بديلة، وخلق دولة داخل الدولة، ودعم السلطات المضادة على الرغم من الاختلافات البارزة بين الدول المتقدمة، والبلدان الناهضة، والأقطار النامية، فإن هناك اتفاقا داخلها جميعا على توتر العلاقة بين النخب والسلطات الحاكمة. البعض يسميها أزمة، إذا كان هناك صراعٌ بينهما، والبعض الآخر يصفها بالتحالف المشكوك فيه، إذا كان هناك صلاح بينهما. وتبقى الأسئلة حائرة، بعد التوصيف، في كيفية الوصول إلى علاقة صحية، يستفيدُ منها المجتمعُ، وتنهض بها الأمة، ويرتاحُ إليها الشعب بفئاته، ونخبه، وسلطاته. أسئلة ساخنة تدور بأذهان وعقول كل أهل السودان والجميع مقدم على انتخابات مصيرها ربما يكون معروفاً أو مجهولاً، وأصبح ذلك غير مهم بل الأهم ماذا أعدت الأحزاب من خطط لتحديد مصير البلاد وتحقيق رفاهية المواطن، وهل الأحزاب التي حكمت والتي على السلطة الآن هل هنالك جديد في جعبتها، وإذا كان هنالك فكر جديد لماذا ظل ساكناً طيلة فترات الحكم؟ إن للنخب السودانية معانٍ كثيرة تجعل للنخبة وضعا مميزاً في مجتمعنا ولذلك نجد وسط مجتمعات الجيش هناك النخبة العسكرية، وفي قلب الميدان التجاري سنجد النخبة الاقتصادية، وهكذا. ويعترف البعضُ بأنه مصطلح يؤكد ضمنيا وجود أطراف أدنى، هي الجماهير العريضة، أو الأغلبية، مما دعا بعض المفكرين السياسيين إلى المناداة بإلغاء النخب! وواقعُ الأمر أن هذه النخب لا تستمد كيانها وحضورها إلا من تكريس أفكارها وسعيها من أجل تلك الجماهير. فالأغلبية هي التي تصنع نخبها الثقافية والثورية على حدِّ سواء. الجماهيرُ تختار مفكِّراً تلتف حوله، أو فناناً تصفق له، أو رياضياً تشجعه، مثلما تختار قائداً ملهماً تهتف باسمه، يمثل - ويكون ضمن - نخبتها السياسية. هذا الانتخابُ - في ظننا - هو مربطُ الفرس، لأن الحديث يجب ألا يقتصر على نخبة دون أخرى، بل يجب أن نراه شاملا لكل النخب، التي تؤدي أدوارها في الحياة السودانية، ليس في مجال السياسة وحده، وإنما في الفكر، والاقتصاد، والعلم، وكل مجالات الحياة. وإذا كان الكُتاب يمثلون نواة النخبة العامة للمثقفين، فإن العلماء في مجالاتهم، ورجال الأعمال الوطنيين في أسواقهم، بل وصفوة الرياضيين في مضمارهم، يُنظر إليهم على أنهم القوى المحرِّكة الحقيقة للمجتمع. لذلك يعوَّل عليهم الكثير في الإصلاح، والممارسة السياسية الحقة، ومن ثم توجهت أنظار بعض الساسة إليهم وخاصة الحزب الحاكم علماً بأن النخب الاقتصادية هي التي تأتى بحكام السودان دون النظر لفكر الحزب أو توجهه، مستفيدة مما لديها من مال إضافة لفقر الطبقة العامة، وبالتالي تصبح عملية الانتخاب مرهونة بالكم وليس الكيف، وهذا تعانى منه كل الأحزاب السودانية، خاصة تلك التي عرفت تغييرات في قمة السلطة ونظام الحكم، إذ وجدت تلك الحكومات معاناة من آثار تدخل الحكام وسياسات التأميم، التي عمت مختلف المؤسسات والمرافق الاقتصادية؛ وليس من الممكن استثناء الحزب الحاكم من شمولية هذا الواقع، لأن السلطة السياسية الآن لا تشكك في النخبة الاقتصادية، ولا تتهمها بمحاولة تقويض السلطة، والانقضاض على سلطتها عن طريق اقتصادي، لخلق سلطة موازية، أو بديلة، وخلق دولة داخل الدولة، ودعم السلطات المضادة، إلى آخر تلك الاتهامات الجاهزة بأيدي القائمين على السلطات. والسبب هو إن السلطة الحاكمة والنخبة الاقتصادية الآن في السودان هما جسم واحد وفكر واحد يكمل كل منهما الآخر. والسؤال الذي يطرح نفسه ويحتاج لرأي الحكام هل ما يقال عن النخبة الاقتصادية يمكن أن ينسحب على باقي النخب الثقافية والفكرية والعلمية؟ وبينما تتهم السلطة النخب، فإن تلك الأخيرة تجد كثيرًا من النواقص التي تهدد شرعية السلطة، وبالتالي تهدد فرص التعامل المتوازن معها. تلك الشرعية الملتبسة للسلطة هي التي تجعل من مناصرتها تهديداً للمواطنين أنفسهم، ويصل البعض إلى سلب السلطات أية مشروعية في الحكم، فالعلاقة القائمة على الإخضاع بالقوة، تعد سيطرة لا سُلطة، والسيطرة لا تتحول إلى سلطة إلا حين تكف الفئة الحاكمة عن التنكيل بمعارضيها، وتكتسب شرعية القبول والاعتراف من المحكومين أنفسهم وليس من المجتمع الدولي، فالحاكم الضعيف الشرعية، والمتمسكُ بالحكم، يشعر بالخوف والقلق، لكنه يفعل ما يستطيع لكبت هذا الشعور وإخفائه مكتفياً باستراتيجية دفاعية، أو منتقلا من الدفاع إلى الهجوم.. فما يقومُ به ليس إخلالا بالأمن، إنما هو لمنع الإخلال بالأمن، وما يسميه الخصومُ إرهاباً، ليس سوى سهر دائم على أمن الدولة والمجتمع، وما يسميه الأعداءُ تنكيلا، ليس سوى ردٍّ على المؤامرة والمتآمرين.. فالحقيقة الغائبة في دهاليز السلطة هي التي تدفع إلى ذلك الشك الدَّائم فيها، بل والطعن بشرعيتها، وما سيق في إطار اتهام السلطة باللا شرعية، وبين كل هذه النخب ظل المواطن يعاني من كارثة ما يسمى بالانفتاح الاقتصادي. وهو في حقيقته كان انفتاحاً لأبواب الاستهلاك العبثي بلا نظرة منهجية، دفعت الطبقة الاقتصادية تذهب إلى سبيلها المعروف: إما مشاريع عقارية تفاخرية عملاقة، أو تكديس للأموال في بنوكٍ أجنبية.. إذن نحن أمام فئتين النخبة والسلطة، والنتيجة هي حلول المواطن في متاهة دائمة، وتيه متواصل. إننا نعيش أزمة ثقة، يعبِّر عنها بجلاء ما وصلنا إليه في كل مجال، حيث إننا نتذيل قائمة كل شيءٍ يمت لمقومات النهضة. فلانزال نستورد أكثر مما ننتج، ونستهلك أكثر مما نزرع، ونترجم أقل مما نحتاج إليه، ونبني مؤسسات علمية أدنى مما نحلم به، وليبقى السؤال: أين يكمن الخلاص؟ إن الخلاص نجده في السعي لتلبية حاجات اليوم، ونحن - اليوم وغداً وبعد غدٍ - بتنا بحاجة إلى سلطة ديمقراطية، تمارس دورها بشكل ديمقراطي، وتسعد بالتغيير وتستعد له على نحو ديمقراطي. ديمقراطية تتيح للنخب أن تسأل، بحرية ودون أن تتهم بالخيانة - بالسؤال والانتقاد والتقويم - ليس حقا بقدر ما هو مسؤولية يجب علينا أن نمارسَها. لقد ساهم الشعب السوداني، بأرواحه ودمائه وقوته في تحرير وطنه من الاستعمار، ووضع السودانيون آمالهم على السلطة الوطنية لتجعل مستقبل البلاد مشرقا وحرا. ولن يتحقق ذلك إلا بالسماح للشعب بممارسة حرياته، وأن يمتلك المجتمع المدني مقومات مولده ونموه وازدهاره وبقائه، وأن تستقل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، فتسود دولة القانون، وتسيطر قواعد الحقوق العامة، أي - اختصاراً وإجمالاً - أن نعيش مجتمعاً ديمقراطياً حقيقياً، وليس مجرد شعارات، تتردد في الهواء، وتتكرر في نشرات الأنباء. وإذا آمنا بأن الديمقراطية هي الحل الأوحد للعلاقة المتأزمة - منذ زمن طويل - بين السلطة والنخبة، ومدخل لحل المعضلات التي تنوء بها بلادنا، نأتي لسؤال أهم يناقش كيفية وآليات إدخال الديمقراطية للبلاد، حتى لا نكون كمن يرى الشمس ساطعة فيغلق عينيه وينكر وجودها.